في بيت كريم الأصل معروف بالفضل، متصل بالعلم ولد علي بن الحسن بن هبة الله، الشهير بابن عساكر في (غرة المحرم من سنة 449 هـ = 13 من سبتمبر 1105م)، وكان أبوه تقيا ورعًا، محبًا للعلم ومجالسة العلماء ومصاحبتهم، وكانت أمه من بيت علم وفضل، فأبوها “أبو الفضل يحيى بن علي” كان قاضيا، وكذلك كان أخوها “أبو المعالي محمد بن يحيى” قاضيًا.
وقد رزق الوالدان الكريمان قبل ابنهما علي بولد كان له شأن هو أبو الحسين الصائن هبة الله بن الحسن، كان من حفاظ الحديث، رحل في طلبه إلى بغداد، وعُني بعلوم القرآن واللغة والنحو، وجلس للتدريس والإفتاء.
تنشئته وتعليمه
في مثل هذا الجو المعبّق بنسمات العلم نشأ ابن عساكر ودرج، وكانت أسرته الصغيرة هي أول من تولى تعليمه وتهذيبه، وأحاطته بعنايتها، فسمع الحديث من أبيه وأخيه وهو في السادسة، ثم تتلمذ على عدد ضخم من شيوخ دمشق وعلمائها، وكانت آنذاك من حواضر العلم الكبرى في العالم الإسلامي، وتلقى على أيديهم عددا كبيرا من أمهات الكتب في الحديث والتاريخ.
قرأ على أبي الفرج غيث بن علي الصوري تاريخ صور، وجزءا من كتاب تلخيص المتشابه للخطيب البغدادي، وقرأ على عبد الكريم بن حمزة السليم كتاب الإكمال لابن ماكولا، ومشتبه النسبة لعبد الغني بن سعدي، وقرأ على شيخه أبي القاسم النبيه كتاب المجالس وجواهر العلم لأحمد بن مروان الدينوري، وتلخيص المتشابه للخطيب البغدادي، وقرأ على أبي محمد بن الأكفاني كتاب المغازي لموسى بن عقبة، وكتاب المغازي لمحمد بن عائذ الدمشقي، وأخبار الخلفاء لابن أبي الدنيا، وغيرها.
ولم ينشغل ابن عساكر في فترة حياته الباكرة إلا بطلب العلم فانصرفت همته إليه، وانشغلت نفسه به، ولم يصرفه عنه صارف، ولم يترك عالما ذا شأن في دمشق إلا اتصل به وقرأ عليه، ولم تسنح له فرصة من وقت إلا شغلها بالقراءة والدرس، حيث كان في سباق مع الزمن حتى يحصل ما تصبو إليه نفسه من العلوم والفنون.
الرحلة في طلب الحديث
بدأ ابن عساكر رحلاته سنة (520 هـ = 1126م) إلى بغداد، ثم اتجه منها إلى الحجاز لأداء فريضة الحج وزيارة النبي (ﷺ)، ولم تطل إقامته في المدينتين المقدستين حيث كر راجعًا إلى بغداد؛ لمتابعة دروسه في المدرسة النظاميةببغداد.
وفي فترة إقامته التي استغرقت خمس سنوات قابل في أثنائها عددًا كبيرًا من أئمة العلم، وقرأ عليهم عشرات الكتب العظيمة ذات المجلدات الضخمة، فاتصل بأبي غالب بن البنا، وقرأ عليه كتاب نسب قريش للزبير بن بكار، وكتاب التاريخ لابن أبي خيثمة، وبعضا من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، وقرأ على أبي القاسم بن الحصين مسند أحمد والغيلانيات، ودرس على أبي بكر محمد بن عبد الباقي الطبقات الكبرى لابن سعد، والمغازي للواقدي، ولزم أبا القاسم بن السمرقندي وسمع منه كتبًا كثيرة، منها: سيرة ابن إسحاق، وكتاب الفتوح لسيف بن عمر، وتاريخ الخلفاء لابن ماجه، ومعجم الصحابة لأبي القاسم البغوي، والمعرفة والتاريخ للنسوي، والكامل في الضعفاء لابن عدي.
عاد الحافظ ابن عساكر إلى دمشق سنة (525 هـ = 1130م)، واستقر بها فترة عاود بعدها رحلته مرة أخرى سنة (529 هـ = 1134م) إلى إيران وخراسان وأصبهان وهمذان وأبيورد وبيهق والري ونيسابور وسرخس وطوس ومرو، سمع في أثنائها عددًا كبيرًا من الكتب على كبار الحفاظ والمحدثين في بلاد المشرق، مثل: سعيد بن أبي الرحاء، وزاهر بن طاهر الشحامي، ثم عاد إلى دمشق سنة (533 هـ = 1138) وقد طبقت شهرته الآفاق، وقصده طلاب العلم من كل مكان، وانصرف إلى التأليف والتصنيف.
