هل أنا فشلت في تربية أولادي؟ عادة ما يتردد هذا السؤال على الكثير من الناس، ومثل كل الآباء والأمهات بل مثل كل البشر يخطئون ويصيبون، يتعثرون ويقومون، ولكن لم يفت الوقت بعد، وكما يقول المثل: “لأن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا”، الأمر يحتاج إلى مزيد من الصبر والمثابرة والوقت والجهد وهذا ليس بالأمر المستحيل. فكيف نتعامل مع أولادنا؟ وماهو الممنوع والمسموح في الحوار مع الأبناء؟ لنبدأ ونحدد معا مشكلة الممنوع والمسموح في الحوار مع الأبناء، ويتبلور هذا التحديد في أمرين أساسيين ألا وهما: 1- اللبس الذي يحدث عادة عند قراءة الموضوعات التربوية عن أسلوب الحوار والنقاش مع الأبناء. 2- طبيعة المرحلة التي يمر بها الأبناء ولنفرض أنها مرحلة المراهقة. ولنبدأ بالأمر الأول، فمن الموضوعات التربوية التي نقرؤها أن التربية تقوم على الحوار والنقاش بينك وبين أبنائك وإقناعهم بكل أمر أو طلب تطلبه منهم، وهنا بالتحديد الخطأ أو اللبس، فليس معنى أن العلاقة بين الوالدين من ناحية والأبناء من ناحية أخرى تقوم على الحوار ألا يكون هناك حزم في التعامل، وألا يكون هناك ثوابت وخطوط حمراء ينبغي للأبناء عدم تجاوزها، فالحوار والنقاش لا يمنعان الحزم في الأمر كله، فلا يصح مثلا أن الحوار مع الأبناء فيما إذا كان من حقهم أن يصلوا أو لا يصلوا، ولكن من حقهم أن يفهموا من خلال الحوار بعض الحِكَم التي من أجلها شرعت الصلاة، ومن حقهم أحيانا أن يعترضوا على بعض الأوامر لكن بمنتهى الأدب والاحترام، ولا يحدث هذا إلا من خلال أسلوب تربوي يجمع بين الحب والحزم، فلا ينفع طغيان الحب على حساب الحزم كما لا يصح العكس. وهناك تجربة قامت بها إحدى المدارس في المرحلة الثانوية، حيث وزعت استطلاع رأي على طلابها عن مُعلمَين من معلميها لمادة الكيمياء؛ أحدهما متمكن من مادته ويغلب على أسلوبه مع طلبته الحب واللين في المعاملة، والآخر مستواه جيد بمادته لكنه أقل تمكنا من المعلم الأول، وكان الحزم من أهم صفات هذا المعلم الأخير، وفي وسط دهشة إدارة المدرسة تظهر نتيجة هذا الاستطلاع لصالح المعلم الحازم رغم تفوق الآخر عليه في تمكنه من مادته. وهذا بالضبط ما يحتاجه أطفالنا، ولا أعني بالحزم الصرامة والغلظة والقسوة، بل أعني أمرا آخر سيتضح خلال نقاط عملية بعد أن نوضح النقطة الثانية من المشكلة ألا وهي طبيعة المرحلة العمرية التي يمر بها الأبناء، فلا بد أن ندرك أن مرحلة المراهقة مرحلة لها سماتها وتغيراتها الجسمية والانفعالية والاجتماعية والعقلية، وهي سمات لا بد من التعرف عليها حتى نتمكن من التعامل مع هذه المرحلة (علينا بالاطلاع على أهم خصائص هذه المرحلة من خلال كتب علم نفس النمو، وهي متوفرة بجميع المكتبات المعنية بالتربية)، ولكن ما يهم هنا هو أن نتناول النمو الانفعالي لدى الأبناء في هذه المرحلة: يذكر الدكتور علاء الدين كفافي في كتابه “رعاية نمو الطفل” عن هذا النمو ما يلي: يمر المراهق في المجتمعات المدنية بصراعات نفسية؛ وذلك بسبب رغبة المراهق في الاستقلال عن والديه وعمن يمثل السلطة بشكل عام (كالمدرسين والإدارة المدرسية، والمدربين بالنوادي… إلخ)، وتتمثل هذه الصراعات في:
رغبة المراهق في الاستقلال، وفي الوقت نفسه هو ما زال يعتمد على والديه.
لديه دوافع جنسية يتطلب إشباعها، لكن هناك الدين والعرف والمجتمع يحول بين ذلك.
الرغبة في الانطلاق والحرية، ونظم المجتمع تمنع هذا.
وهذا النمو الانفعالي يتسم بعدة سمات أو بعدة صفات، ألا وهي:
الحساسية المفرطة، فهو يخشى التواجد في اجتماعات ومناسبات اجتماعية، ويشعر بأنه محط أنظار وتعليقات الجميع، ولذا نجد أن كثيرا من المراهقين -إن لم يكن كلهم- يشعرون بالأمن والراحة بالتواجد أطول فترة ممكنة مع من هم في مثل سنهم وليس مع الكبار.
وهو دائما يشعر بالذنب لأنه يرسم لنفسه صورة مثالية لا يستطيع الوصول إليها، ومن ثم يحاسب نفسه كثيرا على هذه الأخطاء وليس الأخطاء السلوكية فحسب، بل كل ما يراوده من أفكار وهفوات، وهذا أيضا يجعله أكثر حدة وعصبية.
يشعر دائما بأن من حوله لا يقدرونه ولا يحترمون رغباته؛ وهو ما يزيد من شعوره بالغربة والإحباط.
