“طور أنفك لتواكب تطورات العصر”.. لا تنزعج إذا وجدت هذه الجملة في وقت قريب تعلن عن الأنوف الإلكترونية التي بدأت تفسح لنفسها مجالاً مع بدايات القرن الحادي والعشرين، فيبدو أن العلماء يبحثون عن تقنيات جديدة لتحسين أداء حواسنا؛ لتواكب التقدم العلمي الموجود على حد تعبيرهم، فوجدوا دورا هاما للأنف في عالم التكنولوجيا والطب حتى إن الباحثين في معامل سانديا الدولية بأمريكا طوروا جهازاً للشم يثبت على اليد، هذا الجهاز يستطيع أن يكتشف البيئة من حوله، وينبهك إلى الأخطار، وذلك بتحليل مكونات الجو كيميائيا عن طريق الشم.. ويظهر خلال دقيقة واحدة اسم وكمية المكونات الموجودة على شاشة كمبيوترية صغيرة.
لم تلق حاسة الشم هذا الاهتمام إلا حديثا والأبحاث التي أجريت عليها هي الأقل حتى الآن مقارنة بالحواس الأخرى.
بصمة الرائحة
بداية.. عندما نتححدث عن الأنف في عالم التكنولوجيا والطب نقول: هل تشعر بأهمية أنفك؟ يبدو الجواب بلا.. فالواقع أننا لا نشعر بأهمية هذه الحاسة المهمة كما ينبغي.. فأنت تختبر الهواء من حولك عن طريق أنفك فتشم رائحة الدخان مثلاً لتعرف أن هناك حريقا .. كما أنك تميز بين البرتقال والسمك بواسطة حاسة الشم.والجديد أن أنفك قد تجعلك تتفاعل مع الآخرين أو تتنافر .. بما يسمى ” رابطة الرائحة أو “olfactory bond ” التي تتم في اللاوعي خلال ثوان من مقابلة الآخرين، ولك أن تعرف أيضاً أن رائحتك المميزة تشبه” البصمة” والتي في طريقها أن تحتل مكانها بين البصمات المعروفة كبصمة الأصابع والجينات حيث توضع الآن أنوف إلكترونية على بعض الأبواب لتتعرف على رائحتك وتمنع دخولك إذا لم تكن رائحتك مبرمجة في ذاكرتها.
في مسألة الأنف في عالم التكنولوجيا والطب نجد أن الكلاب البوليسية مثلا تستطيع التمييز بين رائحة الأشخاص حتى التوائم غير المتماثلة (التوائم المتماثلة لها نفس الرائحة) كما أنها تشم مشاعر الخوف عندك، وقد وُجدت هذه الخاصية في الحصان أيضاً، أما تتذكر النصيحة الدائمة وهي ألا تعدو أمام كلب؛ لأنه سيهجم عليك إذا أحس بخوفك… فتشعر ساعتها أنك تزداد خوفا؟ .
تعرف على حاسة الشم
الشم والتذوق حاستان من الحواس الكيميائية، إلا أن الشم أكثر حساسية من التذوق بما يعادل 10000 مرة (عشرة آلاف مرة) وهي حاسة بدائية تقع في عمق الجهاز الهامشي للدماغ Limbic system ، وهو المسئول عن الجوع، والعطش، والمشاعر والتفاعلات الجنسية، والأنف يميز الروائح عن طريق خلايا متخصصة تعمل بدور المستقبلات Receptors يقدر عددها في الإنسان بعشرة ملايين (تزيد في الفئران والقطط) ، وتمتلك هذه المستقبلات انتفاخا في أطرافهاKnob ، يخرج منه 8 إلى 20 من الأهداب غير المتحركة وهذا هو المكان الفعال في هذه المستقبلات.. وتستطيع التمييز بين أكثر من 10 آلاف رائحة مختلفة تنضج هذه المستقبلات في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل، وتتفاعل مع الإشارات الكيمائية والتي لا بد أن تحمل خصائص معينة حتى تكون قابلة للشم؛ فمثلا لا بد أن تكون جزيئات الرائحة صغيرة بما يكفيها؛ لتكون متبخرة (بكتلة جزيء أقل من 300 – 400 ) فتصل إلى الأنف، وتذوب في المخاط، وتلتقط الإشارات، قبلما تتأثر أي من حواسك الأخرى.تتطور حاسة الشم بعد خمسين ساعة من الولادة، ولكن الطفل لا يستطيع أن يفرق بين الرائحة الجيدة أو الرديئة .. وهو ما يدل على أن هذا الأمر يأتي بالتعلم والتجربة .. كما أنه يستطيع أن يميز رائحة أمه بدقة كبيرة .. ففي تجربة طريفة أجريت على ثلاثين طفلاً .. مسحت الأم إحدى حلمتيها ونظفتها بينما تركت الأخرى كما هي تحمل رائحتها .. ووضع الطفل بين ثدييها .. فكانت النتيجة هي اتجاه 22 منهم إلى الحلمة التي لم تنظف مما يدل على أن رائحة أمه مميزة بالنسبة إليه.
