من بين أكثر من ثمانين فرعًا في علم الجغرافية تحتل “جغرافية الجوع” مكانة بالغة الأهمية، وتزداد هذه الأهمية مع تزايد أعداد السكان في مقابل التدهور في تسخير الموارد الطبيعية الذي تشهده الدول النامية يومًا بعد يوم. والمحصلة اتساع الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك وهو ما يجبر سكان العالم الثالث -في آسيا وأفريقيا على وجه الخصوص- على الاعتماد على الدول المانحة للمعونات الاقتصادية، وهو ما يكبل إرادتها السياسية نتيجة تبعيتها “الغذائية”.
ويمكن لنا تقدير حجم هذه المشكلة حين نعلم أن أكثر من 150 مليون نسمة في أفريقيا بمفردها يعيشون كل عام تحت طائلة خطر الجفاف بالأساس، وقد سقط صريع الموت جوعاً من جراء الجفاف الذي عاشته القارة الأفريقية منذ عقدين من الزمان أكثر من 250.000 نسمة، كما هجر نحو 30 مليون نسمة مساكنهم وهاموا في الأرض بحثًا عن الغذاء، وانتهى بهم الحال إلى معسكرات للاجئين الفارين من الجوع.
وهناك عشرات الأسباب التي تؤدي إلى انتشار الجوع في أنحاء متفرقة من الأرض على رأسها كوارث الفيضانات والعواصف وتأثير الزلازل والبراكين والحروب والكوارث التقنية، غير أن أكثر أسباب الجوع انتشارا هي وقوع التصحر وحدوث نوبات الجفاف.
مفهوم التصحر والجفاف
اخرج إلى الشرفة في مدينة كالقاهرة على سبيل المثال ومد بصرك إلى سلاسل المساكن الإسمنتية المتشابكة التي بنيت على ضفاف النيل ومسحت من الخريطة الزراعية لمصر مئات آلاف الأفدنة من أراض خصبة كانت تنتج الغذاء، وتعرّف على معنى التصحر. اذهب إلى المدن الجديدة وشاهد عمليات التشجير والحدائق التي تمتد أمام البنايات السكنية والإدارية وتأمل التربة السوداء المجروفة من وادي النيل ودلتاه وأطلِق زفيراً حزيناً على أراضٍ كانت تنتج الغذاء وسُرقت تربتها وبقت خرابًا بعدما ظلت مياه النيل تنعشها كل عام بمدد من الرواسب الخصبة.
انظر إلى مشروعات الاستصلاح الزراعي التي تتم في المناطق الصحراوية وتنفق من أجلها مليارات الجنيهات، بينما أجزاء أخرى في التربة السوداء في قلب الوادي والدلتا هجرها أهلها لتملّحها ولارتفاع المياه في مكوناتها، وقل: التصحر ثانيةً؟! ثم لا تنس أن تلقي بنظرة على التلوث الإسمنتي والترابي الذي تعانيه الأشجار والنباتات في كل مكان حتى تذبل أوراقها وتتدهور عافيتها فهي أيضاً صورة من صور التصحر ومقدمة لذبول اللون الأخضر ونذير بسيادة الصفرة في الأجل القريب.
وهكذا فليس التصحر -كما قد نظن للوهلة الأولى- مجرد اتساع للصحراء على حساب الأراضي الزراعية المجاورة وانكماش الرقعة الخضراء الخصبة. فمصطلح التصحر يقصد به وقوع تدهور في التربة والنبات الطبيعي وموارد المياه بما يؤثر سلبًا على صحة الحيوان والإنسان ويحرمهما من فرص الحياة.
وتتداخل المصطلحات في هذا المضمار، فقد يتخيل البعض أن التصحر يعني “أرضا تشبه الصحراء الفعلية”، أو أن التصحر يمثل “عملية لا رجعة فيها من تحول الأراضي المنتجة إلى أراض صحراوية مع مرور الزمن” أو أن “التصحر لا يحدث إلا على أطراف الصحراء”. ورغم أن تناقص الإنتاجية الزراعية ومن بعدها الحيوانية يعد مظهراً أساسيا للأراضي المتصحرة، فإن النتيجة قد لا تكون بالضرورة تحول الأرض إلى شكل الصحراء برمالها الصفراء وخلوها من النباتات، كما هو متخيل لدى غالبية الناس.
وتتبنى الأمم المتحدة (عبر برامجها الإنمائية والبيئية) تعريفًا للتصحر مفاده “حدوث نقصان أو تدمير في المقدرة البيولوجية للأرض بما يمكن أن يؤدي إلى سيادة ظروف شبيهة بالظروف الصحراوية Desert – like في ظل تأثير مزدوج من تغير وتذبذب في الظروف المناخية مع حدوث نشاط بشري كثيف الأثر، وتكون النتيجة إصابة الأنظمة البيئية البرية بالتدهور كمًّا ونوعًا”.
