قد لا يكون في وسعك في المستقبل القريب أن تعيد تزويد سيارتك بوقود عصير القصب، وقد لا يكون بإمكانك شحن بطارية هاتفك المحمول بمجرد وصله بعلبة كولا، لكن في المقابل يكفي أن تغرس وصلة سلك في ذراعك لشحن هاتفك المحمول وغيره من الأجهزة الإلكترونية الشخصية! فالعلماء ينظرون لأجسامنا كبطاريات كهربية لا تنفد، ومن الممكن استغلالها لمد الأجهزة الإلكترونية بالطاقة!.. فكرة مجنونة وغريبة للغاية، ينظر لها بعض العلماء بعين الشك، ولكن ينظر آخرون لها كفكرة عبقرية ستغير مستقبل البشرية في القريب العاجل!.
فمن المعروف أن حجم الدوائر الإلكترونية والآلات الميكانيكية يتضاءل باستمرار، ومع ذلك فإن البطاريات التي تزود هذه العناصر بالطاقة لا تحذو الحذو نفسه، كما أن عمر هذه البطاريات ليس طويلا وتنفد بسرعة. ولهذا فكر العلماء في اللجوء إلى مصدر طاقة متجدد يستطيع أن يوفر الطاقة اللازمة للأجهزة الشخصية بطريقة مستمرة، وأخيرا قدم الجسم البشري الحل النهائي لهذه المشكلة.
فنظريا يمكن أن تسمح طاقة جسم إنسان بإخراج 100 وات/ساعة، وهي طاقة كافية لإنارة مصباح كهربي، لكن ذلك يستلزم تحويل كل ما يأكله الشخص العادي من غذاء إلى كهرباء. وعمليا فإن تحويل جزء يسير من هذه الطاقة الزائدة عن حاجة الجسم إلى قوة كهربائية هو أمر قابل للتطبيق، وهو أعظم حلم للعلماء.
وطبقا لمركز طاقة الفضاء والإلكترونيات المتقدمة التابع لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، يحتوي الجسم البشري على 15% من وزنه دهنا في المتوسط، وهذه الدهون قادرة على إنتاج طاقة تقدر بـ11 ألف وات/ساعة، في حين يستهلك الجسم طاقة كهربية تقدر بـ3.300 وات/ساعة في المتوسط، وبحسبة بسيطة يمكن استنتاج أنه يمكن استغلال جزء من هذه الطاقة لتزويد الأجهزة الإلكترونية بالكهرباء إذا استُحدثت طريقة مناسبة لتحويل جزء صغير من تلك الطاقة إلى كهرباء.
الجسم البشرى.. بطارية لا تنضب
وقد حاول الكثير من العلماء في السابق تحويل الطاقة الفائضة عن حاجة الجسد إلى طاقة كهربية يمكن استغلالها، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل. ومنذ سنوات يحاول علماء وزارة الدفاع الأمريكية تطوير هذه الفكرة لاستغلالها في المهمات الفضائية والعمليات العسكرية السرية، وأخيرا اهتدت مجموعة من الباحثين في مختبرات “سانديا” الوطنية الأمريكية لتقنية جديدة تحول سكر الجلوكوز الفائض عن حاجة الجسم إلى طاقة لتشغيل الأجهزة الكهربية.
ويبدو الجلوكوز، وهو أحد أشكال السكر الأساسية، كوقود أو “نفط” مثالي من نوع جديد في رأي “ستانلي كرافيتز” ومجموعة من زملائه الباحثين لدى “مختبرات سانديا الوطنية” الأمريكية. وحصل “كرافيتز” وزملاؤه الباحثون على براءات اختراع لتحويل الجلوكوز إلى طاقة، ويقومون بتطوير مجموعة من الإبر الزجاجية الدقيقة التي تعادل في حدتها ودقتها إبرة البعوضة، حتى يسهل “غرسها” في ذراع إنسان دون أن يشعر بوخزها لتقوم بتحويل جلوكوز جسمه إلى طاقة كهربائية. ويقول الدكتور “كرافيتز”: “تخيل أنك تمكنت من صنع رقعة توضع على الذراع ولها إبر دقيقة جدا لا تسبب الألم لدى غرسها.. عندئذ لا يحتاج الجندي إلا إلى أكل كعكة صغيرة لكي يبقى جهاز اللاسلكي في حالة عمل”.
