سيد النقشبندي
للصوت الندي الخاشع سلطانه على النفوس، وربما تعداه إلى غيره من الكائنات، ولم يكن عجيبا أن تدرك العرب تلك الحقيقة؛ فكانت تلجأ إلى أندى الأصوات في أسفارها حتى ينشد لها من روائع البيان حتى تطرب الإبل؛ فتجدّ في سيرها، وتختصر الطريق بعدما ارتوت آذانها من عذوبة الصوت وروعة الكلمات.
وقد امتازت مصر بأصوات ندية قرأت القرآن وقدمت الابتهالات بطريقة فريدة، حتى قيل: “نزل القرآن بمكة، وقرئ بمصر”، ولكن هناك أصواتا حفرت مكانها في الذاكرة، ولم تستطع الأيام رغم تقلباتها أن تمحوها، رغم كثرة ما تقذفه تلك الأيام من أصوات.
وهناك أصوات ارتبط سماعها بالزمن؛ فلا تكاد تسمعها حتى تستعيد ذاكرتك أحداثا وذكريات ومناسبات معينة؛ فأصبح الصوت كالمثير للذكرى، ومن هذه الأصوات النادرة صوت الشيخ “سيد النقشبندي” الذي ارتبط صوته بشهر رمضان الكريم هو والشيخ “محمد رفعت”؛ فكلاهما في الذاكرة المصرية السمعية من مثيرات الشجن حول رمضان.
استمع إلى:
- الهى لبيك
- ما تيسر من سورة النساء
- ما تيسر من سورة طه
- مولاى
- النفس
- شكوت
يعد الشيخ النقشبندي من أروع الأصوات التي قدمت الابتهالات الدينية والتواشيح، واستطاع بما حباه الله من صوت ندي قوي، وخشوع وإحساس بالكلمات التي يتغنى بها أن ينقل فن التوشيح والابتهالات من أروقة الصوفية وزواياهم إلى آذان المسلمين جميعا، وأن يوجد جمهورا كبيرا لفن الابتهال والتواشيح تجاوزت حدوده الثقافة والمكان بل والدين أيضا؛ فكان الرجل أشبه بالظاهرة الصوتية منه إلى مبتهل يقول ما عنده ثم يمضي.
ويكاد المرء عندما يستمع إلى صوت النقشبندي وهو يعلو بالابتهال وينطلق الإحساس من أعماقه أن تلامس نفسه السحاب، وأن تطير روحه بلا أجنحة سوى أجنحة الحب الصوفي الذي استطاعت الكلمات المحملة بالمشاعر وجودة صوت النقشبندي وقوته أن ترفعه إلى تلك الآفاق البعيدة.
النقشبندي.. قصة الحياة
وحياة النقشبندي -رغم شهرته- تكاد تكون مجهولة إلا من نتف قليلة قد لا ترسم الصورة الكاملة عن ذلك الرجل الذي لم يطرق أبواب الشهرة في القاهرة إلا بعدما تجاوز عمره الأربعين بكثير، إضافة إلى أنه توفي في الخمسينيات من عمره، لكن ما كان يحمله الرجل أكبر من السنوات لتحقيق الشهرة؛ فالرجل كان يحتاج إلى من يخلي بين صوته وقلوب الناس وآذانهم.
وما تحتفظ به الذاكرة عن “سيد النقشبندي” ليس كثيرا؛ ربما لأن الرجل كما كان معروفا عنه كان منصرفا بحسه الكامل إلى ما يقول وينشد، وكان همه الأكبر ترسيخ القيمة قبل تدوين سطور حياته وقصتها، يضاف إلى ذلك أن الرجل مات ولم يترك مالا؛ فقد عرف عنه الكرم الذي تجاوز الحدود، فمات ولم يترك مالا أو عقارات، وربما ذلك ما جعل الأبناء لا يستطيعون أن يهتموا بتراث والدهم وتدوين حياته.
ولد “سيد النقشبندي” في قرية “دميره” مركز طلخا بمحافظة الدقهلية بمصر في عام 1920م، ثم انتقل وهو في صغير بصحبة أسرته إلى مدينة طهطا بمحافظة سوهاج وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، وهناك تربى تربية صوفية خالصة، وتأثر بالطريقة النقشبندية التي أخذ منها اسم شهرته، وكان والده هو شيخ الطريقة التي كانت تلتزم بالذكر بالقلب، وحفظ في تلك الفترة القرآن الكريم ونال حظا من الفقه، وقدرا من الشعر الصوفي الخالص، منه قصيدة البردة للإمام البوصيري وأشعار لابن الفارض -الشاعر الصوفي المصري الشهير- وكان الذي تعمق في نفسه بقوة في تلك الفترة هو محبة الرسول ﷺ، وكان حبا يتميز بالصفاء حتى ليخيل لمن يستمع إليه أنه عندما كان يذكر اسم محمد ﷺ كأنه يخاطبه أمامه ويوجه إليه ابتهالاته.