وعلى خلاف ما قد يظنه الكثيرون من أن التصحر مشكلة طبيعية يسببها نقص الأمطار، بات من المؤكد أن التصحر نتاج عملية متصلة من تدهور الأرض يلعب الإنسان فيها دورًا أساسيا، ويتهم الإنسان بضلوعه في وقوع تدهور التربة والنبات والمياه الجوفية بفعل أنشطته غير المدروسة، مثل: الإفراط في الزراعة، والرعي الجائر، وقطع الغابات، وسوء استغلال الموارد المائية.
وعلى الجانب الآخر يبدو التصحر لمجموعة أخرى من الباحثين ناجمًا عن أسباب طبيعية، أهمها انحباس الأمطار، وتكرار سنوات الجفاف، وتتابع هبوب العواصف الترابية، وأثرها على جرف التربة، وارتباط ذلك بظواهر مناخية عالمية. وبين الفريقين يرى البعض تداخل العاملين معًا الطبيعي والبشري.
أما القحولة Aridity فيقصد بها معاناة منطقة ما من تناقص ما تتلقاه من الأمطار السنوية مع معاناتها في ذات الوقت من درجات حرارة مرتفعة. ولعل أحد مظاهر النطاقات الجافة هو شدة تباين مطرها، وهو ما يتضح من أمرين: الأول تركز سقوط المطر في فصل أو فصلين من فصول السنة،. والثاني التباين الكبير من سنة لأخرى في كمية المطر بحيث يصبح من المعتاد وجود سنوات “سمان” غزيرة المطر تتبعها سنوات “عجاف” قليلة المطر. وحينما تزداد تكرارية الفترات العجاف تصل المنطقة إلى مرحلة الجفاف Drought.
وهناك ثلاثة أنماط من الجفاف: الجفاف المترولوجيوفيه تكون كمية المطر دون متوسطها العام خلال سنة أو أكثر، والجفاف الزراعي وفيه تفشل الأمطار في الوفاء بحاجات نمو المحصول من الماء، أما الجفاف الهيدرولوجي ففيه تكون كميات تصريف الأنهار قليلة لدرجة تعجز معها عن الوفاء باحتياجات المحاصيل أو توفير مياه الشرب للإنسان. ويعتبر التمييز بين الجفاف المترولوجي والزراعي أمرا مهماً للغاية؛ لأن منطقة ما يمكن أن تتلقى كمية من الأمطار قريبة من المتوسط العام إلا أنها مع ذلك لا تنجو بإنتاجية المحصول من الخطر؛ لأن الأمطار تسقط في غير فصل نمو المحصول.
الأراضي الجافة
يتداخل مفهوم التصحر أيضًا مع مصطلح الأراضي الجافة الذي يشير إلى إقليم مناخي عام ثابت القوانين (وليس متذبذبا في خصائص عناصره المناخية كما هو في الأراضي التي يصيبها الجفاف). ويرجع جفاف هذا الإقليم المناخي إلى قوانين الأنظمة العامة لدورة الهواء، التي تتسم بارتفاع الهواء عند خط الاستواء، ثم تحركه نحو القطبين ليعيد توزيع الطاقة الشمسية الزائدة. وكجزء من هذه العملية تهبط شعبتان من التيارات الهوائية نحو المدارين في جانبيهما المواجهين للقطبين، وذلك عند دائرة عرض 30ْ، ومعلوم أنه لكي تتشكل الأمطار يلزم أن يرتفع الهواء الدافئ الرطب من سطح الأرض إلى أعلى، وتحدث له عملية التكاثف في طبقات الهواء الباردة العليا. ولما كان الهواء في المناطق شبه المدارية يميل للهبوط أكثر من الارتفاع؛ فإن هذه المناطق لا تنعم بتلقي الأمطار.
وتنقسم الأراضي الجافة إلى ثلاثة نطاقات مناخية، هي الأراضي شديدة الجفاف Hyper – Arid، والأراضي الجافة Arid، والأراضي شبه الجافة Semi – Arid. وأبسط وسيلة لتعيين الحدود بين كل نوع وآخر -ومن ثم تصنيف درجات الجفاف- هو اتخاذ متوسط كمية المطر السنوي كأسلوب للتمييز.
فالأراضي شديدة الجفاف تتلقى كمية من المطر السنوي تقل في المتوسط عن 25 ملم، بينما تتلقى الأراضي الجافة كمية تتراوح بين 25 و200 ملم، في الوقت الذي تتلقى فيه الأراضي شبه الجافة كمية تتراوح بين 200 و500 ملم. وعلى مستوى المقارنة العامة تتلقى معظم مناطق غرب أوروبا كميات تساقط سنوية يتراوح متوسطها بين 500 و1000 ملم، بينما تتراوح كمية المطر السنوي في المناطق الواقعة قرب خط الاستواء؛ حيث تسود الغابات المدارية المطيرة بين 1800 إلى أكثر من 4000 ملم.
