الحج هو الشعيرة الخامسة من شعائر الإسلام الكبرى، رحلة يطوي فيها المسلم بعده عن البيت العتيق؛ ليتفقد سيرة أبيه إبراهيم، ورسوله الكريم، يحدوه فيها الشوق والوجد، وتغمره خلالها مشاعر الرضا والفرحة، ويستشعر فيها ضعفه وحاجته، ويتجسد أمامه ضعف العبودية، ويرى بعين قلبه عظمة الربوبية، تاركا وطنه وأهله وماله، متوجها بقلبه وجسده وعقله إلى الله، طالبا منه العفو والصفح والقبول دون سواه. وفي هذه المقالة سنتعرف على الحج في فكر الشيخ محمد الغزالي.
عند التطرق إلى الحج في فكر الشيخ محمد الغزالي، نجد أن الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله تحدث عن هذه الشعيرة العظيمة حديثا لا تكاد تجده على هذا النحو عند أحد من علمائنا رضي الله عنهم وقدم فيه أفكارا جديدة، وأشار إلى لفتات إيمانية وروحية، ووضع أيدينا على جوانب اجتماعية وسياسية لا يسعنا إلا أن نقف أمامها نأخذ الموعظة البليغة والعبرة النافعة من هذه النظرة الفريدة التي تمثلت فيما يلي:
- الحج نداء قديم جديد
- الحج طاعة مطلقة وانقياد تام وتناغم كامل
- أفعال الحج ترتبط بأحكأم لا ينكرها العقل
- الحج وفاء وتلبية وإخلاص
- الحج وحدة وتجرد
- الحج ثقة في الله وتوكل عليه
- الحج يجمع بين العقل والعاطفة
- ذكر الله أساس في مناسك الحج
أولا: الحج نداء قديم جديد:
في زحمة الحياة ومعركة الخبز التي تسود الأرجاء وترهق الأعصاب، وفي زحام الحياة والناس يلهثون وراء مآربهم القريبة والبعيدة، كان هناك أشخاص آخرون يخلصون بأنفسهم بعيدا، ويصغون إلى نداء آخر يجيء من وراء القرون، ويتردد صداه على اختلاف الليل والنهار، هو في نظر الشيخ نداء قديم جديد.
قديم لأن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام أول من أعلنه، وصدع بأمر الله حين قال له: “وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ”. الحج: 27. وجديد لأن خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله ﷺ ندب إليه وقاد قوافله ووضع مناسكه وبين ما رصد الله له من جوائز وربط به من منافع، وكان آخر عهده بالجماهير الحاشدة وهي تصيح إليه في حجة الوداع يزودهم بآخر وصاياه وأحفلها بالخير والبر[1].
ثانيا: الحج طاعة مطلقة وانقياد تام وتناغم كامل:
والحج في فكر الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله طاعة مطلقة لله تعالى، وانقياد لأمره، وتناغم بين الحجيج والملكوت والكائنات جميعا، فوفود الحج وهي تنطلق صوب البيت العتيق مخلفة وراءها مشاغل الدنيا، وهاتفة بأصواتها خاشعة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك إن هذه الوفود تؤكد ما يجب على الناس جميعا لله سبحانه وتعالى من طاعة مطلقة، وانقياد تام، وذكر وشكر، وتوحيد وتمجيد.
ويتساءل الشيخ في هذا الصدد قائلا: هل العالم يتذوق هذه المعاني؟ ويستشعر حلاوتها؟ كلا، فما أكثر التائهين عن الله، والمتمردين على حقوقه، ما أكثر العابدين بغير ما شرع، والحاكمين بغير ما أنزل، إن هؤلاء العاصين نغمة شاذة في كون يسبح بحمد ربه: “أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ”. آل عمران: 83.