وتوفر هذه الوسيلة مصدرا غنيا بالطاقة يتميز برخصه وبوفرته مقارنة بالعديد من المصادر الأخرى المتاحة. وفى رأي بعض العلماء أن هذه التقنية يمكنها أن تضرب عصفورين بحجر واحد لأنها ستقدم خدمة مزدوجة لمستعمليها، فبالإضافة إلى أنها ستساعد على حل مشكلة الطاقة لديهم فإنها يمكن أن تقدم وسيلة فاعلة للوقاية والعلاج لم تكن في الحسبان، ويتوقع “كرافيتز” أنه من الممكن تصنيع جهاز يقوم بسحب الجلوكوز الزائد من دم المصاب بداء السكري، وقد يساعد الأصحاء على احتفاظهم بجسم مثالي ويكافح السمنة والبدانة!.
رقصة فائقة التنسيق
قد يتساءل البعض: أين الجديد في استخدام السكر كمصدر للطاقة؟ فكلنا نعلم أن السكر يمد أجسام الكائنات الحية بالطاقة؟!.. الحقيقة أن السكريات مصدر غني بالطاقة، ولكن الآلة الوحيدة التي تستطيع استخلاص هذه الطاقة بسهولة ويسر هي الخلية الحية نظرا لوجود الأنزيمات التي خلقها الله فيها والتي قامت بتحويل خلايا الكائنات الثديية إلى ماكينات تحرق سكر الجلوكوز!. والجسم البشري على سبيل المثال يقوم بالتمثيل الغذائي (الأيض) ويقوم بمعالجة سكر الجلوكوز في عمليات دقيقة أشبه برقصة فائقة التنسيق يشترك فيها 12 أنزيما مختلفا ليزودوا الجسم بالوقود. وتمكن الباحثون في مختبرات “سانديا” الوطنية من تصميم وإنتاج إنزيمات تحاكي إنزيمات الجسم البشري باستخدام وسائل الهندسة الوراثية.
كما تمكنوا من استخدام معادن محفزة مثل البلاتين من أجل تحرير الإلكترونات من مداراتها حول الذرات. وأظهرت التطبيقات الأولية على خلايا الوقود الجلوكوزي أنها تستخدم كميات قليلة من الطاقة، ولذلك يحاول الباحثون الآخرون استخدام الجلوكوز لتغذية خلايا الوقود بدلا من الهيدروجين، وتحويله إلى طاقة لغرض توليد الكهرباء.
“روبوتات” تتغذى بالسكر
جذبت التطبيقات المحتملة لطريقة استخدام الجلوكوز كوقود انتباه الكثير من الجهات البحثية والهيئات العلمية والعسكرية، مثل شركة “ثيراسينس” التي تصنع أجهزة مراقبة مستوى الجلوكوز في الدم، وقد نالت الشركة براءة اختراع لصنع خلية وقود الجلوكوز، بعد أن نشر البروفيسور “آدم هيللر” الأستاذ في جامعة تكساس مؤسس الشركة ورقة بحثية في السنة الماضية 2003 في “دورية الجمعية الكيميائية الأمريكية”، وفيها قدم “هيللر” وزملاؤه وصفا دقيقا لأصغر خلية وقود تزرع داخل حبة عنب واحدة وتتغذى على السكر الموجود بها!.
