تحتل فريضة الحج والحاج في الثقافة الإفريقية وما يتعلق بعملية أدائها موقع اهتمام خاص ومتميز في السياق المحلي في المجتمعات الإفريقية، وتنبع تلك الأهمية من مصادر عديدة يأتي في مقدمتها سمة القدسية التي ترتبط بها بلاد الحرمين الشريفين في الذاكرة المركزية الإفريقية، فقد علا شأن تلك الفريضة بقوة وظهرت كأكبر مظهر من الشعائر الإسلامية التي تُظهر مدى الارتباط العميق لدى الشعوب الإفريقية وقبائلها وتمسكها بهذه الفريضة، الشيء الذي يمكن تفسيره على خلفية انتشار المذهب المالكي وتشكيله للخلفية الفقهية في عدد من البلاد الإفريقية جنوب الصحراء، حيث يؤكد عدد من فقهاء المالكية على الالتزام الصارم بضرورة أداء هذه الفريضة ولو مشيا على الأقدام، وخففوا في شرط توافر الزاد والراحلة فأجازوا للحاج العمل بيده لتوفير الزاد خلال رحلته إلى الأماكن المقدسة، كما يرون أن الراحلة يمكن الاستعاضة عنها بالمشي على الأقدام أو بمصاحبة الحجاج الأغنياء.
أشواق الحج الإفريقية
وقد تملكت عاطفة الشوق إلى الحج لتلك الأماكن من الأفارقة المسلمين درجة تفوق الوصف، فمكة المكرمة والمدينة المنورة بما تحتويانه من المشاعر المقدسة علاوة على احتضان المدينة للروضة الشريفة كان من أكبر البواعث المؤججة لإثارة مشاعر الاشتياق نحو بلاد الحجاز، ويعكس هذا المعنى بقوة وتجذر هذا الاتجاه بين المسلمين الأفارقة العلامة المجدد الإمام عثمان بن فودي مؤسس دولة صوكتو (1754م-1817م) حين يقول في “داليته” الشهيرة:
هل لي مسيرة نحو طيبة مسرعا لأزور قبر الهاشمي محمد
لما فشا ريّاه في أكنافها وتكمّش الحجاج نحو محمد
غودرت منهمل الدموع موبلا شوقا إلى هذا النبي محمد
أقسمت بالرحمن ما لي مفصل إلا حوا حبّ النبي محمد
أحكي المصاب بشوقه لما عرى ما لي لذيذ العيش دون محمد
قد كدت شوقا أن أطير لقبره ما لي سرور دون زورة سيد
لو سرت طيبة نلت غاية مطلبي متعفرا في ترب نعل محمد
أو طار قلبي أن أزور دياره دمعي يفيض لفقد هذا المرشد
قوموا بنا نسعى إلى شمس الهدى نطوي الفلا لنزور قبر محمد
الحاج.. ذو مكانة كبيرة
ومن الواضح جدا أنه ليس من قبيل المبالغة القول بأن مشاهدة تلك الأماكن والوقوف على المشاعر بالمعاينة وكذلك مقابلة أحفاد الرسول والصحابة كان من أكبر هواجس وأحلام المسلمين الأفارقة وأمنياتهم في الحياة.
ولعل معرفة دور ومكانة المعاينة (الإحساس عن طريق الرؤية العينية) في عمق الثقافة الإفريقية تجعل القارئ يدرك أهمية المشاهدة المباشرة للأماكن المقدسة وآثار الرسول والصحابة في ترسيخ المعتقدات الإسلامية لدى الأفارقة.
هذه الأمور وغيرها تجعل من حظي بزيارة الحرمين والمشاعر المقدسة لأداء الحج يحتل درجة كبيرة من الاحترام والتقدير في الوسط الاجتماعي بشكل أخص وفي الساحة العامة.
ومن خلال تتبع ورصد لواقع التفاعلات المجتمعية مع من يحمل لقب “الحاج” يمكن أن نلخص أهم الملامح المعبرة عن دلالات ومؤثرات قيمية إيجابية في البلدان الإفريقية المختلفة جنوب الصحراء بالتركيز على دولة نيجيريا في الأمور التالية:
التبجيل والتوقير: حيث يأتيان في مقدمة السمات الواضحة في الوسط الاجتماعي في تعامله مع الحاج؛ فهناك أكبر قدر من درجات التوقير باعتباره (الحاج) أقرب واحد من أفراد المجتمع حداثة ببيت الله وبزيارة الرسول ﷺ، فيكسبه ذلك التقديم على غيره في المحافل والمناسبات الاجتماعية احتراما له وتيمنا بقدسية الحرمين الشريفين.