دع عنك هؤلاء التائهين، وارمق الوفود المنطلقة صوب مكة تجأر بالتلبية، ويسير بها البر والبحر والجو، إن جؤارها بالتلبية يصدقه كل شيء في البر والبحر والجو، فالمُلبِّي حين يرفع عقيرته مناجيا ربه ومصدقا أخاه، ومقررا أشرف حقيقة في الوجود يتجاوب معه الملكوت الساجد طوعا وكرها، أو يتجاوب معه الملكوت الذي يبارك رحلته ويحترم حجته، فلا عجب أن يتجانس الكون المسبح بحمد الله مع إنسان انخلع عن نفسه، وانطلق في سفر صالح يبتغي مرضاة الله.
وفي هذا يقول الرسول ﷺ: “ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وها هنا[2].
إنه هتاف ينفرد به أتباع محمد ﷺ وحملة راية التوحيد، أما غيرهم فهم بين معطل ومشرك وجاحد ومنحرف، إن لهم هتافا آخر يمثل عبوديتهم للتراب ولما فوق التراب من دنايا وخزعبلات[3].
ثالثا: أفعال الحج ترتبط بأحكأم لا ينكرها العقل:
وإذا كان الحج طاعة مطلقة وانقيادا تامًّا فليس معنى ذلك أن العقل ليس له مدخل في شعائره ومناسكه يتذوقها ويقف على الحِكَم المستفادة منها، فكثير من الناس يظن أن أفعال الحج ومناسكه مبهمة وغامضة، وأن الله جل شأنه اختبر الناس بما يعقلون فسمعوا وأطاعوا، فاختبرهم بما لا يعقلون حتى يتبين له كيف يسمعون وكيف يطيعون.
ويؤكد الشيخ الغزالي أن هذا كلام بعيد عن الصحة؛ إذ الواقع أن أعمال الحج لها حكم معقولة، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها، وينبغي أن تدرس هذه الحكم بأناة، وأن تعرف حقائقها حتى يدرك الناس أن الإسلام ليس دين أوهام أو أضغاث أحلام، هذا دينٌ كلُّ شيء فيه له حكمته وله معناه.
فمن مناسك الحج الطواف بالبيت، هل له حكم معقولة؟ ويذكر الشيخ الغزالي أربع نقاط في هذا المنسك توضح معقوليته والحكمة منه:
الأولى: أن هذا البيت هو أول بيت وضع للناس، وزاده الله تشريفا، فمن حق أول بيت أقيم ليكون قلعة التوحيد، ومثابة للموحدين، وملتقى للمؤمنين المخلصين، من حقه أن تكون له مكانة خاصة؛ ولهذا يجيئه الرواد من كل أفق، والحجاج من كل فج، يطيرون إليه كما تطير الحمائم إلى أوكارها، في أفئدتهم حنين، وفي قلوبهم مشاعر ملتاعة.
الثانية: أن المسلمين في المشارق والمغارب في الشمال والجنوب يولون وجوههم شطر هذا المسجد في كل صلاة تقام في القارات كلها، ومن حق الذين اتخذوا المسجد قبلة لهم أن يبعثوا كل عام منهم الوفد المستطيع لكي يرى قبلته، كي يحج إليها ويزورها.
الثالثة: أن هذه الأمة الإسلامية إنما ولدت في التاريخ إثر دعوة صالحة مستجابة للأنبياء الذين وضعوا حجر الأساس في هذا البيت العتيق ونهضوا به وأعلوا دعائمه: “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ”. البقرة: 127129. “وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ” هي أمتنا، “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ” هو رسولنا ﷺ صاحب الإمامة العامة في محراب العبادة لخلق الله كلهم، فمن حقنا، ونبيِّنا وأمتنا وتاريخنا نتيجة دعوة في بناء هذا البيت، أن نزور هذا البيت، وإذا لم يحج المسلمون إلى البيت الذي بدأ عنده تاريخهم فأين يحجون؟ وإذا لم يقصدوا البيت الذي كان نبيهم دعوة مخبوءة في ضمير عند بنائه استجابها الله وباركها، فأين يقصدون؟.