ومن أسباب الصراع لدى المراهق أحيانا: عدم التوازن بين الجوانب المختلفة للنمو، فالنمو الجسمي يسبق النمو العقلي، ومن هنا يبدو المراهق في حجم كبير، الأمر الذي يترتب عليه أن يتعامل معه الجميع على أنه أصبح راشدا، مع أنه لم ينضج بعد، ويتوقعون منه ما لا يستطيع، ويوقعون عليه كثيرا من اللوم لأخطائه التي تبدو طفولية ولا تتناسب مع حجمه.
كل هذه الأسباب وغيرها -والتي سنجدها عندما نقرأ عن مرحلة المراهقة التي تسبب ما يشبه الأزمة عند المراهقين. والآن بعد أن حددنا المشكلة لنتناول معا الأسلوب الذي يجب التعامل به مع الأبناء، أو بمعنى آخر الخطوات العملية، بناء على ما سبق تناوله من معلومات:
على الزوجة مثلا أن تتحدث مع زوجها وتخبره بأنها سوف تقوم بتغيير في أسلوب تعاملها مع أبنائها، وأنها قد علمت أن الحزم مطلوب إلى جانب الحب والحوار والنقاش، لكن لكلٍّ مكانه ومواقفه، وعليه أن يساعدك في ذلك.
على الوالدين الاجتماع مع أبنائهما، وأن يوضحا لهم أنهم جميعا أسرة واحدة وأن مسئولية البيت وأعماله ليست مسئولية تقع كلها على فرد واحد، وأن الجميع لا بد أن يشارك في هذا، وعليه فلا بد من تقسيم المهام المنزلية ، وهنا لا بد من تحديد مسئولية كل واحد في لوحة كبيرة تعلق على الحائط في مكان يراه الجميع، وأن يكون هناك مسئوليات ثابتة لكل فرد، كأن يقوم بترتيب سريره والحجرة التي ينام بها، ولا بد أن يكون له أيضا مهمة إضافية أخرى، فعلى البنات المساعدة في تنظيف البيت والطهي، وعلى الصبيين شراء ما يلزم البيت من الخارج، ومهمة كي الملابس مثلا.. وهكذا.
لا يجب استجداء العطف والاحترام من الأبناء، فلا يجب مثلا ذكر أن الزوجة تتعب كثيرا في أعمال المنزل وأنهم لا يقدرون هذا التعب، ولكن البديل عن هذه الشكوى وهذا الاستعطاف هو ما ذكرته سابقا من تحديد مسئولية كل فرد بالبيت.
على الأم ألا تلعب دور الضحية والأم المغلوبة على أمرها قليلة الحيلة، فهذا يستفز الأبناء ويجعلهم أكثر انفعالا، وكذلك أكثر جرأة، ولذا لا بد أن تظهر الأم بمظهر الواثق من نفسه المعتد بآرائه.
على الأم أن تنتهز فرصة أن أحد الأبناء قد تحدث إليها بطريقة غير لائقة وتعلن بصوت حازم حاسم (غير صارخ) قائلة: ربما تكون غاضبا أو منفعلا لكن هذا لا يعني أن تصرخ أو تنفعل بهذا الأسلوب، وأنا لن أسمح بمثل هذا التصرف مرة أخرى، وعليك أن تخبرني بما أغضبك حينما تهدأ. وتتركه يفكر فيما قالته، فإن تكرر هذا الأسلوب تعرض عمن يصدر منه هذا التصرف، وتطلب منه ألا يتحدث معها حتى يعرف كيف يتعامل مع أمه.
ولا يعني ما سبق أن الأم تعلن الحرب على أبنائها؛ بل عليهم أن يدركوا أنهم كلما أحسنوا إليها كلما كانت أكثر لطفا وتفهما، ولا بد أن يعرف كل منهم حدوده.
على الأم أن لا تخشي أن تتحول طريقتها إلى خشونة وجفوة بينها وبين أبنائها، ربما يحدث هذا في بادئ الأمر لأنهم لم يعتادوا منها على هذا الأسلوب، لكن في الوقت نفسه عليها أن تشعر أبناءها بأنها تهتم بما يهتمون به، وأن جسور المحبة بينهم موصولة في إطار الاحترام المتبادل بينهم، ومن ثم فتح مجال للحوار والمناقشة في الأمور التي تسمح بهذا، مثل أن مشاهدة معا برنامجا أو فيلما أو مسلسلا، من شأنه أن يفتح مجالا للنقاش في أهم أحداثه وأهم الشخصيات التي لعبت دورها بإتقان والتي لم تتقن، وأسباب نجاح أو فشل هذا العمل الفني من وجهة نظرهم، ويفضل أن يشاركهم الأب في ذلك، ويا حبذا جعل ذلك تقليدا جديدا بالبيت، أن تجتمع الأسرة لمناقشة موضوعات عامة تهم المجتمع أو الأسرة.
على الأم أن تشعر بناتها المراهقات باهتمامها بأمورهم خاصة من الناحية الأنثوية، وأن تتحدث معهم في الموضوعات التي تهم الفتيات في مثل هذه السن، ولكن يجب الحذر أن يحدث ذلك عن طريق استجواب أو “محايلة” من الأم لكي يتحدثا معها، بل كل ما عليها فعله أن تكون على استعداد لتسمعهم وتحتوي مشاعرهم وتقدرهم حينما يرغبن في الحديث معها دون إلحاح منها.
على الأم أن تتدارك الأمر بالنسبة للأبناء الأقل سنا، بتعويدهم على هذا الأسلوب الجديد، أسلوب الحب الحازم.
إن هذه الطريقة الحازمة لن يتمكن منها الأولياء بين يوم وليلة، وخاصة أن هذا الأسلوب يصطدم قليلا مع طبيعة الأم السمحة الودودة، وبالتالي يمكنها تعلمها والتدرب عليها، وسوف تمتلكها يوما ما بالصبر والمثابرة.