يذكر التاريخ الحديث، أن رجلاً فرنسيًّا اسمه “لويس برايل” كان أعمى لا يبصر، استنبط في سنة 1829م أي منذ نحو مائة وخمسين سنة الأسلوب المنسوب إليه لتعليم العميان القراءة والكتابة، وقد خُلِّد اسمه وشرفه الفرنسيون بهذا الاستنباط الخطير، الذي أخذت به أمم العالم في تعليم العميان.

ولكن من يدري أن رجلاً عربيًّا، كان أعمى أيضًا لا يبصر، اسمه “زين الدين علي بن أحمد الآمدي العابر” عاش في حدود سنة سبعمائة للهجرة أي قبل نحو سبعمائة سنة كان السابق في هذا المضمار، وإليه يرجع – دون سواه – الفضل كله في ابتداع الكتابة البارزة للعميان.

كان أستاذاً في المدرسة المستنصرية ببغداد، وله فيها غرفة خاصة به، ترجم له الصفدي في كتاب “نكت الهميان في نكت العميان” ووصفه بقوله: “كان شيخًا مليحًا مهيبًا ثقة صدوقًا، كبير القدر والسن، أضر في أوائل عمره، وكان آية عظيمة في تعبير الرؤيا، مع مزايا أخرى عجيبة، تدل كلها على عبقريته وشدة فطنته وذكائه”.

وله حكايات غريبة، ذكر الصفدي طائفة منها، غير أن أعجبها، ما جرى له مع السلطان “غازان” المغولي ببغداد، وهو من أحفاد “هولاكو بن جنكيز خان” قال: لما دخل السلطان غازان، المذكور، سنة خمس وتسعين وستمائة، أُعْلِم بالشيخ زين الدين الآمدي المذكور فقال السلطان غازان لأصحابه: إذا جئت غدًا المدرسة المستنصرية أجتمع به، فلما أتى السلطان غازان المستنصرية، احتفل الناس به، واجتمع بالمدرسة أعيان بغداد وأكابرها من القضاة والعلماء والعظماء، وفيهم الشيخ زين الدين الآمدي لتلقي السلطان، فأمر غازان أكابر أمرائه أن يدخلوا المدرسة قبله واحدًا بعد واحد، ويسلم كل منهم على الشيخ، ويوهمه الذين معه، أنه هو السلطان – امتحانًا له – فجعل الناس كلما قدم أمير يعظمونه ويأتون به إلى الشيخ زين الدين؛ ليسلم عليه، والشيخ يرد السلام على كل من أتى به إليه، من غير تحرك له ولا احتفال به، حتى جاء السلطان غازان، في دون تقدمه من الأمراء في الحفل، وسلَّم على الشيخ وصافحه، فحين وضع يده في يده نهض له قائمًا وأعظم ملتقاه والاحتفال به، وأعظم الدعاء للسلطان باللسان المغولي، ثم بالتركي، ثم بالفارسي ثم بالرومي ثم بالعربي، ورفع به صوته إعلامًا للناس، وكان زين المذكور عارفًا بكثير من الألسن واللغات، فعجب السلطان غازان من فطنته، وذكائه وحدة ذهنه ومعرفته مع أنه ضرير بحاسته (بحدسه) الذي فطن من معرفته للسلطان.

صَنَّف الآمدي جملة كتب في اللغة والفقه، وكان يتّجر بالكتب، أما قصة اكتشافه الكتابة البارزة الخاصة بالعميان فهي أنه كان يحرز كتبًا كثيرة جدًّا، وكان إذا طُلب منه كتاب، وكان يعلم أنه عنده، نهض إلى خزانة كتبه واستخرجه من بينها، كأنه قد وضعه لساعته، وإن كان الكتاب عدة مجلدات، وطُلب منه الأول مثلاً أو الثاني أو الثالث أو غير ذلك، أخرجه بعينه وأتى به، وكان يمس الكتاب أولاً، ثم يقول: يشتمل هذا الكتاب على كذا وكذا كراسة، فيكون الأمر كما قال، وإذا أمَرّ يده على الصفحة، قال عدد أسطر هذه الصفحة كذا وكذا سطرًا، وفيها بالقلم الغليظ كذا وهذا الموضع كُتب به في الوجهة – أي في الجانب – وفيها بالحمرة هذا، وهذه المواضع كتبت فيها بالحمرة، وإن اتفق أنها كُتبت بخطين أو ثلاثة، قال: اختلف الخط من هناك إلى هنا، من غير إخلال بشيء مما يُمتحن به.

والأدهى من ذلك، أنه كان يعرف أثمان جميع كتبه التي اقتناها بالشراء، وذلك أنه كان إذا اشترى كتابًا بشيء معلوم، أخذ قطعة ورق خفيفة وفتل منها فتيلة لطيفة – أي صغيرة – وصنعها حرفًا – أو أكثر – من حروف الهجاء، لعدد ثمن الكتاب بحساب الحروف، ثم يلصق ذلك على طرف جلد الكتاب من داخل، ويلصق فوقه ورقة بقدره لتتأبّد فإذا شدّ الكتاب بيده يعرف ثمنه من تنبيت (بروزات) العدد الملصق فيه.

وهذا الأسلوب هو بعينه الكتابة البارزة الخاصة بالعميان؛ وهو أمر يدل دلالة قاطعة على عناية أولئك الأقدمين بأمور يُظَنّ أنها من مبتكرات العصور الحديثة ومستنبطات المدنية الحاضرة.

خالد عزب