الرابعة: أن الله عز وجل أراد أن يكرم الأمة العربية، فكرمه بأنه حمل الرسالة الخاتمة، وعندما أمر الناس أن يتوجهوا لهذا البيت العتيق قال لنا نحن الذين نقرأ القرآن وننطق باللغة العربية أنا فعلت هذا تشريفا لكم، وإتماما للنعمة عليكم، كما شرفناكم بابتعاث النبي الخاتم منكم عليه الصلاة والسلام[4]. وقد قال الله تعالى: “كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ”. البقرة: 151.
على أن من يزور البيت لا يعبد البيت إنما يعبد رب البيت، والطواف كما أجمع العلماء صلاة لابد لها من طهارة البدن، ولابد فيها من خلوص القلب لله، ومن زعم أن الكعبة كلها أو بعضها يضر أو ينفع فهو خارج عن الإسلام، ومن هنا نفهم ما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله، فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي ﷺ يقبلك ما قبلتك[5].
وإذا كان بعض المغفلين يزعم أن تقبيل الحجر الأسود نوع من الوثنية فليكن تقبيل الملوك والرؤساء لأعلام دولهم نوعا أيضا من الوثنية ومن عبادة الأقمشة!! من قال هذا؟ إذا كان الأمر لا يعدو ترجمة لمشاعر الولاء لله فليس في هذا شيء، ونحن في هذا نلتزم ما ورد[6].
ومن حق رب البيت أن يضع طريقا لزيارة بيته، فإذا جعلها طوافا من سبعة أشواط فليس في الأمر ما يستغرب، ففي طول الدنيا وعرضها توضع طرائق شتى للاستقبالات والاستعراضات[7].
ومن مناسك الحج التي يظنها كثير من الناس غير معقولة: السعي بين الصفا والمروة وفي بيان الحكمة منه يقول الشيخ: إن الإنسان مادي حسي، والأسباب الحسية هي التي تملكه أو هي التي تحكمه، يوم يكون في يده مال يقول: مالي في يدي، فهو يعتز به، لكن يوم يكون المال وعدا في الغيوب، وأملا في المستقبل، ورجاء عند الله، فإن قلبه يضطرب، ويقول ليس معي شيء.
والحق أن الرزق غيب، ولا يؤمن برزق الله إلا أصحاب الإيمان الراسخ، والنصر غيب، ولا يؤمن بنصر الله إلا أصحاب الإيمان الراسخ… هذا النوع من الإيمان قلما يوجد، لكنه عدة المصلحين، كلما أظلم الليل عليهم ولم يجدوا بصيصا من نور اطمأنوا إلى أن فجرا سيجيء فهم ينتظرون بريقه بثقة.
يشير الشيخ بهذا إلى موقف هاجر عندما تركها زوجها إبراهيم صلوات الله عليه مع ابنها في وادي مكة المجدب والموحش حيث لا أنيس ولا جليس ولا زاد، وليس هناك إلا القدر المرهوب، وقالت له الزوجة الصالحة: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. فقالت: إذن لا يضيعنا.
وبدأ الرضيع يتلوى جوعا وعطشا، وبدأت الأم تهرول يمينا وشمالا، ثم جاء الملك وغمز بجناحه الأرض فتفجرت زمزم، وشرب الرضيع، وشربت الأم، وبدأ الخير.
أكانت هذه المرأة تدرك أن ابنها هذا سيكون من ذريته نبي خاتم؟ سيكون من ذريته شعب كبير؟ سيكون من أثره حضارة تظلل الأرض برحمتها وسناها؟!!
من هنا يجيء الاختبار، فإذا كُلِّف الناس أن يفعلوا ما فعلت أم إسماعيل فلكي تتجدد في مسالكهم عواطف الاتكال على الله، الثقة في الله، الإيمان بأن ما عنده أهم مما عندي، ما عندي قد يحرق، قد يسرق، لكن ما عنده لا حرق ولا سرق[8].
وقس على ذلك باقي المناسك، فالحج عبادة رقيقة محبوبة أساسها الوقوف بعرفة، والطواف حول البيت، وبعض شعائر أخرى يمكن استيعابها بيسر دون قلق أو حرج، وعند التأمل في أصل المنسك وما يتركه في القلب من مشاعر، وما يستودعه العقلَ من دلالات نقف على الحكم المتعددة التي تستفاد من كل منسك.
