ظل الشعر العربي ردحًا من الزمن في حالة من الضعف والوهن، يرسف في أغلال الصنعة اللفظية، ويخلو من المعاني الصادقة، والأخيلة المبتكرة، حتى إذا بدأ “محمد علي” نهضته الشاملة، أصاب الشعر العربي شيء من الحركة والنشاط، ودبت فيه الحياة واسترد بعضًا من عافيته، غير أنها لم تكن كافية لإعادة مجده القديم بقسماته وملامحه الزاهية، منتظرًا من يأخذ بيده إلى الآفاق الرحيبة والخيال البديع واللغة السمحة، والبيان الفخيم، وكان محمود سامي البارودي على موعد مع القدر، فجاء ليبث في حركة الشعر روح الحياة، ويعيد لها بعضًا من المجد التليد، بفضل موهبته الفذة، وسلامة ذوقه، واتساع ثقافته، وعمق تجاربه، ونبل فروسيته.
المولد والنشأة
ولد محمود سامي البارودي بالقاهرة في (27من رجب 1255 هـ = 6 من أكتوبر 1839م) لأبوين من الجراكسة، وجاءت شهرته بالبارودي نسبة إلى بلدة “إيتاي البارود” التابعة لمحافظة البحيرة بمصر، وكان أحد أجداده ملتزمًا لها ويجمع الضرائب من أهلها.
نشأ البارودي في أسرة على شيء من الثراء والسلطان، فأبوه كان ضابطًا في الجيش المصري برتبة لواء، وعُين مديرًا لمدينتي “بربر” و”دنقلة” في السودان، ومات هناك، وكان ابنه محمود سامي حينئذ في السابعة من عمره.
تلقى البارودي دروسه الأولى في بيته، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ النحو والصرف، ودرس شيئًا من الفقه والتاريخ والحساب، ثم التحق وهو في الثانية عشرة من عمره بالمدرسة الحربية سنة (1268هـ = 1852م)، وفي هذه الفترة بدأ يظهر شغفًا بالشعر العربي وشعرائه الفحول، وبعد أربع سنوات من الدراسة تخرّج برتبة “باشجاويش” ثم سافر إلى إستانبول مقر الخلافة العثمانية، والتحق بوزارة الخارجية، وتمكن في أثناء إقامته من إتقان التركية والفارسية ومطالعة آدابهما، وحفظ كثيرًا من أشعارهما، ودعته سليقته الشعرية المتوهجة إلى نظم الشعر بهما كما ينظم بالعربية، ولما سافر الخديوي إسماعيل إلى العاصمة العثمانية بعد توليه العرش ليقدم آيات الشكر للخلافة، ألحق البارودي بحاشيته، فعاد إلى مصر بعد غيبة طويلة امتددت ثماني سنوات، ولم يلبث أن حنّ البارودي إلى حياة الجندية، فترك معية الخديوي إلى الجيش برتبة بكباشي.
حياة الجندية
وفي أثناء عمله بالجيش اشترك في الحملة العسكرية التي خرجت سنة (1282 هـ = 1865م) لمساندة جيش الخلافة العثمانية في إخماد الفتنة التي نشبت في جزيرة “كريت”، وهناك أبلى البارودي بلاء حسنًا، وجرى الشعر على لسانه يتغنى ببلده الذي فارقه، ويصف جانبًا من الحرب التي خاض غمارها، في رائعة من روائعه الخالدة التي مطلعها:
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان
وهفا السرى بأعنة الفرسان
والليل منشور الذوائب ضارب
فوق المتالع والربا بجران
لا تستبين العين في ظلماته
إلا اشتعال أسِنَّة المران
(الكرى: النوم، هفا: أسرع، السرى: السير ليلاً، المتالع: التلال، ضارب بجران: يقصد أن الليل يعم الكون ظلامه).
وبعد عودة البارودي من حرب كريت تم نقله إلى المعية الخديوية ياورًا خاصًا للخديوي إسماعيل، وقد ظل في هذا المنصب ثمانية أعوام، ثم تم تعيينه كبيرًا لياوران ولي العهد “توفيق بن إسماعيل” في (ربيع الآخر 1290هـ = يونيو 1873م)، ومكث في منصبه سنتين ونصف السنة، عاد بعدها إلى معية الخديوي إسماعيل كاتبًا لسره (سكرتيرًا)، ثم ترك منصبه في القصر وعاد إلى الجيش.
