أحمد تمام
الشيخ أحمد رضا
في الوقت الذي كانت تنعم فيه مصر في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري بحركة فكرية شاملة، كانت لبنان هي الأخرى تشهد بعثا حضاريا وازدهارًا فكريا، ورغبة جامحة في التجديد، ووصل بالقديم، ودعوة جادة إلى إحياء التراث العربي، ودراسة آثاره وكنوزه، وكان من نصيب لبنان أن تشارك في حركة الإحياء بعدد من الأعلام والمفكرين، بعثوا في الحياة الثقافية روحًا جديدة وثّابة.
ويأتي في مقدمة هؤلاء الأعلام والمفكرين الشيخ “ناصيف اليازجي” الذي أحيا البيان العربي الرصين، وقرّب علوم اللغة إلى شُدَاة الدارسين وكان حجة في اللغة والأدب، وشاركه في قوة “أحمد فارس الشدياق” صاحب جريدة “الجوائب” والمؤلفات القيمة، لعل من أشهرها “الجاسوس على القاموس” سجّل فيه انتقاداته ومآخذه على معجم “الفيروز آبادي” المعروف بالقاموس المحيط.
وأسهم أيضا في هذه النهضة “بطرس البستاني” في اتجاهات متعددة، لعل أبرزها وضعه معجم “محيط المحيط” في مجلدين، ثم اختصره في “قطر المحيط”، وكان بذلك من رواد صناعة المعاجم في العصر الحديث، وكان له سبق في وضع أول دائرة معارف عربية مرتبة على حروف المعجم، ولكنها لم تكتمل.
وفي جنوب لبنان حيث منطقة “جبل عامل” كانت تُجرى محاولات لإنشاء مدارس على النظم الحديثة، كُتب لبعضها النجاح، وفي الوقت نفسه ظلت المدارس العاملية الشيعية تقوم بدورها في التعليم والتثقيف، وكانت تدرس النحو والبلاغة والأصول والفقه والحديث، وتخرّج فيها عدد من علماء جبل عامل.
مولد العاملي ونشأته
استقبلت بلدة النبطية بجبل عامل مولودها النابه أحمد رضا العاملي في (26 من ربيع الأول 1865هـ= 4 من يونيو 1472م) واحتضنته أسرة من كرائم أسر النبطية؛ فأبوه كان معروفا بالصدق والأمانة وصلاح الرأي، وأمه كانت معروفة بالصلاح والإحسان، فتعهدا ابنهما بالتربية والتعليم، وألحقاه بكتاب البلدة حيث حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، غير أن نجابة الطفل الصغير ونباهته شجّعتا والده على إرساله في سنة (1298هـ 1880م) إلى إحدى القرى المجاورة لاستكمال تعليمه مع قلة من أبناء بلدته، حيث تلقى النحو والصرف على يد أحد علمائها، ثم عاد إلى النبطية حيث افتتحت مدرسة جديدة فالتحق بها وتعلم مبادئ الحساب والجغرافيا.
وبعد وفاة والده سنة (1302هـ = 1884م) انقطع عن مواصلة دراسته، ولكن ذلك لم يدم طويلا إذ نزل ببلدته السيد “محمد إبراهيم” من علماء الشيعة المعروفين، فلزمه التلميذ النابه، وقرأ عليه فيما قرأ “شرح التلخيص” في البيان للسعد التفتازاني، ورسائل ابن سينا في الطبيعة، ودرس عليه الأدب العربي، ولم تشغله هذه الدراسة المنتظمة عن الانكباب في مطالعة كتب الأدب والتاريخ.
ثم التزم الشيخ “حسن يوسف مكي” حين قدم النبطية، وأنشأ بها المدرسة الحميدية، والتحق بها طالبًا ومعلمًا، فكان يدرس على الشيخ الفقه الشيعي وأصوله، وفي الوقت نفسه يدرّس المنطق والبيان ومبادئ علم الأصول لمن يرغب من التلاميذ، وكان من تلاميذه -وهو في هذه السن الصغيرة- عدد من أعلام لبنان، مثل: “أحمد عارف الزين”، والشاعر “حسن حوماني”، والقاضي “أسد الله صفا”.
