إن ظهور سلاح المدفعية واستخدامات البارود قد ترافق في أوروبا مع بداية انتهاء عصر جيوش العصور الوسطى التي اعتمدت على قواعد النظام الإقطاعي، وقيام جيوش جديدة في تسليحها وفي أنظمتها، لقد صارت صناعة الحرب في أوروبا الغربية حرفة وعلمًا، ولم تَعُد هواية، وكان من نتائج ذلك تصنيف بعض الكتب في الحرب، لكن لم يتم وقف أي من هذه الكتب على موضوع المدافع. فما هو يا ترى أول كتاب في المدفعية؟
هذا الأمر الذي لم يحصل في أوروبا، وتم إنجازه في المغرب العربي من قبل أحد الأندلسيين واسمه “إبراهيم بن أحمد غانم بن محمد بن زكريا”، فقد أقدم إبراهيم هذا على تصنيف كتاب كبير باسم “العز والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع”(i). وهو أول كتاب في المدفعية.
ولقد تحدث إبراهيم في مطلع كتابه عن حياته، ثم بين حوافزه إلى تأليفه فذكر أنه ولد في قرية من قرى غرناطة بعد سقوط مملكتها العربية، وقد جاءت ولادته ربما في الربع الأخير من القرن الخامس عشر، وذكر أنه ظل يعيش في منطقة غرناطة حتى أصدر ملك أسبانيا أوامره بنفي المسلمين الأندلسيين من غرناطة ومملكتها وتوزيعهم على الأراضي الأسبانية، ويبدو أن هذا قد حدث سنة 1583م، ونتيجة لهذه الأوامر توجه برفقة أسرته إلى مدينة أشبيلية، وفي أشبيلية استهوته حياة البحار والملاحة، واهتم أثناء خدمته في الأسطول الأسباني بالبارود والمدافع اهتمامًا كبيرًا، وصار يلازم رجال المدفعية من الاختصاصيين بالبارود ويحفظ بعض المعلومات وخلاصة المناقشات التي كانت تدور أمامه، وبعد هذا كان يقوم بتطبيق ما حصله على الأسلحة ذاتها، ويستخلص من حديثه أنه كان يُجْري بعض التعديلات ويقوم بتطوير معارفه اعتمادًا على إبداعه وعبقريته الذاتية.
وأثناء خدمته في الأسطول الأسباني كانت محاكم التفتيش الصليبية نشطة جدًّا في ملاحقة الأندلسيين، مما اضطره إلى الهروب من أسبانيا إلى تونس التي قضى فيها مالا يقل عن أربعة عشر عامًا، في خدمة داي تونس ترسخت خلالها معارفه العسكرية.
سبب تأليفه هذا المخطوط
في نهاية حياته أخذ يقارن بين أوضاع الجيوش الأوروبية والجيوش في بلدان شمال أفريقيا، فساءه تدنِّي مستويات المعارف الحربية والتدريبات والتمسك بالأنظمة، وآلمه جهل جنود الداي وسواهم بفنون المدفعية وأسلحة البارود، فقرر إيجاد علاج لكل ذلك، ولنسمعه يتحدث لنا بقوله: “وفيها (قلعة حلق الوادي) أكملت معرفة آلات المدافع بالاشتغال بيدي فيها، وبالقراءة في كتب الفن بالأعجمية، ولما رأيت الطائفة المسماة بالمدافعيين المرتبين لا معرفة لهم بالعمل، وأنهم لا يعمرون ولا يرون بما يقتضيه العمل عزمت على تصنيف هذا الكتاب؛ لأن كل مدفع له قيمة مال وتعب في إيجاده، ثم يوكل على تسخيره والرمي به من يكسره ويفنيه في الرمية الأولى، أو في الرمية الثانية والموكل عليه الذي يعمره ويرميه قريبًا من الهلاك، فحملني على تصنيفه النصح له، ولمن وكله عليه. نسأل الله أن يقبل النية، إنها أبلغ من العمل،… ونذكر فيه ما يحصل النفع من وجوه، وللمدافعيين القائمين بما وجب عليهم من الحقوق فيما تصدروا إليه وتكلفوا به من خدمة أمراء المسلمين، ويحصل لهم الأجر عند الله سبحانه بتفريج المسلمين بإتقان أعمالهم وتخويف أعدائهم الكافرين”.
ويبدو وكما يذكر الدكتور سهيل زكار من سياق حديثه أنه شرع في تصنيف كتابه هذا سنة 1631م، أي منذ 362 سنة خلت، وهو حين صنَّف كتابه هذا كان أول من نعرفه عالميًّا يصنف كتابًا يَقِفُه كله للحديث على المدافع والبارود.