التبجيل اللفظي في الوسط الاجتماع: حيث يكون النداء دائما له مسبوقا بلقب “الحاج” مجردا دون الاقتران بلقب “الحاج”، حتى إن بعض القبائل الإفريقية خاصة في منطقة الغرب مثل نيجيريا وغانا والسنغال من يعتبرون تجريد من حجّ بيت الله من أبنائها شيئا من العيب بل من العار يجب الدفاع عنه، إذ يعدّ هذا اللقب جزءا أصيلا من هوية المواطنين الأفارقة.
الاعتزاز البالغ: لم يكن من المستغرب أن نجد حالة الاعتزاز ولو بشكل مبالغ فيها باكتساب هذا اللقب “الحاج” لدى بعض الأسر من قبيلة الهوسا والفلاني في نيجيريا وغيرهما من المسلمين من أبناء قبيلة اليوربا، حيث ينخلعون بترك أسمائهم الأساسية والاكتفاء بلقب الحاج، أو تحويله إلى الاسم الأساسي له، كحال شخصية “الحاج الحاج” وهو شخصية سياسية مرموقة في الحكومة النيجيرية، وقد وصل هذا الاتجاه المتنامي في التفاخر بهذا اللقب إلى أن أصبح صفة مميزة في الوسط الاجتماعي حتى شاعت ألقاب مثل “الحاج بن الحاجة” وغيرها كثير.
تنازل المسميات الأسرية: تجذرت تلك الدلالة العميقة للحاج وألقت بظلالها الكثيفة على الحياة الأسرية والزوجية تحديدا حيث نرى أن كثيرا من الأزواج يفضلون لقب الحاج في النداء على الكنية بأبي فلان أو أم فلانة!! وذلك بغض النظر عن المرحلة العمرية التي قد يكون عليها الأزواج، ومن الطريف أن كثيرا من الأسر ينشأ الأولاد فيها على هذا الوضع فيستخدم الولد في نداء أبيه “الحاج” بدلا من كلمة “أبي”!.
كثرة الحج هي الأخرى لها دلالتها ورمزها في التفوق الاجتماعي حيث يعتبرون ذلك زيادة وتفوقا في درجات القرب والمشاهدة لبيت الله؛ الأمر الذي يجلب صيتا غير عادي ومرتبة رفيعة لصاحبه في المجتمع المحلي كما هو الحال لدى قبيلة اليوربا؛ فهناك من يلقب بـ”كثير الحج” و”مرتاد مكة” وغيرهما.
الحاج.. والملامح المظهرية
من الملامح المادية للأبعاد القيمية التي تحملها كلمة “الحاج” في السياق المحلي الإفريقي أن لمن يحملها مظهرا يختص به ومتعلقات تتبع حمل هذا اللقب حسب التوقعات الاجتماعية الإفريقية، لا سيما خلال الفترة الزمنية المباشرة لعودته من الأراضي المقدسة، يأتي في مقدمتها مظهره ونوعية ملابسه مما يقع محل عناية ومراقبة كبيرين من الجمهور المحلي، وغالبا ما ينتظر منه أن تتلاءم ملابسه مع اللباس السائد المعتاد في بلاد الحرمين، لذا نجده مغرما بارتداء الجلابية وعلى رأسه شماغ أو غطرة يلبس فوقها عقالا، وقد شاع بين الحجاج الأفارقة ارتداء نوعية خاصة يطلق عليها “مكاوية” نسبة إلى مكة المكرمة والتي اعتاد الأفارقة على استبدالها بالطواقي المحلية المختلفة بعد عودتهم من الحج، لتبقى ذكرى دائمة ورمزا ودلالة على الارتباط بتلك الأماكن المقدسة، ولعل هذا يفسر دوافع حجاج إفريقيا نحو اقتناء أنواع مختلفة منها، كما نجد فيهم حرصا وتسابقا محموما لتركيب الأسنان الذهبية -على الرغم مما فيها من الكلفة والمشقة- كأحد أبرز جوانب الاهتمام بالملامح المظهرية برحلة الحج والارتباط ببلاد الحرمين.