رابعا: الحج وفاء وتلبية وإخلاص:
فالحج وفاء لنداء إبراهيم عليه السلام، وتلبية لأوامر الله تعالى، وتجرد وإخلاص لا شرك فيه، إنهم يجيئون ليترجموا عن وفائهم ويقينهم، ولتبقى دورات التاريخ متصلة المبنى والمعنى، لا يمر عام إلا أقبلت الوفود من كل فج كأنها الحمائم تنطلق من أوكارها، يحثها الشوق إلى مهاد التوحيد وحصنه: “ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ”. الحج: 32.
وليس للطائفين نجوى إلا مع الله وحده، شغلهم الشاغل ترديد الباقيات الصالحات، والتقدم بضعف العبيد إلى القوي الكبير أن يجيب سؤالهم ويحقق رجاءهم، ماذا يقولون؟ سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ثم يدعون: “رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”. البقرة: 201….
إن الوفود القادمة من القارات الخمس على اختلاف لغاتها وألوانها وأحوالها يجمعها شعور واحد، وتنتظمها عاطفة دينية مشبوبة، وهي تترجم عن ذات نفسها بتلبية تهز الأودية! ويتحول ما أضمرته من إخلاص إلى هتاف بسم الله وحده، لا ذكر هنا إلا لله، ولا جؤار إلا باسمه! ولا تعظيم إلا له! ولا أمل إلا فيه! ولا تعويل إلا عليه.
إن المسافات تقاربت بل انعدمت، بين ذكر لله يمر بالفؤاد كأنه خاطرة عابرة، وبين ذكر لله يدوي كالرعد القاصف من أفواج تتدافع إلى غايتها لا تلوي على شيء، ولا يعنيها إلا إعلان ولائها لله الذي جاءت لتزور بيته[9].
إن الإنسانية واحدة من آدم إلى إبراهيم إلى محمد، شرفُها في معرفتها لله وولائها له وحده، وجَهْدُ الشيطان تعكيرُ هذه المعرفة وتقطيع ذلك الولاء، وقد كان إبراهيم نموذجا للنبوات الأولى في حرب الأوثان ومطاردة الشيطان، وقد بنى في مكة هذا البيت الخالد شعارا للتوحيد، ومنارا للعبادة المجردة، ثم جاء خاتم المرسلين فأرسى القواعد لألوف مؤلفة من المساجد التي تتبعه في الوسيلة والهدف، فلا غرابة إذا ارتبطت به وجاء أهلوها في كل عام يجددون العهد[10].
ولا يقال بحال من الأحوال إن بعض الطقوس والمناسك فيها نوع من الشرك أو الوثنية، كالطواف بالبيت، أو تقبيل الحجر، أو غير ذلك؛ لما تقدم، ولأننا نلتزم في ذلك كله أمر الله وأمر رسوله صلوات الله عليه، بل كل لمحة من لمحات الحج تشي بالتوجه الصادق والتوحيد الخالص والإخلاص الكامل.
خامسا: الحج وحدة وتجرد:
ليست هنالك شعيرة من شعائر الإسلام يتمثل فيها معنى الوحدة كما يتمثل في شعيرة الحج، حيث القبلة الواحدة والزي الواحد والرب الواحد والهتاف الواحد، والتجمع الرهيب المهيب يوم عرفة.
يقول الشيخ: إن مناسك الحج تنمية لعواطف المسلمين نحو ربهم ودينهم، وماضيهم وحاضرهم، ويكفي أنها تجمعهم من أطراف الأرض شعثا غبرا لا تفريق بين ملك وسوقة، ولا بين جنس وجنس، ليقفوا في ساحة عرفة في تظاهرة هائلةٍ، الهُتافُ فيها لله وحده، والرجاء في ذاته، والتكبير لاسمه، والضراعة بين يديه، فقر العبودية ظاهر، وغنى الربوبية باهر، ومن قبل الشروق إلى ما بعد الغروب لا ذكر إلا لله، ولا طلب إلا منه سبحانه[11].