محتويات الكتاب
جاء ترتيب أول كتاب في المدفعية ترتيبًا أندلسيًّا، وذلك بافتتاحه بثبتٍ فيه محتوياته، وهذه الطريقة المعتمدة الآن في أوروبا والمعتبرة طريقة علمية، تعلمها الأوروبيون من مسلمي الأندلس وعنهم نقلوها، وعقب ثبت المحتويات التي تُدعى عند الأندلسيين باسم “برنامج الكتاب” ساق المؤلف مقدمة الكتاب، وحوت المقدمة حديثًا معرفًا بحياة المؤلف عبر مراحلها حتى تاريخ إنجازه لكتابه، وبعد ما فرغ من التعريف بنفسه أخذ يتحدث عن أهمية الأسلحة النارية وتاريخ استعمالاتها وركز حديثه على البارود والمدفعية، ثم بدأ بعد ذلك بسرد مواد الكتاب بابًا تلو الآخر إلى النهاية، ولقد ساق المصنف مواد كتابه ضمن خمسين بابًا.
أهم أبواب الكتاب
جاءت محتويات الباب الأول عامة وهي لها قيمة وثائقية عالية، ففي البداية بَيَّن “أن صناعة الحرب هي من أشرف الصنائع وأعلاها وأحسنها.. إلخ. ومن خلال حديث المؤلف بعد ذلك عن استخدامات المدافع نلاحظ أن المدفع قد حل في بداية استخدامه محل المنجنيق، والبارود قوة قاذفة لكتل كبيرة من الحجارة أو المعادن، وليست هنا مادة مفجِّرة أو خارقة، فالتهديم يتم بفعل الصدمة وليس بغير ذلك. وعلى الرغم من هذا نلاحظ نوعًا من التطوير يجعل الكتلة المقذوفة تقوم بوظيفة مزدوجة تصدم وتحرق، أو تفجر في نفس الوقت.
وفي الباب الثاني من أول كتاب في المدفعية نراه يتحدث حديثًا أكثر تخصيصًا وأقل عمومية، فتناول مسألة صنع المدافع البرونزية، ثم أوضح أن مهمة رجل المدفعية الأولى إصابة الأهداف. وأوضح أن أنواع المدافع اثنان وثلاثون نوعًا، وأن على العامل بسلاح المدفعية أن يتقن جميع المسائل بأخذ المقاييس وتقدير مسافات الأهداف وأنواعها، ذلك أن ما تُرْمَى به الأسوار هو غير ما يحتاج إليه ضد السفن أو أبواب القلاع. وختم هذا الباب بالتذكير من جديد بأهمية المدافع وذلك بقوله: “واعلم أن صناعة الحرب البارودية هي الآن أفضل من جميع الأسلحة الموجودة الآن للحروب التي هي يخاف الناس منها أكثر من غيرها”. وتحدث في الباب الثالث عن أنواع المدافع وعددها اثنان وثلاثون، وقد وقف المؤلف الأبواب 33،34،35،36،37 على “معرفة البارود” وتركيبه واستخراج مواده الأولية، وفحصه واختبار جودته وإصلاحه بعد فساده وألح على أن “معرفة البارود هي من آكد الأشياء للمدافعي؛ لأنه به يكون العمل.. إلخ”.
وتعتبر محتويات البابين “الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين” من أهم وأخطر ما جاء في الكتاب، ففيهما دلالة على تحول نوعي في استخدام قذائف المدفعية بصنع قذائف تنفجر فتُسبِّب القتل والحرق أو للإضاءة في القتال الليلي، وبإبداع أنواع من القذائف تُرمَى بواسطة اليد، وأثناء حديث المؤلف عن جميع هذه الأنواع وتبيان كيفية صنعها وتركيب حشواتها لم يَفُتْه الحديث عن “النيران التي تُرْمَى في أيام الفرح والمواسم التي تصعد في الهواء”.
وإذا كان كل ما ذكره المؤلف حتى الآن هو – أصلاً – وسائل للقتال الهجومي، فإننا نجده لا ينسى وسائل الدفاع والتمويه، وهذا ما تحدث عنه في الباب “الحادي والأربعين” والحديث هنا له صفة هندسية طغت على بقية أبواب الكتاب، هذا الكتاب الرائع لا يوجد له نظير في قدمه ومحتواه في أية لغة أخرى، وهو دليل عملي على أن أمتنا كانت سباقة في كل الميادين.
في وسط العالم الإسلامي
لعل أهم دولتين سيطرتا على قلب العالم الإسلامي، وكان لهما الريادة والقيادة في هذه الأمة طيلة قرون طويلة هما دولتا المماليك والعثمانيين، وسنبدأ بدولة المماليك. فقد ذكر القلقشندي في كتابه صبح الأعشى تعريفًا دقيقًا لمكاحل البارود (المدافع) قال فيه: “ومنها مكاحل البارود وهي المدافع التي يرمى عنها بالنفط، وحالها مختلف، فبعضها يرمى عنه بأسهم عظام تكاد تخرق الحجر، وبعضها يرمى عنه ببندق من حديد من زنة عشرة أرطال بالمصري إلى ما يزيد على مائة رطل. وقد رأيت في الإسكندرية في الدولة الأشرفية – الأشرف شعبان بن حسين – في نيابة الأمير صلاح الدين بن عرام رحمه الله – بها مدفعًا قد صنع من نحاس ورصاص وقيد بأطراف.. إلخ”.