تاريخ دمشق
شغل أبو عساكر نفسه بالعلم مذاكرة وتحصيلا، وجعله هدفا لا يصرفه عنه شيء، ولم يجعله وسيلة لتولي منصب أو طمعًا في مال أو جاه، أعطاه نفسه ولم يبخل عليه بجهد، فكافأه الله سعة في التأليف، وصيتًا لا يزال صداه يتردد حتى الآن، ومكانة في العلم تبوأها في المقدمة بين رجالات العلم في تاريخ الإسلام.
وخلال التدريس وضع ابن عساكر مؤلفات كثيرة، لكن مؤلفًا منها قد ملك عليه فؤاده، وانصرفت إليه همته الماضية منذ أن اتجه إلى طلب العلم، فبدأ يضع مخططًا لكتابه الكبير “تاريخ دمشق”، يضاهي به عمل الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” الذي صار نموذجًا للتأليف في تاريخ المدن، يحتذيه المؤلفون في المنهج والتنظيم.
استغرق التفكير والتأليف في تاريخ دمشق وقتا طويلا من حياة مؤلفه، وصاحبه منذ فترة مبكرة من حياته، فكرة في الذهن، ثم مخططًا على الورق، وشروعًا في التنفيذ، فهو لم يؤلفه في صباه وشبابه ولم ينجزه في كهولته، وإنما شغل حياته كلها، ولم يفرغ منه إلا بعد أن وهن جسده وكلّ بصره.
وكان العمل ضخمًا يحتاج إنجازه إلى أعمار كثيرة، وكاد المؤلف ينصرف عن إنجازه وإتمامه، لولا أن خبر هذا الكتاب تناهى إلى أسماع “نور الدين محمود” حاكم دمشق وحلب؛ فبعث إلى الحافظ ابن عساكر يشحذ همته ويقوي من عزيمته، فعاد إلى الكتاب وأتمه سنة (559 هـ = 1163م)، ثم قام ولده القاسم بتنقيحه وترتيبه في صورته النهائية تحت بصر أبيه وعنايته، حتى إذا فرغ منه سنة (565 هـ = 1169م) قرأه على أبيه قراءة أخيرة، فكان يضيف شيئا، أو يستدرك أمرًا فاته، أو يصوب خلطًا، أو يحذف ما يراه غير مناسب أو يقدم موضعًا أو يؤخر مسألة، حتى أصبح على الصورة التي نراها الآن بين أيدينا.
موضوع الكتاب ومنهجه
جاء الكتاب في النهاية في ثمانين مجلدة، تبلغ حوالي ستة عشر ألف صفحة مخطوطة، خصص المؤلف القسم الأول من كتابه لذكر فضائل دمشق، ودراسة خططها ومساجدها وحماماتها وأبنيتها وكنائسها، وكان هذا كالمقدمة لكتابه الكبير، ثم أخذ في الترجمة لكل من نبغ من أبنائها أو سكن فيها، أو دخلها واجتازها من غير أبنائها من الخلفاء والعلماء والقضاة والقراء والنحاة والشعراء.
وقد تتسع حلقة دمشق في منهج ابن عساكر لتشمل الشام أحيانًا فيترجم لمن كان في صيدا أو حلب أو بعلبك أو الرقة أو الرملة، وكما اتسعت لديه دائرة نطاق المكان اتسعت دائرة الزمان، فامتدت من زمن أقدم الأنبياء والمرسلين إلى عصر المصنف.
ومنهجه في الكتاب هو منهج المحدثين، فقد اعتمد في الرواية على السند مهما طال أو تعدد، فلا يذكر خبرًا إلا ويسبقه إسناده، وقد يكرر الخبر الواحد ما دامت هناك فائدة من زيادة أو توضيح. واتبع في التراجم التنظيم الألفبائي المعروف، مراعيًا في ذلك أسماء الآباء بعد أسماء المترجمين، لكنه بدأ التراجم بمن اسمه “أحمد”؛ تيمنًا باسم رسول الله (ﷺ)، وبعد أن فرغ من التراجم المرتبة أسماؤها ترتيب المعجم، أورد من عُرف من الرجال بكنيته فقط، مراعيًا في ذلك الترتيب الألفبائي أيضا، ثم أعقب ذلك بالمجاهيل ممن عُرفت لهم رواية ولم يعرف لهم اسم، ثم ختم الكتاب بتراجم النساء، ملتزمًا المنهج نفسه في الترتيب والتنظيم، وقد خصهن بمجلد مستقل، اتسع لمائة وست وتسعين ترجمة من شهيرات النساء في العلم والأدب والغناء.