كان النقشبندي مقرئا للقرآن في محافظة الغربية بدلتا مصر، وكان مشهورا بالابتهالات الدينية داخل محيطه الإقليمي، وذاع صيته في تلك المحافظة، وكان قريبا من محافظها الذي كان يستدعيه في بعض السهرات الصوفية للإنشاد؛ فكان النقشبندي يهيم بصوته في مدح النبي ﷺ؛ حتى إن المارة في الطريق كانوا يتزاحمون للاستماع إلى هذا الصوت الفريد في معدنه وأدائه؛ فكان صوته يروي الآذان والقلوب العطشى إلى ذلك الحب الإلهي.
بدأت شهرة النقشبندي في عموم مصر والعالم الإسلامي متأخرة؛ حيث تعرفت عليه الإذاعات عندما أحيا إحدى الاحتفالات الدينية في مسجد الحسين بالقاهرة، ثم ازدادت شهرته عندما بثت الإذاعة المصرية برنامجا تحت اسم “الباحث عن الحقيقة- سلمان الفارسي”، وكان الشاعر “حمد السيد ندا” من الشعراء الذين كتبوا عددا من القصائد الصوفية التي تغنى بها النقشبندي.
الإنشاد والمديح
سيد النقشبندي
فن المديح قديم؛ فالشعراء مثل حسان بن ثابت وكعب بن زهير وغيرهما كانت لهم أشعار في مدح خصال النبي ﷺ والإسلام، وتطور فن المديح على مستوى الشعر، واستأثر المتصوفة بالمديح وأوغلوا فيه.
أما فن الإنشاد الذي كان جوهره المناجاة للخالق والدعاء له؛ فقد شارك فيه بعض من قراء القرآن الكريم، ثم أصبح له رواده. ويلاحظ أن الإنشاد الديني كان مدخلا للبعض للدخول إلى عالم الطرب، وعلى رأسهم السيدة “أم كلثوم”، وكانت حلقات الإنشاد أشبه بالمكان الذي يصقل الموهبة؛ فهذا الفن بوجه عام يحتاج إلى ذوي النفس الطويل، والتدريب المتواصل على التحكم في النفس وطبقات الصوت في أثناء الإنشاد.
أما موقع “النقشبندي” في الإنشاد فيكاد لا يضاهيه غيره؛ إذ تحتل ابتهالاته مكانا في وجدان المسلمين على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم؛ فقليلو الحظ من الثقافة يهيمون مع صوته، ويرتفعون به، ويحلقون بعيدا في بحور محبة الخالق ومحبة نبيه ﷺ، وكانت الحفلات التي يترنم فيها بصوته وإنشاده العذب مجتمعا للمحبين على اختلاف انتماءاتهم.
وقد ترك النقشبندي تراثا كبيرا من الإنشاد ما زالت غالبية الإذاعات العربية تذيعه خاصة في رمضان، وله بعض الابتهالات باستخدام الموسيقى، ونظرا لروعة إنشاد النقشبندي وقوة تأثيره في نفس مستمعيه قامت إحدى المخرجات المصريات بإنتاج بعض من ابتهالاته في رسوم كرتونية للأطفال حتى يتعايش هؤلاء الصغار مع هذه الظاهرة الصوتية والشعورية.
النقشبندي.. شهرة كبيرة
وحقق النقشبندي صيتا كبيرا في العالم الإسلامي فزار العديد من أقطاره، منها دول الخليج وسوريا وإيران وعدد من دول المغرب واليمن، وفي الستينيات ذهب لأداء عمرة، وشدا بصوته بابتهالاته وأناشيده، وتصادف مرور مجموعة من المعتمرين الجزائريين المتعصبين فأوسعوا النقشبندي ضربا، ولولا دفاع مجموعة من المصريين عنه لكان في الأمور أشياء أخرى.
وكان الرئيس السادات من المغرمين بصوت “النقشبندي”، وكان عندما يذهب إلى قريته في ميت أبو الكوم يبعث إلى النقشبندي لينشد له ابتهالاته في مدح النبي ﷺ، وكان النقشبندي أحد خمسة مشايخ مقربين من السادات منهم الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر.
وقد حصل الشيخ سيد النقشبندي على العديد من الأوسمة والنياشين من عدد من الدول التي زارها، كما كرمه الرئيس السادات -بعد وفاته- عام 1979 فحصل على وسام الدولة من الدرجة الأولى، وأطلقت محافظة الغربية التي عاش فيها أغلب عمره اسمه على أكبر شوارعها في مدينة طنطا.
توفي الشيخ “سيد النقشبندي” في 14 من فبراير 1976م عن عمر يناهز السادسة والخمسين عاما، قضى منها شهورا قليلة في القاهرة استطاع خلالها تسجيل أغلب ابتهالاته.