الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، وهناك الكثير من النصوص الدالة على كمال علمه سبحانه وإحاطته بكل شيء؛ من ذلك قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59].
ومن النصوص الدالة على كتابته تعالى الأشياء في الأزل، قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
وفي الحديث أن رسول الله ﷺ، قال: “كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء…” [البخاري – بشرح فتح الباري: (6/286)].
قال ابن القيم -رحمه الله-: “وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث، أن كل كائن إلى القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب…” [شفاء العليل – ابن القيم ص89].
التعريف.. لغة واصطلاحًا
القضاء في اللغة: “القَضَاءُ: الحُكْمُ. والأداءُ. وعملُ القاضي. ورجالُ القضاء: الهيئةُ التي يُوكَلُ إليها بحثُ الخصومات للفصل فيها طبقًا للقوانين. ويقال: وَقَعَ هذا الحادثُ قضاءً وقَدَرًا: لم يُنسَبْ إلى فاعل أَحْدَثَه.
وعقيدةُ القضاءِ والقَدَر: عقيدةُ من يرى أَن الأعمالَ الإنسانيةَ وما يترتب عليها من سعادة أو شقاء، وكذلك الأحداث الكونية، تسير وَفْقَ نظام أزليّ ثابت. (مج). (ج) أَقْضِيَة” [الوسيط].
القدر في اللغة: “القَدَر: بفتح القاف والدال: اسم يطلق على الحكم والقضاء، أو القضاء الموفق” [لسان العرب].
“القَدَرُ: مِقدار الشَّيءِ وحالاته المقدَّرة له. وفي التنزيل العزيز: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”، وقتُ الشيء أو مكانه المقدَّر له. القضاءُ الذي يقضي به الله على عباده. (ج) أَقْدَارٌ” [الوسيط].
ومن ذلك حديث الاستخارة، وفيه: “فاقدُرْه لي ويسّره لي”.
القضاء والقدر في الاصطلاح:
مما سبق في تعريف القضاء والقدر في اللغة، وما تدل عليه النصوص الشرعية، يتضح لنا أن القضاء والقدر في الاصطلاح، أو في الشرع: تقدير الله الأشياء في الأزل وقضاؤها وكتابتها في اللوح المحفوظ، وعلمه سبحانه بوقوعها في أوقات معلومة عنده، على صفات مخصوصة بمشيئته، وقدرته، وخلقه وأمره، والأمر باليقين والعمل لذلك.
والقضاء والقدر: أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس؛ وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء؛ وهو القضاء، إلا أنهما إذا اجتمعا فإن لكل لفظ من لفظيهما زيادة بيان عن الآخر من وجه، كما هو الحال في ألفاظ اللغة العربية ومترادفاتها، ومن ذلك ألفاظ القرآن الكريم، ثم إن لذكر اللفظ مع الآخر في موضع أو سياق له دلالته.
ما الذي ينافي الرضا بالقضاء؟
1 – الاعتراض على قضاء الله:
قد يكون بالاعتراض على سنة رسول الله ﷺ، فلقد ورد عن المنافقين الذين قالوا في غنائم حنين: “إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله”، ونحو ذلك.
وهذا الاعتراض منافٍ للرضا بالقضاء، ومعارض لقول المسلم: “رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ رسولاً”، قال الله تعالى محذرًا من ترك الرضا بحكم الرسول ﷺ: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ.
فعلى المؤمن أن يحب ما أحب الله، ويبغض ما أبغضه الله، ويرضى بما قدره الله، ويسلم لحكم رسول الله ﷺ، وكل مقدور قدر للعبد إذا عمل فيه بطاعة الله ورسوله، وإنما يكون شرًّا لمن عمل بمعصية الله ورسوله.
2 – ترك التوكل تركٌ لأمر الله في آيات كثيرة:
منها قوله تعالى: “وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِيـنَ”. ومن لم يفوض أمره إلى الله، ويعمل الأسباب متوكلاً على الله فليس براضٍ عن الله، أو عن قضاء الله وقدره، وفي الأثر: “من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده”.
3 – السخط:
والسخط ضد الرضا، وفيه شقاوة الساخط، كما في الحديث الذي مرّ “ومن شقاوة العبد تركه الاستخارة، وسخطه بما قسم الله له”.
وقد جعل الله فيه الهم والغم والحزن، وشتات القلب، وكف البال، وسوء الحال، والظن بالله خلاف ما هو أهله، وقلة اليقين، كما في حديث أبي سعيد الخدري السابق، قال: قال رسول الله ﷺ: “إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله…”.
“وأما الرضا فيفرغ القلب، ويقلل همه وغمه، فيتفرغ لعبادة الله بقلب خفيف من أثقال الدنيا، وهمومها، وغمومها” [مدارج السالكين 2/224]. والسخط من سوء الخلق؛ لأن الساخط مخاصم لله تعالى فيما لم يرضَ به، من أمره ونهيه، أو قضائه ورزقه، وما يصيبه من نوائب ومصائب.
4 – الحزن على ما فات:
قال الله تعالى: {لِكَـــيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا ءَاتَاكُمْ…}، فهذه دعوة للعباد إلى ترك الحزن على الدنيا، بل نهى الله عنه، وإن تعلق بالدين، كقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ…}؛ لأنه لا يجلب منفعة، ولا يدفع مضرة، فلا فائدة فيه.
أما الحزن على موت قريب، أو فوات عبادة، أو نحو ذلك مما ليس فيه طمع أو سخط أو اعتراض على المقدر، فهو رحمة من الله، وهو حزن القلب، وحزن القلب لا يؤاخذ به العبد إذا لم يصحبه اعتراض على قدر الله تعالى، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام حزنوا، ولم يكن ذلك دليلاً على عدم يقينهم بالله، ورضاهم بقضائه.
والنبي ﷺ لما كان ابنه إبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا النبي ﷺ تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة الله، ثم أتبعها بأخرى، فقال: “إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
5 – النياحة:
ومما يضاد الرضا وينافيه النوح من النساء، أو الرجال، وهو عادة يكون من النساء عند القبور، وعند نزول المصائب، وهذا من الجزع والاعتراض على القضاء، لما يصحبه من صكّ الوجه، أو لطم الخد، أو الدعاء بالويل والثبور، أو سبّ الدهر عند المصيبة، أو رفع الصوت بالبكاء والويل، اعتراضًا على القضاء والقدر، عند موت محبوب، أو قريب، أو فوات أمر دنيوي، وغير ذلك مما نهى عنه النبي ﷺ في مثل قوله: “ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية”.
وفي الحديث أن أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- وجع وجعًا شديدًا، فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا، فلما أفاق قال: “أنا بريء ممن برئ منه رسول الله ﷺ، فإن رسول الله ﷺ برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة”.
6 – تمني الموت لضر نزل أو مصيبة:
قال رسول الله ﷺ: “لا يتمنين أحدكم الموت لضرّ نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي” (متفق عليه).
فالحديث دليل على النهي عن تمني الموت، للوقوع في بلاء، أو محنة، أو خشية ذلك من عدو، أو مرض، أو فاقة، أو نحوها من المصائب التي تصيب الإنسان في حياته؛ لما في ذلك من الجزع، وعدم الصبر على المقدر، وعدم الرضا بالقضاء.
أبو عمار المصري – باحث ماجستير بقسم الفلسفة الإسلامية – كلية دار العلوم جامعة القاهرة.5>