ما أحوج المسلم إلى الأنس بربه، والاتصال به ليل نهار، واستشعار معيته سبحانه، في زمن طغت فيه المادة وانعدمت فيه الصلات، فما أحوجنا إلى أن نلجأ إلى الله في كل كبيرة وصغيرة، سائلين إياه العون، وطالبين منه المدد، خاضعين خاشعين طالبين رجاءه سبحانه .. الدعاء وصال و مناجاة .
إن استشعار معية الله تبارك وتعالى أمر يقوي عزيمة المسلم، ويجعله ماضيًا في طريقه وخاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه المشاق والتبعات، فليس الدعاء وقت الحاجة فقط بل في كل وقت وحين مهما غرتنا الأسباب والقدرة على فعل الأشياء.
الدعاء.. أنس بمعية الله
فلا بد للمسلم أن يأنس بربه، ويستشعر معيته في كل كبيرة وصغيرة ولا يكفي الاستغناء بالأسباب عن الاستعانة برب الأسباب وخالقها تبارك وتعالى.
يقول ربنا عز وجل في الحديث عن الدعاء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، قال صاحب الظلال رحمنا الله وإياه: “إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه.. لم يقل: فقل لهم: إني قريب.. إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال.. قريب.. ولم يقل أسمع الدعاء.. إنما عجل بإجابة الدعاء: (أجيب دعوة الداع إذا دعان).. إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضا المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها المؤمن في جناب رضا، وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين.
وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الروحية.. يوجه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد و الهداية والصلاح، (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).. فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك.. وهي الرشد والهدى والصلاح. فالله غني عن العالمين. والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد.
فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد…، واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون، وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه، فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم”.
الدعاء عبادة
كثيرون هم الذين يعتقدون أن الدعاء يُلجأ إليه عند الحاجة فقط، والحقيقة هذا اعتقاد جانبه الصواب، فالدعاء هو عبادة لله عز وجل مصداقا لقوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:48-50]، وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وقال رسول الله ﷺ: ((الدعاء هو العبادة))، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وصدق من قال:
لا تسألنَّ بُنِيّ آدمَ حــاجةً *** وسَل الذي أبوابُه لا تحْجَبُ
الله يغضبُ إنْ تركتَ سؤالَهُ *** وبني آدمَ حينَ يُسألُ يَغْضَبُ
أفضل العبادة
إن الدعاء هو من أفضل العبادات التي يتقرب بها العبد على الله عز وجل، قال ﷺ: ((أفضل العبادة الدعاء)). فهيا أخي المسلم وسارع واغتنم الفرص وارفع يديك إلى مولاك راجيا رحمته طامعا في رضاه خائفا من عذابه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً خائبين)).
ترك الدعاء يجلب البلاء
هل تعلم أخي الحبيب أن الدعاء يرد القضاء؟ هل خطر في ذهنك هذا السؤال؟ فرسول الله ﷺ يجيبك حيث يقول: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)) فهيا واجتهد وادعُ ربك الغني الكريم الذي يقول في الحديث القدسي فيما يبلغه عنه رسول الله ﷺ: ((…يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم. وإنسكم وجنكم. قاموا في صعيد واحد فسألوني. فأعطيت كل إنسان مسألته. ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر…)) [رواه مسلم في صحيحه].
ولقد قسم بعض علماء الأخلاق المسلمين البلاء الذي ينزل بالإنسان موضحين حكمته وأسبابه كالآتي:
1- بلاء ينزله الله بالإنسان اختبارا له وتمحيصا لإيمانه.
2- بلاء يتمثل في الكوارث الطبيعية كالزلازل وغيرها، وهذا لا يدَ للإنسان فيه.
3- بلاء ينزل بالإنسان لاقترافه الذنوب والمعاصي ويكون هذا البلاء تطهيرا وتذكيرا لصاحبه.
4- بلاء ينزل بالإنسان لتركه الدعاء فإن الأخذ بالدعاء من أسباب دفع البلاء، ومن ترك الدعاء فقد أهمل الأسباب وعرض نفسه لوقوع البلاء.
إذن فلا بد من الأخذ بالدعاء ولزومه توقيا لنزول البلاء بنا فمن أهمل الدعاء فقد جعل نفسه عرضة لنزول البلاء بها، وفي هذه الحالة يحاسب ويكون مسئولا عن هذا البلاء كونه ترك أسباب الوقاية والعلاج.
الإخلاص سلاح الداعي
قال ﷺ: ((ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها))، قالوا: إذن نكثر الدعاء، قال: ((الله أكثر)). وقال: (( إنه من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه )). وقال: ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)).
الدعاء لا يكون مقبولا إلا إذا توفرت فيه وفي الداعي جملة من الآداب يأتي على قمتها الإخلاص في القول والعمل، فلا يدعو إلا الله سبحانه، فإن الدعاء عبادة من العبادات، بل هو من أشرف الطاعات وأفضلِ القربات إلى الله، ولا يقبل الله من ذلك إلا ما كان خالصا لوجهه سبحانه مصداقا لقول الله تعالى: {وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً} [الجن:18]، وقوله تعالى: {فَ?دْعُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ} [غافر: 14]، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال له: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) [رواه أحمد – وصححه الألباني]. وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة.
قال ابن رجب الحنبلي في كتابه (جامع العلوم والحكم): “… اعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسئول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة”.
حسن الظن بالله تعالى
لا بد من توفر حسن الظن بالله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)) [رواه الحاكم]، وعنه أنه ﷺ قال: ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني)) [رواه البخاري ومسلم]. قال الشوكاني -رحمنا الله وإياه- في تحفة الذاكرين: “فيه ترغيب من الله لعباده بتحسين ظنونهم، وأنه يعاملهم على حسبها؛ فمن ظن به خيراً أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميع تفضلاته، ونثر عليه محاسن كراماته وسوابغ عطياته، ومن لم يكن في ظنه هكذا لم يكن الله تعالى له هكذا”.
وهناك آداب أخرى لا بد للداعي أن يتحلى بها منها حضور القلب، وتدبر معاني ما يقول، لقوله ﷺ فيما تقدم: ((واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)).
قال النووي: “واعلم أن مقصود الدعاء هو حضور القلب كما سبق بيانه، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر والعلم به أوضح من أن يذكر”.
وكذلك عدم الاعتداء في الدعاء، والاعتداء هو كل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، قال الله تعالى: {?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، وألا يشغله الدعاء عن أمر واجب أو فريضة حاضرة، كإكرام ضيف، أو إغاثة ملهوف، أو نصرة مظلوم، أو صلاة، أو غير ذلك.
روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه قوله: عجبت لمن يُصاب بأربع، كيف يغفل عن أربع:
- عجبت لمن ابتلي بالخوف، كيف يغفل عن قوله تعالى: “حسبنا الله ونعم الوكيل.
- عجبت لمن ابتلي بمكر الناس به، كيفـ يغفل عن قوله تعالى: {وأفوض أمري إلى الله * إن الله بصير بالعباد}.
- عجبت لمن ابتلي بالضر، كيفـ يغفل عنـ قوله تعالى: {رب إني مسني الضُّر وأنت أرحم الراحمين}.
- عجبت لمن ابتلي بالغم، كيف يغفل عنـ قوله تعالى: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}.
جمال عبدالناصر 5>