وأشار البروفيسور “هيللر” إلى أنه يقوم حاليا بتطوير خلية وقود مماثلة من أجل تشغيل جهاز يستخدم للمراقبة الدائمة لمستوى الجلوكوز في الدم. ويقوم الجهاز المذكور بتخليص مريض السكري من مشكلة وخز الإبرة اليومي وبتوليد طاقة كهربائية تكفي لعمله، وذلك اعتمادا على الجلوكوز الموجود في دم المريض.
وبخلاف الفكرة السابقة، قال الدكتور “كرافيتز”: “إن الباحثين في مختبرات سانديا الوطنية يولدون الكهرباء من أجل الحصول على الكهرباء فقط -أي باعتبارها مصدرا من مصادر الطاقة”، وأشار إلى أن الباحثين في مختبرات “سانديا” قادرون على إنتاج الطاقة ضمن مقياس الملي وات، وهذا القدر كاف لمنح وهجة ضوء صغيرة جدا. وأضاف “كرافيتز”: “نحن رفعنا من مستوى الكفاءة بمعامل الألف خلال فترة ثلاثة أعوام. لكننا نحتاج إلى الارتفاع بمعامل يساوي المليون”.
وامتد الصراع على استغلال طاقة الجسم البشرى لتشغيل الأجهزة والآلات الكهربية إلى الجانب الآخر من المحيط؛ حيث تحاول مجموعة من العلماء اليابانيين تحويل البشر إلى بطاريات حيوية لا تنفد، وأطلقوا على هذه الفكرة “البطاريات البشرية” “human batteries”. ويحاول اليابانيون محاكاة طريقة استخلاص الجسم للطاقة من الغذاء، وهم في طريقهم لإنتاج نوع جديد من المولدات الكهربية يعرف بالـ”المولّد النانوي الحيوي” “bio-nano generator”، لتغذية جيش من الأجهزة الإلكترونية والروبوتات المجهرية (الميكروروبوت) التي تتغذى على السكر لتعمل داخل الجسم!.
ونجح فريق من علماء شركة “باناسونيك”، عملاق الإلكترونيات الياباني، بالفعل في تطوير نوع من البطاريات الدقيقة التي تسمح بإنتاج مستويات كهربائية منخفضة باستغلال السكر الموجود في دم الإنسان. وتعتمد هذه البطارية على إنزيم قادر على تحرير الإلكترونات من سكر الجلوكوز، ويعتقد الدكتور “كازوو إدا” الذي ترأس فريق البحث أن “المولّدات النانوية الحيوية” هي الخطوة الثورية القادمة في مجال البحوث العلمية بعد تطوير محركات تعمل بالهيدروجين والغاز الطبيعي والكحول. ويبدو أن الجلوكوز هو المصدر الكامن للوقود فهو على العكس من الهيدروجين مثلا قابل للتجدد، ورخيص الثمن، ومتوفر بكثرة.
فهل من الممكن أن تقدم مثل هذه البحوث حلا مشتركا لمشكلة الطاقة التي يواجهها العالم والمشاكل الصحية المزمنة التي يعاني منها الإنسان كالسكري والبدانة؟. يجيب الدكتور “كرافيتز” على هذا السؤال بقوله: “تلك فكرة غريبة ومجنونة إلى حد ما.. لكنني مرة أخرى أقول إنها قد لا تكون كذلك”.
د.طارق قابيل5>
المصادر:5>
تيريزا رايوردان (2004م).”كهرباء سكّرية من الدّم وسيارات تحب الطعم الحلو”، صحيفة “نيويورك تايمز”، جريدة الإتحاد الإماراتية، العدد: 10589، 2/7/2004م.
Center for Space Power and Advanced Electronics
Energy Related Devices, Inc.
PA (2003).”Power from blood could lead to human batteries”, FairfaxDigital, 4/8/2003.
Paradiso, J.(2000).“Renewable Energy Sources for the Future of Mobile & Embedded Computing:
A whirlwind tour”, Invited Lecture, Computing Continuum Conference, San Francisco, USA.
Starner, T., (1996).“Human Powered Wearable Computing”, IBM Systems Journal, Vol.35, No.3& 4, pp.618-629