ذاكرة الشم Sell memory
الإنسان يتذكر بالشم بصورة أدق بكثير من أحداث مرئية.. ويبدو أن هناك علاقة وثيقة بين الشم والذاكرة لم تفهم بعد من قبل العلماء.. فببساطة أنت لا تستطيع أن تشم إلا إذا استدعيت تلك الرائحة في ذاكرتك أولا.. أو بكلمات أخرى فإن ذاكرتك تنشط بالرائحة.. وهي ظاهرة تسمى بتأثير بروست على اسم العالم المكتشف.وسرعان ما ظهر ما يسمى العلاج بذاكرة الشم.. فقد حقنت مجموعة من المتطوعين الذكور بحقن الأنسولين لمدة أربعة أيام بمصاحبة رائحة بعينها.. كان معدل جلوكوز الدم يقل في كل مرة، في اليوم الخامس لم يُحقن المتطوعون بالأنسولين، ولكنهم تعرضوا إلى الرائحة ذاتها فنزل معدل الجلوكوز أيضا.. وهو ما يدل على أن الرائحة قد تنشّط علاجا بعينه لبعض المرضى، وتقلل من جرعاته التي قد تسبب آثارا جانبية.ستتعرف أكثر على أنفك إذا سـألت إنسانا يعاني من فقدان حاسة الشم Anosmia هذه الحالة التي قد يولد بها الإنسان أو تسببها إصابة دماغية أو التهاب فيروسي كنزلة برد حادة والتي عادة ما تكون مؤقتة.
الرائحة تحدد مزاجك
أما أحدث صيحات دراسات الشم فهي ما تقوم به شركات العطور والزيوت المتخصصة، والتي تقرر أن الرائحة تؤثر على المزاج، والمشاعر، والتزاوج، والجهاز المناعي والهرموني فضلا عن الذاكرة كما ذكرنا، ففي بعض المحلات ترش الروائح المميزة للإبقاء على الزوار لأكبر فترة ممكنة، بل وترش رائحة النقد لتحفيز العاملين على مضاعفة جهودهم في اليابان، ووجد أن التلاميذ الذين يشمون روائح كريهة في فصولهم يكونون أكثر ميلا للعنف، وقد توصل العالم Penise chen إلى أن رائحة عرق الإبط تتحكم في مزاج الآخرين؛ حيث إن هناك إشارات كيميائية تفرز مع العرق تتصل بالمشاعر.. والأبحاث الآن تبدأ مرحلة جديدة في الاتساع.واحدة من هذه الأبحاث الجديدة درست تأثير الرائحة على واحدة من الأمواج الدماغية المسماة بـ alpha wave (يعادل تذبذبها 8- 12 موجة في الدقيقة) والتي يعني نشاطها علامة الاسترخاء، حيث استخدم نبات الإيلنج والروزماري كأقنعة على الوجه، وتم قياس نشاط هذه الأمواج؛ فتبين أنه يقل مع نبات الروزماري وهو ما يعني أنه نبات منبه، كما أنها زادت مع نبات الإيلنج وهو ما يعني أنه نبات مهدئ، كل هذه التجارب تمت تحت فرع جديد من الطب يسمى بطب الروائح Aromatherapy.
ماذا تعرف عن طب الروائح؟
ظهر هذا النوع من التداوي منذ ما يقرب من 5 آلاف سنة على يد الإنسان الذي استفاد استفادة كاملة من البيئة من حوله، واستخدمها لطعامه وشرابه وعلاجه.أول من استخدمه كان المصري القديم؛ حيث استخرج الزيوت من النباتات العطرية وأدخلها في العلاج، والتزين، والتحنيط، وأخذها عنهم اليونانيون ثم الرومان الذين أنشئوا طرقاً للتجارة بينهم وبين مصر والهند.. وبانهيار الإمبراطورية الرومانية اختفى هذا النوع من الطب في العصور المظلمة، ويعتقد المؤرخون أنه ظهر من جديد على يد الحكيم ابن سينا Avicenna ، واستطاع أطباء الحضارة الإسلامية تطوير طريقة تسمى بالتقطيرdistallation.. التي ازدهر تدريسها في الجامعات وانتقلت إلى أوروبا.
بدأت الأبحاث على تأثير روائح هذه الزيوت تتسع في القرن التاسع عشر في أوروبا وإنجلترا.. حتى نشر العالم الفرنسي Rene كتابا في عام 1937عن تأثير الزيوت كمضادات للميكروبات، وظهرت ساعتها كلمة طب الروائح أو Aromatherapy.ويتم استخدام هذه الزيوت بطرق متنوعة، فإما أن يتم وضعها في مبخرات أو تستنشق كحمامات بخار في الاستحمام أو عن طريق وضعها كأقنعة للوجه.. كما أن استخدامها بالتدليك يعتبر أفضل الطرق وأكثرها تأثيرا..فتستطيع مثلا أن تشم ثلاث نقاط من نبات الأوكالبتوس كوصفة للبرد عن طريق حمام البخار، ويستطيع جلدك من خلال التدليك امتصاص زيت اللوز الغني بفيتامين ج، والمفيد في سقوط الشعر والجلد الجاف..
بل إن نقطتين من كل من نبات البابونج، واللافندر وزيت زهر البرتقال قد تجعلك تخلد إلى نوم عميق. وهكذا ظهرت وصفات لا حصر لها، وظهر لكل زيت مزاياه، والتي أُثبت بشكل قاطع إفادتها الفعالة، فزيوت الورد تعالج أمراض الصدر والأرق وتقلصات الدورة الشهرية عند النساء.. كما أن زيوت اللافندر تعالج الاكتئاب وقرص الحشرات والصداع.. وزيوت الياسمين تزيد من تقلصات الولادة وتعالج حالات أخرى من الاكتئاب.والآن هل للأنف الصناعي نفس الدور الفعال في علاج آلام الإنسان، وفي إدخال البهجة إلى قلبه، أم أنه لا شيء يضاهي الأنف الطبيعي؟