إن هذه الحشود المتكاتفة يمكن أن تُكَون مظاهرة متلاطمة الأمواج، الهتاف فيها ليس لبشر، إنما الهتاف فيها لرب الأرض والسماء، لا يملأ أذنيك إلا طنينٌ ضخم من كل ناحية بين تلبية وتكبير وتقديس وتمجيد، الحناجر تنشق بالهتاف لله وحده طلبا لرضاه، وانتظارا لجداه، ورغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه[12].
وفي موسم الحج تلتقي مكة بالوفود المقبلة من كل فج عميق، تلتقي بأفراد الإنسانية الموحدة المهتدية المحبة لله وللمسجد الأول أبي المساجد في القارات كلها تتصافح الوجوه وتتعارف النفوس على تلبية النداء الصادر بحج البيت، النداء الذي صدر من قديم، وزاده الإسلام قوة ووحدة[13].
ويوم عرفة فريد في معناه ومظهره، لا تسمع فيه إلا تأوهات التائبين، وأنين الخاشعين، وضراعة المفتقرين، إنها الإنسانية المستجيرة بربها، النازلة بساحته مؤملة في خزائن لا تنفد، وعطف لا يغيض[14].
وذلك أن الحاج إنسان متبتل إلى الله، متلهف على رضاه، متطلع إلى مثوبته، متخوف من عقوبته، يتحرك كل شيء في بدنه بمشاعر الشوق والرغبة والحب، ولا أعرف تجمعا أهلا لرحمة الله ومغفرته كهذا التجمع الكريم[15].
سادسا: الحج ثقة في الله وتوكل عليه:
إن التوكل شعور نفيس غريب، وهو أغلى من أن يخامر أي قلب، إنه ما يستطيعه إلا امرؤ وثيق العلاقة بالله، حساس بالاستناد إليه والاستمداد منه، وعندما ينقطع عون البشر، وتتلاشى الأسباب المرجوة، وتغزو الوحشة أقطار النفس، فهلا يردها إلا هذا الأمل الباقي في جنب الله، عندئذ ينهض التوكل يرد الوساوس وتسكين الهواجس[16].
وإن أبرز شيء في الحج نأخذ منه هذا الدرس هي قصة هاجر زوج إبراهيم وأم إسماعيل كما نقلنا عنها سابقا قولها لزوجها: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. فقالت: إذن لا يضيعنا.
يقول الشيخ معقبا على هذا القول: ماذا نفهم من هذا؟ نفهم من هذا أن الإنسان عندما يعتمد على ربه فإنه يعتمد على مصدر القوى ومنبع الخير وسائق الفضل، وأن الإنسان إذا صدق إيمانه ربا توكله، وازدادت بالله ثقته، وضعفت علاقاته بالماديات[17].
وليس معنى انقطاع الإنسان عن كل ما سوى الله أن يتواكل ويستكين، كلا. كلا، إن المرأة لما قالت: لا يضيعنا. ما استكانت ولا ركنت إلى غير الأخذ بالأسباب بل أخذت تهرول وتسعى حتى ساق الله لها الرزق، وأجرى لها الخير.
فتدخلت السماء وتفجرت زمزم وغنى الوادي بعد وحشة، وصار الرضيع المحرج أمة كبيرة العدد عظيمة الغناء، ومن نسله صاحب الرسالة العظمى، ومن شعائر الله هذا التحرك بين الصفا والمروة تقليدا لأم إسماعيل، وهي ترمق الغيب بأمل لا يغيب. فما أحوج أصحاب المثل إلى عاطفة التوكل، إنها وحدها تكثرهم من قلة، وتعزهم من ذلة، وتجعل من تعلقهم بالله حقيقة محترمة[18].
وكذلك زوجها وهو رجل واحد توكل على الله فنصره وجعل قُوى الشر تتهاوى أمامه، وتتدحرج تحت أقدامه، فاستطاع أن يقيم دعوة التوحيد وينشر رسالته الكبرى.
