الصلاة فريضة لها مواقيتها المحددة، كما قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}النساء:103.
وقد عرفت مواقيت الصلوات الخمس بالسنة النبوية العملية، وتواترت بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
فكل صلاة من الصلوات الخمس لها وقتها المعين، الذي لا يجوز أداؤها قبله بحال، ولا يجوز تأخرها عنه إلا لعذر، وإلا كان من أخرها آثما.
ولكن من يسر هذا الدين وواقعيته: أن شرع الجمع بين الصلاتين: في الظهر والعصر، وفي المغرب والعشاء، تقديما وتأخيرا، لبعض الأسباب، منها: السفر، كما ثبت ذلك من سنة النبي ﷺ .
ومنها: الجمع للمطر، ومثله: الوحل، وأشد منه: الثلج، وكذلك الريح الشديدة، ونحو ذلك من عوارض المناخ والطبيعة، التي يترتب عليها الحرج وشدة المشقة إذا صليت كل صلاة في وقتها.
ومنها: الجمع للحاجة والعذر، في غير سفر ولا خوف ولا مطر، بل لرفع الحرج والمشقة عن الأمة، كما في حديث ابن عباس الآتي بعد.
ومن إعجاز هذا الدين: أن يجد المسلم في نصوصه ما يتسع لحوادث الأزمنة، ومستجدات العصور، التي لم يكن يعرفها الناس ولا يتوقعونها في أزمانهم.
نجد هذا فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: صلى رسول الله ﷺ: الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، في غير خوف ولا سفر.
وفي رواية: جمع رسول الله ﷺ -بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، بالمدينة، من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته.
وفي رواية عبد الله بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر، حتى غربت الشمس، وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة، الصلاة! قال: فجاءه رجل من بني تميم، لا يفتر، ولا ينثني: الصلاة، الصلاة! فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة؟ لا أم لك! ثم قال: رأيت رسول الله ﷺ: جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة، فسألته، فصدق مقالته.
وهذا التعليل من حبر الأمة ابن عباس، يعني: أنه أراد أن يوسع على الأمة وييسر عليها، ولا يوقعها في الحرج والضيق، فما جعل الله في هذا الدين من حرج، بل يريد الله بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر.
والحديث واضح صريح على مشروعية الجمع للحاجة، وقد رواه أيضا أبو داود والنسائي والترمذي في سننهم.
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي في (معالم السنن): هذا الحديث لا يقول به أكثر الفقهاء،..
وكان ابن المنذر يقول : ويحكيه عن غير واحد من أصحاب الحديث، وسمعت أبا بكر القفال يحكيه عن أبي إسحاق المروزي.
قال ابن المنذر: ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار؛ لأن ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه، وهو قوله:”أراد ألا تحرج أمته”.
وحكي عن ابن سيرين: أنه كان لا يرى بأسا: أن يجمع بين الصلاتين، إذا كانت حاجة أو شيء، ما لم يتخذه عادة .انتهى.
وكذلك نقل ابن قدامه في (المغني) عن ابن شبرمة أنه قال ما قاله ابن سيرين.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقا، لكن بشرط ألا يتخذ ذلك عادة، وممن قال به: ابن سيرين، وربيعة، وأشهب، وابن المنذر، والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أهل الحديث انتهى.
وعلى كل حال عندنا حديث صحيح لا مطعن في صحته، رواه ابن عباس وأقره عليه أبو هريرة، وطبقه ابن عباس عمليا، واستشهد به في الرد على من أنكروا عليه تأخير صلاة المغرب، وقد علله بما علله به، وهذا كله يفيدنا في الجواب عن السؤال المعروض علينا، وهو جواز الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في أوربا في فترة الصيف حين يشتد تأخر وقت العشاء إلى منتصف الليل أوبعده، والناس يطالبون بالذهاب إلى أعمالهم في الصباح الباكر، فكيف نكلفهم السهر لأداء العشاء في وقتها، وفي ذلك حرج وتضييق عليهم، وهو مرفوع عن الأمة بنص القرآن، وبما قاله راوي حديث الجمع بين الصلاتين في الحضر: ابن عباس رضي الله عنهما.
بل يجوز الجمع في تلك البلاد في فصل الشتاء أيضا، لقصر النهار جدا، وصعوبة أداء كل صلاة في وقتها للعاملين في مؤسساتهم، إلا بمشقة وحرج، وهو مرفوع عن الأمة.
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي5>