وأقدم التواريخ لاستخدام المدافع في دولة المماليك يمدنا به صالح بن يحيى (ت بعد عام 840هـ)، فيقول: إنه حينما حاصر المنافسون للسلطان شهاب الدين أحمد في حصن الكرك، ركب رجال الحامية على أسوار الحصن خمسة مجانيق ومدافع كثيرة.(ii) ويذكر ابن إياس في أحداث سنة 753هـ (1352م) ما نصه “ثم إن الأمير بيبغا نائب قلعة دمشق (وهو نائب دمشق) في عهد الملك الصالح صلاح الدين بن الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون (753هـ – 1352م) حصَّن القلعة تحصينًا عظيمًا وركب عليها المكاحل بالمدافع.
في أول كتاب في المدفعية وردت كلمة مدافع في هذين النصين صريحة، ويوجد نص آخر أقدم قليلاً منهما وهو لأحمد بن فضل الله العمري، وكان قد انتهى من تأليفه عام 1340م فيذكر عن مكاحل البارود التي أطلقت البندق أو قذفت النار، ما يلي: “مكاحل البارود أداة من أدوات القتال لا تبالي الهواء إذا أخرجت لهم خفايا سرها.. ترد القلاع منها النار ذات الوقود..”
ومن أقدم النصوص التي وردت بها استخدام مصطلح مكاحل البارود بمدينة القاهرة ما ورد في حوادث ربيع الثاني سنة 768هـ (ديسمبر 1366م)، حيث أطلق الأمير يلبغا الناصري بالقرب من قلعة الجبل على خصومة بمكاحل النفط، وقد أمدنا بهذا النص ابن خلدون، وأكد ابن تغربردي وابن إياس استخدام الجانبين الأسلحة النارية، ومنذ ذلك التاريخ تزايد استخدام هذا السلاح في دولة المماليك.. وظل استخدام هذا السلاح محدودًا حتى عصر السلطان الأشرف قايتباي الذي اهتم بجد بإنشاء قوة لمدفعية الحصون المصرية، وقد صممت قلعتاه بالإسكندرية ورشيد معماريًّا لتوائم استخدام هذا السلاح، وهذا التغيير المعماري هو دلالة على تزايد أهمية وفاعلية المدفعية في الجيش المملوكي، وازداد الاهتمام بهذا السلاح في عصر ابنه السلطان محمد بن قايتباي.. وبمتحف طوب قابو سراي بإستانبول بعض المدافع التي سبكت في مصر، ونقشت عليها أسماء بعض سلاطين المماليك، ومنهم قايتباي والغوري الذي حاول تحديث جيش دولة المماليك، وقد غنمت الدولة العثمانية هذه المدافع بعد فتحها مصر وقد عادت سبك أعداد كبيرة منها.(iii)
يغفل الكثير من المؤرخين الاهتمام بالإنجازات العلمية للدولة العثمانية، والتي اعتمدت على العلم في حروبها ضد أعداء الإسلام، ويعتبر عهد السلطان محمد الفاتح من أكثر العهود العثمانية التي شهدت إنجازات حضارية بارزة، فقد احتضن المخترع المجري أوربان، بعد أن اقتنع الفاتح بما فطر عليه من ذكاء، وأن حديثه عن اختراعه لطريقة جديدة لصنع المدافع لم يكن حديث مشعوذ كما كان يصفه ملوك أوروبا الذين عرض عليهم الفكرة، وأمدَّه الفاتح بكل المعدات والمواد اللازمة لتنفيذ اختراعه، وأحاطه بالعديد من المهندسين الأتراك، حتى تمكن من صنع مدفع ضخم أطلق عليه المدفع السلطاني “نسبة للسلطان الفاتح، ولم يكتف السلطان بذلك الإنجاز، بل عهد إلى عدد من المهندسين بصنع نوعًا جديدًا من القنابل لاستعمالها في المدفع السلطاني، وسجل التاريخ أن العثمانيين كانوا أول من استعمل قنابل تحرق كل ما حولها إذا اصطدمت بجسم صلب، وكانت تلك القنابل تتركب من مزيج من زيت الزيتون والكبريت والملح ومواد أخرى.(iv)
تلك كان لمحة من حضارتنا الإسلامية، ونأمل أن تكون هذه اللمحة قد ألمَّت بهذا الجانب المهمل منها.
1- د. عبد الرحمن زكي، ابن إياس واستخدام الأسلحة النارية في ضوء ما كتبه في كتاب “بدائع الزهور” ص108، 109 الهيئة المصرية العامة للكتاب والجمعية المصرية للدراسات التاريخية، ندوة ابن إياس، 1973م.
2- المرجع السابق، ص111، 115.
3- زياد أبو غنيمة، جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين الأتراك، ص245، دار الفرقان عمان، 1983م.
4- المرجع السابق ص256.