يقول الشيخ في نظرة إلى حال العرب معقبا على هذا المشهد: التوكل على الله شيء خطير، ولو أن العرب أهل إيمان، ولو أنهم فعلا يئسوا من الخلق واعتمدوا على الخالق لنصرهم كما نصر نبيهم ﷺ ولسقاهم كما سقى امرأة في صحراء لا تجد هي ولا رضيعها شيئا. إن التوكل على الله شيء خطير، وعندما تساق الأمة إلى مكان نبع الماء فيه من صحراء لا ماء فيها ولا زرع ولا ضرع يعرف الناس أن الانقطاع عن الله جريمة، وأن الانقطاع إليه هو الاتصال كله وهو الخير كله[19].
سابعا: الحج يجمع بين العقل والعاطفة:
وهذه ليس صفة خاصة بالحج فقط، إنما يستمدها الحج من المنهج الشامل للإسلام ذاته الذي يجمع بين الجسم والروح في نظام الإنسان، وبين السماء والأرض في نظام الكون، وبين الدنيا والآخرة في نظام الدين، ويسلك بها جميعا طريقا واحدا، ويصبغها صبغة واحدة: “صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً”. البقرة: 138. فكما أن الإسلام منهج عقلاني عاطفي، فهو نظام مثالي واقعي ونظري تطبيقي سواء بسواء.
يقول الشيخ في هذا المعنى عن الحج: المقصود من هذه الرحلة أمور عقلية وعاطفية معا، فإن الإنسان لا يعيش بالفكر النظري وحده، ولكن مشاعره وعواطفه شديدة السيطرة عليه، والإسلام يجتهد في تحويل الإيمان من صورة عقلية تسكن الرأس إلى معانٍ عاطفية تغمر القلب، وتتشبث بالفؤاد، وينفعل الإنسان بها، ويحيا طول عمره وَفقها….
والإسلام عندما شرع مناسك الحج أراد أن يحول فعلا الإيمان من معانٍ نظرية درست في الكتب، وتلقاها الناس حقائقَ مقررةً إلى معانٍ عاطفية تربط الإنسان بنشأة الإسلام ونشأة المكافحين من أجل ظهوره، وتجعل الإنسان يرتبط بالمواطن الأولى للوحي، وبسير الدعاة والرعاة الذين حملوا هذه الأمانات وعاشوا بها وعاشوا من أجلها، حتى قدموها للناس ناضجة مستوية…
والله عز وجل أراد أن يجعل المؤمنين على اختلاف الزمان والمكان يرتبطون بالدين الذي اعتنقوه، وهو دين التوحيد، ويريد أن يكلف القادرين منهم على أن يجيئوا للأماكن التي بدأت فيها معالم دينه تظهر كي يرتبطوا نفسيا بها[20].
وإذا كان القرآن قد بين العلة من فريضة الحج فقال: “لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ”. الحج: 27. وقد جاءت كلمة “منافع” منكرة لتفيد العموم والشمول، سواء كانت منافع مادية أو معنوية فإن الجانب الروحي في الحج ظاهر كل الظهور في شعائر كثيرة من شعائره؛ ولهذا يقول الشيخ: إن إثراء الجانب الروحي هدف ظاهر من أعمال الحج وأقواله حتى تعود وفود الرحمن جياشة العواطف بحب الله وخشيته، متواصية على تنفيذ وصاياه وإعظام حقوقه[21].
والدين كله يقوم على صدق الإخلاص ونضج الأخلاق، وحسن العلاقة بالله وبعباده… وهذه الرحلة بين الأماكن المقدسة تصقل الطبع، وتزكي القلب، وتنمي مشاعر الحب لله ولرسوله وجماعة المسلمين[22].
ثامنا: ذكر الله أساس في مناسك الحج:
وذلك أن أي منسك في المناسك لا يخلو من ذكر، ولم لا، والحج كله تلبية لأمر الله، وترك لكل شيء فرارا إلى الله تعالى؟! حتى جعل الله الذكر من علل الحج فقال: “وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ”. الحج: 2728.
وإذا تأملنا بعض آيات القرآن التي تتحدث عن الحج أدركنا هذه الحقيقة، وعلمنا أن ذكر الله هو أساس شعائر الحج، قال تعالى: “لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ . ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ . وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ”. البقرة: 198202.