ميله إلى الإصلاح
بدت بوادر الإصلاح والرغبة في العمل العام وخدمة المجتمع عند أحمد رضا العاملي في وقت مبكر من حياته، وفي أثناء طلبه للعلم؛ فما من جمعية أو مؤسسة تهدف في جبل عامل إلى نشر العلم والثقافة وتحسين الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية إلا كان له الصدارة فيها، فلا يكاد يبغ السابعة عشرة من عمره حتى يختاره أعيان “النبطية” عضوًا في لجنة المعارف، وخازنًا لأموالها، ويشترك في سنة (1320هـ = 1902م) مع بعض زملائه في إنشاء ندوة علميه في النبطية سُيمت باسم “المحفل العلمي العاملي”، وكان أعضاؤها يحاضرون فيه شهريا، وتسجل محاضراتهم في سجل خاص يسمى “طلائع النجاح”، غير أن هذا السجل قد فُقد في الغالب، ولم يعثر له على أثر.
ثم يؤلف مع زملائه “الجمعية الخيرية العاملية”؛ لتأليف القلوب وتقوية أواصر المودة بين طوائف البلاد العاملية، وذلك في سنة (1336 هـ = 1917م) يتلوها بإنشاء جمعية أخرى عُرفت باسم جمعية “العلماء العامليين”، وقام هو على ماليتها، وكان من ثمار هذه الجمعية ظهور مشروع “الكلية العاملية”.
وبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1333هـ – 1337= 1914-1918م) ووقوع لبنان تحت الاحتلال الفرنسي، واصل أحمد رضا جهاده ضد المحتل ورفضه، واشتراك في مؤتمر “الحُجَير” الذي عُقد في جبل عامل في (5 من شعبان 1338هـ = 24 من إبريل 1920م)، وقرر المؤتمر فيه بالإجماع الانضمام للوحدة السورية، والمناداة بـ “فيصل الحسيني” ملكًا على سوريا، ورفض الدخول تحت حماية وانتداب فرنسا.
معجم “متن اللغة”
نموذج من خط الشيخ أحمد رضا العاملي
عرف الشيخ أحمد رضا بتمكنه في اللغة ومعرفته بأسرارها، وقدرته على البحث والدرس، فاختاره المجمع العلمي العربي بدمشق عضوًا به في سنة (1339هـ = 1920م)، وبعد عشر سنوات من اختياره، كلّفه المجمع العلمي بوضع معجم يجمع متن اللغة باختصار، ويضم إليه ما استحدثه مجمعا: مصر ودمشق من الألفاظ والمصطلحات الجديدة.
وجاء اختيار المجمع موفقا؛ فالشيخ بارع في اللغة، بصير بدقائقها، خبير بأسرارها، مع صبر في البحث والتنقيب، ودقة في الجمع والتمحيص، وأنفق العاملي ثماني عشرة سنة قضاها الشيخ الجليل بين بطون الكتب وأمهات المعاجم، ومطولات اللغة حتى خرج بكتابه “متن اللغة”، محققًا أمنية المجمع، غير أن القدر لم يمهله حتى يرى معجمه الذي انتهى منه في عام (1368هـ = 1948م) مطبوعا؛ إذ لم ينشر إلا بعد وفاته في خمسة مجلدات كبيرة.
وقد استهل المؤلف كتابه بمقدمة عن نشأة اللغات عامة، واختص منها العربية، فتناول نشأتها وتطورها، ثم رتب مادة معجمه على أصل المادة المجرّدة كما هو الحال في سائر المعاجم القديمة والحديثة، والتزم الترتيب الألفبائي، وحرص المؤلف على اختيار أفضل ما اتفق عليه علماء اللغة قبله من شروح عند تفسير الألفاظ، وتمسك بما وضعه مجمعا اللغة العربية في دمشق والقاهرة من ألفاظ ومسميات لأشياء حديثة.