عودة الحاج .. الاحتفال الشعبي
عودة الحاج من بلاد الحرمين لها مذاق متميز في السياق المحلي الإفريقي ومن العادات والتقاليد الخاصة باستقبال الحاج ظاهرة التسابق بين أقاربه وإخوته على القيام بعملية تجديد وإعداد المنزل، وفي يوم قدومه تأخذ مراسم استقباله جوانب متعددة فيها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي فضلا عن الطابع الديني المعهود، حيث يتم استقبال الحاج وسط احتفال شعبي وأفواج من الحشود والمعارف يصطفون على جانبي الطريق المؤدية لمنزله، يرددون أناشيد دينية وغالبا من نوع خاص يطلق عليها “واكا” لدى قبائل الهوسا واليوربا وهي أشبه ما تكون بالتواشيح، يدور مضمونها حول مبررات الاحتفاء بمقدم وعودة الحاج، على حسب هذه القطعة المترجمة من “واكا” يوربا:
“حق لنا الفرح والحمد بمقدم حاجنا
بمقدم شاهد عيان لبيت الله
بمقـدم حاجــنا المـــبرور
كل الخـير لــنا بقدومـه”
الحاج.. موعد مع أول جمعة
لأول جمعة بعد عودة الحاج لأهله قصة شهيرة بين المسلمين الأفارقة إذ يعتبر ذلك اليوم بمثابة الاحتفال بميلاد هذا الإنسان من جديد. الإعداد للاحتفاء بهذه المناسبة يستغرق أسابيع قبل وصول الحاج، نظرا لكثرة المظاهر الاجتماعية المصاحبة لهذا الاحتفال، ومن المفارقة العجيبة أن الاهتمام المبالغ فيه بتلك الترتيبات قد يؤخر الحاج ويحبسه داخل بيته أياما بل أسابيع ويمنعه من حضور صلاة الجمعة، ومن المظاهر الملازمة لهذا الجو ارتداء زي موحد لأقارب ومعارف الحاج، ويتوسط الحاج هذا الحشد في موكب شعبي تتقدمهم فرقة المداحين والمنشدين الدينيين، بحيث تمتزج فيه أصوات الدفوف والأبواق في جو من المرح والفرح والابتهاج بعودة صاحبهم من بلاد الحرمين، وهذا الحشد الشعبي على موعد مع وليمة خاصة بعد الجمعة في بيت الحاج.
ولا يقل موقف الجوامع والمساجد إيجابية من هذا الاحتفاء حيث تخصص الصفوف الأول للحجاج الجدد علاوة على تخصيص فترة ما بعد الصلاة للقاء جماهيري شعبي مع هؤلاء الحجاج لإعطاء نبذة عن مشاهداتهم في الأراضي المقدسة والانطباعات التي تركتها تلك الزيارة على رؤيتهم للعرب وأهل مكة، وليس من قبيل المبالغة إذا قلنا إنه على الرغم من تعدد مناطق التركيز والقضايا والمسائل التي يثيرها ويوردها هؤلاء، فالإعجاب الشديد والتوصيفات الإيجابية هي سيدة الموقف، ومن الملاحظ أنه حتى في حالة إيراد توصيفات غير إيجابية على الرغم من قلتها فسرعان ما ينسبونها إلى الوافدين للحج من غير أهل بلاد الحرمين والعرب عامة.
“طاقية مكاوية”
تداعيات رحلة الإنسان الإفريقي لأداء الحج ومضاعفاتها على واقع الحياة وممارسته هي الأخرى تقع محل الاهتمام لدى الوسط الاجتماعي الإفريقي، حيث نجد الشارع الإفريقي -على الرغم من التعددية الدينية الموجودة فيه- حريصا على إبقاء “الحاج” على نظافته الروحية من خلال تجنيبه لكل ما يشوه أو يشوب الشرف المكتسب من الحج، ونرى ذلك على المستوى الوظيفي في القطاع العام الحكومي حيث يتم استثناء الموظف “الحاج” من الأعمال والتكليفات التي قد لا تتوافق ومكانة “تاج بيت الله المنصوب على رأسه” ويقصدون بذلك “طاقية مكاوية” لذا تمثل تلك الطاقية حاجزا وحصانة معنوية له، من الاقتراب من المحاذير والتجاوزات لكونه يقع محل مراقبة شديدة من الرأي العام والجماعة المحيطة به.
وفي المقابل نجد أنه في حالة توبيخه على أي تجاوز أو مخالفة فإن المعاتبة ولهجتها مشددة وبدرجة أكثر حدة، مما يجعل من يلبس “طاقية مكاوية” يضع رقابة ذاتية شديدة على نفسه، تجنبا للهجوم والتشهير والتوبيخ.
وتبقى ذكريات الحج في السياق المحلي الإفريقي والدلالات التي تحملها تلك الذكريات في عمق الذاكرة المركزية في معظم المجتمعات الإفريقية أكثر وأدوم بقاء بالإضافة إلى أنها الأكثر جدوى في رسم صورة ذهنية إيجابية بشكل مطلق على مدارك الأفارقة ومخيالاتهم عن العرب والبلاد العربية، والشيء الذي يجب أن يتم أخذه في الحسبان في التخطيط الطويل المدى لإستراتيجيات مستقبل العلاقات الثقافية بين العرب والأفارقة.
الخضر عبدالباقي محمد5>