موارد ابن عساكر
اعتمد ابن عساكر في جمع مادة كتابه الضخمة على ثلاثة أنواع من المصادر: السماع من شيوخه وهم يعدون بالمئات روى عنهم وقرأ عليهم، ثم المكاتبة والمراسلة معهم، ثم الاعتماد على مؤلفات السابقين، ويحتاج إحصاء هذه الموارد التي نهل منها ابن عساكر إلى جهد جهيد، نظرًا لضخامة الكتاب، وحسبك أن تعلم أن المجلدة الأولى من الكتاب، أخذت مواردها عن مائة وستة وخمسين شيخًا بالسماع، وعن ستة عشر شيخًا بالمكاتبة، وأربعة عشر كتابًا من بينها كتب البلاذري والواقدي والبخاري والجشهياري.
ولعل من أهم ما صنعه ابن عساكر أنه حفظ لنا بكتابه المؤلفات والمصادر المتفرقة التي كتبها الدماشقة وغيرهم حول تاريخ دمشق في القرون السابقة ثم أتى عليها الضياع، كما رسم صورة لبلاد الشام وحركة السياسة بها، وازدهار الحضارة العربية، والنشاط الثقافي الذي كانت تموج به دمشق منذ أن فتحها المسلمون.
وقد لقي الكتاب عناية واهتمامًا بدءا من جهود القاسم ابن المؤلف، الذي ذيله وانتخب منه، ثم قام عدد من العلماء باختصار الكتاب، مثل ابن منظور المتوفى سنة (711 هـ = 1311هـ) الذي صنع مختصرًا لتاريخ دمشق، وعلى الرغم من كونه اختصارًا فقد جاء في 29 مجلدًا حين طُبع أخيرا محققًا في دمشق، وفي العصر الحديث قام “عبد القادر بدران” المتوفى سنة (1346 هـ = 1927م) بعمل تهذيب للكتاب، لكنه لم يكمله.
المؤلفات الأخرى لابن عساكر
ولابن عساكر مؤلفات أخرى كثيرة غير تاريخ دمشق، ومن ذلك:
1- تبيين كذب المفتري فيما نُسب إلى أبي الحسن الأشعري، والكتاب مطبوع.
2- الأربعون البلدانية، وقد طبع بتحقيق محمد مطيع الحافظ في دمشق.
3- الأربعون في مناقب أمهات المؤمنين، وقد طبع محققًا بعناية محمد مطيع الحافظ في دمشق.
4- الإشراف على معرفة الأطراف، والكتاب لا يزال مخطوطًا.
5- ترتيب الصحابة في مسند أحمد، والكتاب مخطوط لم يطبع بعد.
وله عدة مجالس مخطوطة في ذم من لا يعمل بعلمه، وفي التوبة، وذم قرناء السوء، وفي سعة رحمة الله، وفي فضل سعد بن أبي وقاص، وفضل عبد الله بن مسعود ، وقد طبع مجلسان من هذه المجالس بتحقيق محمد مطيع الحافظ. وهذه المجالس أشبه بالرسائل الصغيرة.
أسرة ابن عساكر
كان بيت الحافظ ابن عساكر معمورًا بالعلم، فامتد إلى كل فرد من أفراده، واستطاع الإمام الحافظ بأخلاقه الكريمة وسماحه نفسه أن تقتدي به أسرته، وتسير على منواله، فابنه القاسم كان حافظًا من حفاظ الحديث، أتم عمل أبيه ونقّحه وقرأه عليه، وزوجة الإمام وأم أبنائه “عائشة بنت علي بن الخضر” كان لها شغف بالحديث، فكان الزوج الكريم يحضر لها محدثات يسمعنها الحديث، ثم يسمع منها أبناؤها ويتلقون عنها كما يتلقون عن أبيهم، وشاء الله أن تتوفى هذه السيدة الكريمة قبل زوجها في سنة (564 هـ = 1168م) فتركت في نفسه أسى وحسرة.
وظل الإمام محل تقدير الناس والولاة، فكان يحضر مجالسه نور الدين محمود سلطان دمشق الذي قربه وبنى له “دار السنة” وكان “صلاح الدين الأيوبي” يجله ويحضر مجالس تدريسه، ومكث الإمام ابن عساكر يؤدي رسالته حتى لبّى نداء ربه في (11 من رجب 571 هـ = 26 من يناير 1776م).
أحمد تمام
من مصادر الدراسة:5>
ابن خلكان: وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس – دار صادر بيروت – 1972م.
الذهبي: سير أعلام النبلاء – مؤسسة الرسالة – بيروت – (1412 هـ = 1992م).
عبد الوهاب السبكي: طبقات الشافعية الكبرى – تحقيق محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو – دار هجر – القاهرة – (1413 هـ = 1992م).
شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون – دار العلم للملايين – بيروت – 1983م.
ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق (تراجم النساء) تحقيق سكينة الشهابي – دمشق – 1982م.