وبعد أن أتمّ هذا العمل الشاق قام بوضع مختصرين له، هما: المعجم الوسيط، والمعجم الوجيز للمبتدئين من الطلاب، غير أن هذين العملين لا يزالان مخطوطَين، ولم يريا النور بعدُ.
جهوده اللغوية الأخرى
حرص أحمد رضا العاملي على تقريب العامية من الفصحى، بردّ كثير من الألفاظ التي تستعملها العامة وتأنف الخاصة منها إلى أصلها الفصيح، وكانت المهمة شاقة، تهيّب منها الشيخ في بادئ الأمر، لكن الحاجة دعت إليها، فوضع معجمًا لما يزيد عن 1600 كلمة يتحدثها عامة الناس في الشام، ورتبها ألفبائيا، وأرجعها إلى أصل عربي فصيح، وقرن أكثرها بأشعار عربية أو استشهادات لغوية موثَّقة، وقد طُبع هذا الكتاب “رد العامي إلى الفصيح” سنة (1871هـ = 1952م).
ثم استكمل جهده الرائع بوضع أسماء جديدة لمعان مستحدثة، وفق شروط وضوابط لغوية، وذلك في كتابه “التذكرة في الأسماء المنتخبة للمعاني المستحدثة”، غير أن هذا الكتاب لا يزال مخطوطا لم تمتد إليه يد الطباعة والنشر.
ولم يكن التأليف اللغوي يستغرق نشاطه كله، بل كانت له مؤلفات أخرى منها:
– العراقيات، وهي مختارات من الشعر العراقي، اشترك في جمعه مع الشيخين “سليمان ظاهر” و”عارف الدين”، وطبع الكتاب في مطبعة العرفان سنة (1326هـ= 1908م) بصيدا.
– رسالة في الخط، وطبعت في مطبعة العرفان سنة (1333= 1914م) بصيدا .
– الدروس الفقهية في مذهب الشيعة الإمامية، وهو كتيب صغير لطلاب المرحلتين الابتدائية، وطُبع بعد وفاته في مطبعة العرفان سنة (1381هـ = 1957م) بصيدا
– هداية المتعلمين إلى ما يجب في الدين، وهو للناشئة كسابقه، وطُبع معه في السنة نفسها.
وإلى جانب ذلك كان لـ أحمد رضا أكثر من 150 مقالة في اللغة والدين والتاريخ، نشرتها له مختلف المجلات العربية، مثل: مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ومجلة المقتطف المصرية، ومجلتي: المقتبس، والعرفان اللبنانيتين.
وفاة الشيخ أحمد رضا
فُجع الشيخ الجليل باحتلال اليهود لأجزاء غالية من فلسطين، أعقبه وفاة ابنه الأكبر، وأقعده الحزن والألم عن العمل أكثر من سنتين، حتى إذا أقبل صيف عام 1953م واحتدمت في بلدته النبطية المعارك الانتخابية، أصيب الشيخ بحَجَر في رأسه من جرّاء عراك المتنافسين، فوقع مصابًا، ثم تُوفي بعدها متأثرًا بجراحه في (3 من ذي القعدة 1371هـ= 4 من يوليو 1953م).
من مصادر الدراسة:
- أغا بزرك الطهراني – طبقات أعيان الشيعة – النجف – 1373هـ = 1954م.
- خير الدين الزركلي- الأعلام – دار العلم للملايين – بيروت – 1986م.
- فايز ترحيني – الشيخ أحمد رضا والفكر العاملي – دار الآفاق الجديدة – بيروت – 1403هـ = 1983م.
- يوسف سعد داغر – مصادر الدراسة الأدبية – بيروت – 1950- 1956م.