الزكاة وتخفيف التضخم الراجع إلى ارتفاع الطلب
يرجع التضخّم في هذه الحالة إلى زيادة الطلب الكليّ عن العرض الكليّ، حيث يكون تيار النقد المتاح داخل المجتمع أكبر من قيمة السلع المعروضة؛ مما يدفع الأسعار للزيادة، كما ترتفع الأجور – خاصة في حالة التشغيل الكامل (المقصود بالتشغيل الكامل حالة انعدام البطالة) – ويرتفع الدخل النقديّ دون زيادة في الناتج المادي.
إن تطبيق فريضة الزكاة يكون له أثره في كبح جماح الطلب التضخّمي، وذلك من خلال:
1 – توفير التدفقات النقدية:
فانتظام انسياب حصيلة الزكاة مع بداية كل حَول قمَريّ يوفر كميات النقد اللازمة للتداول دون الحاجة إلى لجوء السلطات النقديّة لعمليات الإصدار النقديّ.
2 – ضبط الطلب الكلي:
إن زيادة الطلب الكليّ عن العرض الكليّ من السمات اللصيقة بالاقتصاديّات الرأسماليّة، حيث يكون هدف النظام الاقتصاديّ هو تحقيق أعلى مستويات الرفاهية، ويرتبط ذلك بزيادة الإشباع الشخصيّ وإجماليّ الإشباع لأفراد المجتمع. ويرتَّب على هذا التوسع في الاستهلاك زيادةُ الإنفاق الكليّ في المجتمع.
أما في الاقتصاد الإسلاميّ فإن تطبيق تشريع الزكاة يضمن توفير حدّ الكفاية لجميع أفراد المجتمع، ويتمثل ذلك في اشتراط النصاب في مال الزكاة. ويتعلق هذا الشرط بالحاجات الأصلية – دون الكماليّة – التي تحقق المقاصد الشرعية. كما يتمثل في توفير كفاية مصارف الزكاة دون الارتفاع إلى مستويات الاستهلاك الكماليّ.
كذلك فإن ارتفاع الميل الحَدِّيّ للاستهلاك (أحد معدلات الاستهلاك) لدى غالبية مصارف الزكاة، يتميز بالاتجاه إلى الانخفاض مع زيادة الدخل، حتى يصل إلى الصفر عندما تدخل دالّة الاستهلاك منطقة الإسراف والتبذير المنهيّ عنهما شرعًا. ففي الاقتصاد الإسلاميّ يتجه الميل المتوسط للاستهلاك إلى الانخفاض في المدى الطويل، مما يسقط الحجة القائلة باحتمال إقبال المسلمين على إنفاق كل دخولهم وثرواتهم تفاديًا لإخراج الزكاة، وهو اعتراض لا يمكن أن ينطبق على السلع التجارية والصناعية والخدمية، حيث لا يُعقل أن يبدِّد مالكُها كل ربحه ورأسماله لمجرد تفادي دفع الزكاة، كما أنه لا ينطبق على الإنفاق الاستهلاكي حيث تكون سلَّة الاستهلاك Consumption Basket للمسلم أصغر منها بالنسبة لمستهلك الاقتصاد الوضعيّ، ذلك بالإضافة إلى وجود حدود على استهلاك محتويات هذه السلة بعيدًا عن الإسراف والتبذير(1).
3 – زيادة العرض عبر الدور الإنمائي للزكاة:
إن هدف توزيع الزكاة هو تحقيق الإغناء لمصارفها، ولا يتحقق ذلك بحصول المستحقين لها على حاجاتهم من السلع والخدمات فحسب، وإنما بتوفير كفايتهم في الحال والمستقبل، عن طريق توفير الأدوات ورؤوس الأموال الإنتاجية الملائمة لمواهبهم الطبيعية وقدراتهم المكتَسَبة. ويعني ذلك عدم اتجاه كل الدخول الموزعة إلى الطلب الاستهلاكيّ، وإنما يتجه جزء هامّ منها إلى مجالات استثمارية، وبخاصة في المدى الطويل، فإذا كان الأثر الديناميكي للزكاة في الاقتصاد الإسلامي يؤدي في المدى القصير إلى زيادة الميل للاستهلاك، فإنه يؤدي في المدى الطويل إلى زيادة الميل للادخار وبالتالي للاستثمار(2).