ولما استنجدت الدولة العثمانية بمصر في حربها ضد روسيا ورومانيا وبلغاريا والصرب، كان البارودي ضمن قواد الحملة الضخمة التي بعثتها مصر، ونزلت الحملة في “وارنة” أحد ثغور البحر الأسود، وحاربت في “أوكرانيا” ببسالة وشجاعة، غير أن الهزيمة لحقت بالعثمانيين، وألجأتهم إلى عقد معاهدة “سان استفانوا” في (ربيع الأول 1295هـ = مارس 1878م)، وعادت الحملة إلى مصر، وكان الإنعام على البارودي برتبة “اللواء” والوسام المجيدي من الدرجة الثالثة، ونيشان الشرف؛ لِمَا قدمه من ضروب الشجاعة وألوان البطولة.
العمل السياسي
بعد عودة البارودي من حرب البلقان تم تعيينه مديرًا لمحافظة الشرقية في (ربيع الآخر 1295هـ = إبريل 1878م)، وسرعان ما نقل محافظًا للقاهرة، وكانت مصر في هذه الفترة تمر بمرحلة حرجة من تاريخها، بعد أن غرقت البلاد في الديون، وتدخلت إنجلترا وفرنسا في توجيه السياسة المصرية، بعد أن صار لهما وزيران في الحكومة المصرية، ونتيجة لذلك نشطت الحركة الوطنية وتحركت الصحافة، وظهر تيار الوعي الذي يقوده “جمال الدين الأفغاني” لإنقاذ العالم الإسلامي من الاستعمار، وفي هذه الأجواء المشتعلة تنطلق قيثارة البارودي بقصيدة ثائرة تصرخ في أمته، توقظ النائم وتنبه الغافل، وهي قصيدة طويلة، منها:
جلبت أشطر هذا الدهر تجربة
وذقت ما فيه من صاب ومن عسل
فما وجدت على الأيام باقية
أشهى إلى النفس من حرية العمل
لكننا غرض للشر في زمن
أهل العقول به في طاعة الخمل
قامت به من رجال السوء طائفة
أدهى على النفس من بؤس على ثكل
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت
قواعد الملك حتى ظل في خلل
وبينما كان محمد شريف باشا رئيس مجلس النظار يحاول أن يضع للبلاد دستورًا قويمًا يصلح أحوالها ويرد كرامتها، فارضًا على الوزارة مسؤوليتها على كل ما تقوم به أمام مجلس شورى النواب، إذا بالحكومة الإنجليزية والفرنسية تكيدان للخديوي إسماعيل عند الدولة العثمانية لإقصائه الوزيرين الأجنبيين عن الوزارة، وإسناد نظارتها إلى شريف باشا الوطني الغيور، وأثمرت سعايتهما، فصدر قرار من الدولة العثمانية بخلع إسماعيل وتولية ابنه توفيق.
ولما تولّى الخديوي توفيق الحكم سنة (1296هـ = 1879م) أسند نظارة الوزارة إلى شريف باشا، فأدخل معه في الوزارة البارودي ناظرًا للمعارف والأوقاف، ونرى البارودي يُحيّي توفيقًا بولايته على مصر، ويستحثه إلى إصدار الدستور وتأييد الشورى، فيقول:
سن المشورة وهي أكرم خطة
يجري عليها كل راع مرشد
هي عصمة الدين التي أوحى بها
رب العباد إلى النبي محمد
فمن استعان بها تأيد ملكه
ومن استهان بها لم يرشد
غير أن “توفيق” نكص على عقبيه بعد أن تعلقت به الآمال في الإصلاح، فقبض على جمال الدين الأفغاني ونفاه من البلاد، وشرد أنصاره ومريديه، وأجبر شريف باشا على تقديم استقالته، وقبض هو على زمام الوزارة، وشكلها تحت رئاسته، وأبقى البارودي في منصبه وزيرًا للمعارف والأوقاف، بعدها صار وزيرًا للأوقاف في وزارة رياض.