ومن الملاحظ أن التعبير عن مناسك الحج في الآيات السابقة أخذ كلمة “الذكر” دائما، حتى رمي الجمرات أسماه القرآن ذكرا: “وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى”. البقرة: 203. وهي أيام التشريق، ورمي جمرة العقبة في العيد، فكأن المقصود من الموضوع هو الذكر الجهير لله تعالى، وما رمي الجمرات إلا رمز.
ثم قال جل ذكره: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ …. وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ”. الحج: 34، 36.
يقول الشيخ الغزالي: ذكر الله هو الأساس في هذه المناسك كلها يتحول المعنى الصامت المستكين في الضمير إلى هتاف عالٍ… كأن كل شيء يتحول إلى كون يسبح بحمد الله ويذكره[23].
وقال: يخيل إليَّ أن المناسك كلها أشكال غير مقصودة لذاتها، إنما قصدت لذكر الله عندها… فذكر الله والهتاف باسمه غاية وعمل، ووسيلة وهدف، وفي هذه المظاهرة التي جعلها الله ركنا في الإسلام، وقرن بها من الفوائد النفسية والخُلقية ما لا يحصى[24].
والحق أن الحج كله هو هذا الهدير الموصول بذكر الله من أمواج بشرية متصلة، لا شغل لها إلا الجؤار بالتلبية والهتاف بالتسبيح[25].
[1]علل وأدوية: 152. طبعة دار الكتب الإسلامية. القاهرة. ط أولى. 1984م.
[2] رواه الترمذي عن سهل بن سعد: كتاب الحج عن رسول الله. باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، وقال الحافظ المنذري: “رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي، كلهم من رواية إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية عن أبي حازم عن سهل، ورواه ابن خزيمة في صحيحه عن عبيدة يعني ابن حميد حدثني عمارة بن غزية عن أبي حازم عن سهل، ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما”. الترغيب والترهيب: 2/119. دار الكتب العلمية. بيروت. ط أولى. 1417ه، وصححه الألباني: انظر صحيح الجامع: حديث رقم 5770.
[3] علل وأدوية: 152153، وانظر: خطب الشيخ الغزالي: 1/229230. طبعة دار الاعتصام، وفن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء: 109. طبع دار الاعتصام، والحق المر: 122. مكتبة التراث الإسلامي.
[4] راجع: مائة سؤال عن الإسلام: 8283. دار ثابت. القاهرة. ط الخامسة. 1417ه1996م، وخطب الشيخ الغزالي: 1/230233، و3/118119، وفن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء: 106108.
[5] انظر صحيح البخاري: كتاب الحج. باب ما ذكر في الحجر الأسود.
[6] الخطب: 3/121.
[7] مائة سؤال عن الإسلام: 83.
[8] خطب الشيخ الغزالي: 1/235236، وفن الذكر والدعاء: 109.
[9] علل وأدوية: 154155.
[10] الحق المر: 123. مكتبة التراث الإسلامي.
[11] مائة سؤال: 85.
[12] الخطب: 1/229.
[13] فن الذكر والدعاء: 112.
[14] علل وأدوية: 156.
[15] فن الذكر والدعاء: 109.
[16] فن الذكر والدعاء: 109.
[17] الخطب: 3/ 121.
[18] فن الذكر والدعاء: 110، وراجع مائة سؤال: 8485.
[19] الخطب: 3/122، وانظر 1/235236.
[20] الخطب: 3/117118.
[21] علل وأدوية: 156.
[22] فن الذكر والدعاء: 112.
[23] الخطب: 3/123124.
[24] تأملات في الدين والحياة: 174175. دار الدعوة. الإسكندرية. ط أولى. 1410ه/1990م.
[25] فن الذكر والدعاء: 113.
**الأستاذ وصفي عاشور علي أبو زيد ماجستير في الشريعة الإسلامية (كلية دار العلوم) بجامعة القاهرة
وصفي عاشور أبو زيد