4 – الزكاة العينية تحُدُّ من الإنفاق غير الضروري للنقود:
كذلك فإن جباية وتوزيع زكاة الزروع والثمار وزكاة بهيمة الأنعام في صورتها العينية يسهم إلى درجة كبيرة في الاحتفاظ للنقود بقيمتها الشرائية دون تدهور، ويسهم في ذلك أيضًا جوازُ إخراج الزكاة عينًا إذا كان في ذلك تحقيقُ منفعةِ آخِذِ الزكاة(3).
5 – السيطرة على توقعات الاستهلاك لصالح الإنفاق الاستثماري:
ومن ناحية أخرى يكون للتطبيق الأمين لفريضة الزكاة أثر بعيد على عنصر التوقعات الذي اهتمت به المدرسة السويدية، حيث تسهم هذه التوقعات في تخفيف الاختلال بين الطلب الكليّ والعرض الكليّ، من خلال التقريب بين خطط الادخار وخطط الاستثمار. ويكون للزكاة دور غير مسبوق في تحويل الادخار الاكتنازي إلى استثمار تفاديًا لإخراجها من رأس المال وتعريضه للتآكل بالزكاة، ورغبة في إخراجها من عائد الاستثمار (الأرباح)، وذلك من خلال تحسين توقعات أصحاب رؤوس الأموال إلى درجة بعيدة.
فتطبيق فريضة الزكاة يزيد من اتساع نطاق النشاط الاستثماريّ وتنوّعه، حيث يكون للاستثمار الخاص دور هام في توفير الاحتياجات الأساسية لكافة أفراد المجتمع مع تزايدهم، والاستمرار في الإنفاق الاستثماريّ طالما كان المعدل الحَدِّيّ للعائد 2.5% (ربع العشر) وهو أقل سعر للزكاة المقررة سنويًّا على الأموال النامية فعلاً أو تقديرًا(4).
6 – توجيه النقود للاستثمار المستمر (زيادة جانب العرض):
كذلك فإن فرض الزكاة كنفقة واجبة الاستحقاق على رأس المال النامي فعلاً أو تقديرًا يدفع بأصحاب رؤوس الأموال إلى الاستمرار في الاستثمار، حتى لو كان المعدل الحَدِّيّ المتوقَّع للربح أقلَّ من نسبة الزكاة المقرَّرة على الأموال القابلة للنماء (2.5%)، طالما كان هذا المعدل أكبر من الصفر. ويرجع ذلك إلى أن الاختيار الممكن أمام المستثمرين في هذه الحالة هو بين استثمار أموالهم أو اكتنازها، وليس الاختيار بين استثمارات متعددة؛ ونظرًا لأن الاكتناز اختيار غير مطروح على المسلم، فإنه أفضل للمسلمين أن يستمروا في الاستثمار من ألاَّ يستثمروا على الإطلاق؛ لأن ذلك يجعل خسارتهم بسبب الزكاة أقلَّ من معدل الزكاة الإجماليّ(5).
تابع معنا بقية محاور الدراسة:
- موجز المقال وأفكاره الرئيسية
- تعريف التضخم واختلاف الرؤى حول مصادره
- الزكاة ومعالجة التضخم الراجع إلى الاختلالات الهيكليّة
- الزكاة وعلاج التضخّم الراجع إلى ارتفاع النفقات
(1) “حول الدور الإنمائيّ والتوزيعيّ للزكاة” رسالة دكتوراه لنعمت مشهور، مقدمة إلى كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة 1408/ 1988 ص 285 – 286.
(2) “حول الدور الإنمائيّ والتوزيعيّ للزكاة” رسالة دكتوراه لنعمت مشهور، مقدمة إلى كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة 1408/ 1988 ص 286 – 287.
(3) “مجموع الفتاوى” لأحمد ابن تيمية، مكتبة المعارف – الرباط، بدون تاريخ 25/ 82 – 83.
(4) “الاقتصاد الإسلاميّ” لمحمد منذر قحف. دار القلم – الكويت 1399هـ/ 1979م الطبعة الأولى ص 112 ـ 113.
(5) “الاقتصاد الإسلاميّ” لمحمد منذر قحف. دار القلم – الكويت 1399هـ/ 1979م الطبعة الأولى ص114.