وقد نهض البارودي بوزارة الأوقاف، ونقح قوانينها، وكون لجنة من العلماء والمهندسين والمؤرخين للبحث عن الأوقاف المجهولة، وجمع الكتب والمخطوطات الموقوفة في المساجد، ووضعها في مكان واحد، وكانت هذه المجموعة نواة علي مبارك”، كما عُني بالآثار العربية وكون لها لجنة لجمعها، فوضعت ما جمعت في مسجد الحاكم حتى تُبنى لها دار خاصة، ونجح في أن يولي صديقه “محمد عبده” تحرير الوقائع المصرية، فبدأت الصحافة في مصر عهدًا جديدًا.
ثم تولى البارودي وزارة الحربية خلفًا لرفقي باشا إلى جانب وزارته للأوقاف، بعد مطالبة حركة الجيش الوطنية بقيادة عرابي بعزل رفقي، وبدأ البارودي في إصلاح القوانين العسكرية مع زيادة رواتب الضباط والجند، لكنه لم يستمر في المنصب طويلاً، فخرج من الوزارة بعد تقديم استقالته (25 من رمضان 1298 = 22 من أغسطس 1881م)؛ نظرًا لسوء العلاقة بينه وبين رياض باشا رئيس الوزراء، الذي دس له عند الخديوي.
وزارة البارودي
عاد البارودي مرة أخرى إلى نظارة الحربية والبحرية في الوزارة التي شكلها شريف باشا عقب مظاهرة عابدين التي قام بها الجيش في (14 من شوال 1298 هـ = 9 من سبتمبر 1881م)، لكن الوزارة لم تستمر طويلاً، وشكل البارودي الوزارة الجديدة في (5 من ربيع الآخر 1299هـ = 24 من فبراير 1882م) وعين “أحمد عرابي” وزيرًا للحربية، و”محمود فهمي” للأشغال؛ ولذا أُطلق على وزارة البارودي وزارة الثورة؛ لأنها ضمت ثلاثة من زعمائها.
وافتتحت الوزارة أعمالها بإعداد الدستور، ووضعته بحيث يكون موائمًا لآمال الأمة، ومحققًا أهدافها، وحافظا كرامتها واستقلالها، وحمل البارودي نص الدستور إلى الخديوي، فلم يسعه إلا أن يضع خاتمه عليه بالتصديق، ثم عرضه على مجلس النواب.
الثورة العرابية
تم كشف مؤامرة قام بها بعض الضباط الجراكسة لاغتيال البارودي وعرابي، وتم تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين، فقضت بتجريدهم من رتبهم ونفيهم إلى أقاصي السودان، ولمّا رفع “البارودي” الحكم إلى الخديوي توفيق للتصديق عليه، رفض بتحريض من قنصلي إنجلترا وفرنسا، فغضب البارودي، وعرض الأمر على مجلس النظار، فقرر أنه ليس من حق الخديوي أن يرفض قرار المحكمة العسكرية العليا وفقًا للدستور، ثم عرضت الوزارة الأمر على مجلس النواب، فاجتمع أعضاؤه في منزل البارودي، وأعلنوا تضامنهم مع الوزارة، وضرورة خلع الخديوي ومحاكمته إذا استمر على دسائسه.
انتهزت إنجلترا وفرنسا هذا الخلاف، وحشدتا أسطوليهما في الإسكندرية، منذرتين بحماية الأجانب، وقدم قنصلاهما مذكرة في (7 من رجب 1299هـ = 25 من مايو 1882م) بضرورة استقالة الوزارة، ونفي عرابي، وتحديد إقامة بعض زملائه، وقد قابلت وزارة البارودي هذه المطالب بالرفض في الوقت الذي قبلها الخديوي توفيق، ولم يكن أمام البارودي سوى الاستقالة، ثم تطورت الأحداث، وانتهت بدخول الإنجليز مصر، والقبض على زعماء الثورة العرابية وكبار القادة المشتركين بها، وحُكِم على البارودي وستة من زملائه بالإعدام، ثم خُفف إلى النفي المؤبد إلى جزيرة سرنديب.