كما قد تصبح الأراضي جافة لأسباب أخرى كوقوعها في “ظل المطر” بالنسبة للجبال المجاورة؛ حيث تقوم الرياح الحاملة للمطر بإسقاط حمولتها قبل عبورها الجبال وصولاً إلى السهول. كما قد يرجع الجفاف إلى طول المسافة التي تقطعها الرياح الحاملة للمطر، فتفقدها قبل أن تصل إلى المناطق الداخلية البعيدة عن المحيطات.
وفي أماكن أخرى -كالأراضي الساحلية في بيرو وشيلي- يرجع جفاف المناخ إلى دور التيار البحري البارد الذي يمر إلى جوار هذه المناطق، ويعيق من فرصة التبخر، ويخل بحركة الهواء، ويحرم الأراضي المجاورة من المطر.
وتغطي الأراضي الجافة نحو ثلث مساحة اليابس العالمي، ولكنها ليست ذات توزيع متساوٍ على مستوى القارات؛ فأكثر من 80% من إجمالي مساحة الأراضي الجافة توجد في 3 قارات فقط، هي أفريقيا وآسيا وأستراليا. وتحتل الأراضي الجافة من القارة الأفريقية ما نسبته 37%، ومن آسيا نحو 33% وأستراليا نحو 14%.
الساحل والصحراء
في خضم الحديث عن نوبات الجفاف والتصحر وطبيعة الأراضي الجافة يشيع استخدام مصطلح “إقليم الساحل”. والساحل Sahel هو ذلك الإقليم الأفريقي الأكثر اقترانا بمشكلتي الجفاف والتصحر. وقد اشتق مصطلح الساحل من كلمة محلية تعني “حافة الصحراء”، وعلى الرغم من تعدد استخدام هذا المصطلح فإن التعبير الدقيق له يجعله قرين الإقليم شبه الجاف بغرب أفريقيا الذي يتلقى كمية من المطر السنوي يتراوح متوسطها بين 200 و400 ملم، متضمنا بذلك أجزاء من 6 دول، هي: السنغال، موريتانيا، مالي، بوركينا فاسو، النيجر، تشاد.ويتلقى الإقليم الواقع إلى الجنوب مباشرة من إقليم الساحل -والمعروف باسم السفانا السوداني Sudan Savanna- نحو من 400 إلى 1000 ملم كمتوسط مطر سنوي، ومن هذا الإقليم تقع أجزاء من دول جامبيا، وبنين، ونيجيريا ضمن المناطق المتأثرة بالمشكلة. ويمتد إقليما الساحل والسفانا السودانيان شرقًا ليضما السودان وإثيوبيا.
وقد استخدمت الأمم المتحدة تعبير “الإقليم السوداني الساحلي Sudano – Sahelian” للتعبير عن 19 دولة أفريقية، هي تلك الدول المرتبطة بنفس الاسم في منظمة اليونسو UNSO التابعة للأمم المتحدة، وتضم بالإضافة إلى دول الساحل والسفانا: جزر الرأس الأخضر، جيبوتي، غينيا، غينيا بيساو، أوغندا، كينيا، والصومال.
وهناك إقليمان آخران هما “أفريقيا شبه الصحراوية”، و”أفريقيا جنوب الصحراء”، وكلاهما يشير إلى كل تلك الدول الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الأفريقية الكبرى، أما إقليم “شمال أفريقيا” فيتضمن المغرب، والجزائر، وليبيا، وتونس، ومصر.
وبعيداً عن المصطلحات وتعريفاتها الإجرائية يعاني سكان قارتي آسيا وأفريقيا من أعلى نسب للجفاف والتصحر في العالم؛ فمساحة الأراضي المتصحرة في أفريقيا تقترب من 35%، وفي آسيا من 45%. ويعيش في خطر الجفاف والتصحر في القارتين ما يزيد عن 250 مليون نسمة، وهو ما ينعكس على تناقص حصتهم من الغذاء، وانخفاض نصيب الفرد من السعرات الحرارية في كثير من بلدان هاتين القارتين عن الحد الأدنى (2400 سعر حراري/يوم)، وهو ما يجعل قطاعات كبيرة من السكان بهاتين القارتين يعانون من سوء التغذية والعيش دون خط الفقر.
ولا ترتبط هذه المشكلات بمصطلحات أخرى كالفقر والمجاعات فحسب، بل تمتد إلى مستويات أكثر تعقيداً من المشكلات الاجتماعية والنفسية التي يتوقف علاجها على جهود ضخمة من تعاون الدول، وإيقاف الحروب والنزاعات البينية، والنهوض بالتعليم؛ فالتصحر والجفاف والجهل والتخلف شركاء في الكارثة.
هوامش ومصادر:
- آلان جرينجر، التصحر: التهديد والمجابهة، ترجمة عاطف معتمد وآمال شاور، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة- المشروع القومي للترجمة، 2002.
- Keith Smith ,Environmental Hazards, Routledge : London,2001.