البارودي في المنفى
أقام البارودي في الجزيرة سبعة عشر عامًا وبعض عام، وأقام مع زملائه في “كولومبو” سبعة أعوام، ثم فارقهم إلى “كندي” بعد أن دبت الخلافات بينهم، وألقى كل واحد منهم فشل الثورة على أخيه، وفي المنفى شغل البارودي نفسه بتعلم الإنجليزية حتى أتقنها، وانصرف إلى تعليم أهل الجزيرة اللغة العربية ليعرفوا لغة دينهم الحنيف، وإلى اعتلاء المنابر في مساجد المدينة ليُفقّه أهلها شعائر الإسلام.
وطوال هذه الفترة قال قصائده الخالدة، التي يسكب فيها آلامه وحنينه إلى الوطن، ويرثي من مات من أهله وأحبابه وأصدقائه، ويتذكر أيام شبابه ولهوه وما آل إليه حاله، ومضت به أيامه في المنفى ثقيلة واجتمعت عليه علل الأمراض، وفقدان الأهل والأحباب، فساءت صحته، واشتدت وطأة المرض عليه، ثم سُمح له بالعودة بعد أن تنادت الأصوات وتعالت بضرورة رجوعه إلى مصر، فعاد في (6 من جمادى الأولى 1317هـ = 12من سبتمبر 1899م).
شعر محمود سامي البارودي
يعد البارودي رائد الشعر العربي في العصر الحديث؛ حيث وثب به وثبة عالية لم يكن يحلم بها معاصروه، ففكّه من قيوده البديعية وأغراضه الضيقة، ووصله بروائعه القديمة وصياغتها المحكمة، وربطه بحياته وحياة أمته.
وهو إن قلّد القدماء وحاكاهم في أغراضهم وطريقة عرضهم للموضوعات وفي أسلوبهم وفي معانيهم، فإن له مع ذلك تجديدًا ملموسًا من حيث التعبير عن شعوره وإحساسه، وله معان جديدة وصور مبتكرة.
وقد نظم الشعر في كل أغراضه المعروفة من غزل ومديح وفخر وهجاء ورثاء، مرتسمًا نهج الشعر العربي القديم، غير أن شخصيته كانت واضحة في كل ما نظم؛ فهو الضابط الشجاع، والثائر على الظلم، والمغترب عن الوطن، والزوج الحاني، والأب الشفيق، والصديق الوفي.
وترك ديوان شعر يزيد عدد أبياته على خمسة آلاف بيت، طبع في أربعة مجلدات، وقصيدة طويلة عارض بها البوصيري، أطلق عليها “كشف الغمة”، وله أيضًا “قيد الأوابد” وهو كتاب نثري سجل فيه خواطره ورسائله بأسلوب مسجوع، و”مختارات البارودي” وهي مجموعة انتخبها الشاعر من شعر ثلاثين شاعرًا من فحول الشعر العباسي، يبلغ نحو 40 ألف بيت.
وفاته
بعد عودته إلى القاهرة ترك العمل السياسي، وفتح بيته للأدباء والشعراء، يستمع إليهم، ويسمعون منه، وكان على رأسهم شوقي وحافظ ومطران، وإسماعيل صبري، وقد تأثروا به ونسجوا على منواله، فخطوا بالشعر خطوات واسعة، وأُطلق عليهم “مدرسة النهضة” أو “مدرسة الأحياء”.
ولم تطل الحياة بالبارودي بعد رجوعه، فلقي ربه في (4 من شوال 1322هـ = 12 من ديسمبر 1904م).
سمير حلبي
من مصادر الدراسة:
- محمود سامي البارودي- ديوان البارودي- تحقيق علي الجارم ومحمد شفيق معروف- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة (1992).
- نفوسة زكريا- البارودي حياته وشعره- القاهرة (1992).
- علي الحديدي- محمود سامي البارودي شاعر النهضة- مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة (1969م).
- شوقي ضيف – البارودي رائد الشعر الحديث – دار المعارف – القاهرة (1988م).
- عمر الدسوقي – في الأدب الحديث – دار الفكر العربي – القاهرة – (1948م).