هل يمكن للشعوب العربية والإسلامية أن تسهم في بناء القدرات التكنولوجية؟ هل يمكن أن تلعب المنظمات الأهلية هذا الدور الاستراتيجي؟ هل يمكن أن يكون هذا الدور خطًّا موازيًا وليس منافيًا ولا مجافيًا للخط الرسمي؟
الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة واحدة هي: نعم يمكن!!!
مقومات تمكننا من الفعل
تمتلك الأمة العربية والإسلامية المقومات اللازمة للقدرة التكنولوجية متمثلة في:
1- الموارد البشرية: سواء منها الأيدي العاملة المحترفة والماهرة بحرفتها أم الكفاءات العلمية القادرة على استيعاب المستويات التكنولوجية والعلمية المختلفة.
2- القدرة على الإبداع والخَلْق وحل المشكلات العلمية والتكنولوجية: مستغنية ومستقلة في ذلك عن غيرها، والأمثلة على ذلك عديدة لا حصر لها.
3- الموارد المالية: فالأمة العربية والإسلامية لا تفتقر أبدًا لعنصر المال سواء لدى الأفراد أم المؤسسات أم الحكومات، ولكن ما تفتقده هو ترشيد ذلك الإنفاق من خلال تحديد أولوياته، والقضاء على مظاهر الإهدار والسفه والفساد.
4- القدرة على الحشد المالي والبشري عند الحاجة: وهو ما يجسده التراث الطويل والمشرف للأوقاف، ودورها في تلبية احتياجات الأمة الاستراتيجية، في إطار ووضعية العمل في المجال المشترك بين الحكومات والمجتمعات.
كيف يكون بناء القدرات التكنولوجية؟
تصورنا الذي نطرحه هنا أن ذلك البناء يقوم على عمودين رئيسيين:
الأول: بناء تكنولوجيا ملائمة على كافة المستويات الدنيا والوسيطة والعليا: والملاءمة هنا ذات شقين:
أ-الشق الأول: هو الملاءمة الاجتماعية الاقتصادية: بالمفهوم الذي أوحى به “غاندي“، والذي صاغه من بعده “إرنست شوماخر” في كتابه “كل صغير جميل أو Small is Beautiful” والذي تتلاحم فيه المؤسسات الجامعية والبحثية والمهارات الحرفية الفطرية؛ لتخرج لنا تكنولوجيا صنعتها عقولنا وسواعدنا (ولعل مركز تنمية الصناعات الصغيرة في جامعة عين شمس يقدم النموذج والمثال في ذلك).
ب-الشق الثاني: هو الملاءمة البيئية؛ فالآثار التدميرية للتكنولوجيات والصناعات الحديثة لا تخفى على أحد، وهو ما يعجز العالَم الآن عن الوصول إلى إنفاق لحل إشكالياته، وما مؤتمر البيئة العالمي بهولندا في نوفمبر 2000 الماضي عنا ببعيد، (ولعل في المحاولات التي يقوم بها المركز الطلابي الجامعي بجامعة هامبولت نموذجًا يمكن أن يُدرَس هو وغيره، ويُبنَى عليه).
الثاني:التنشئة العلمية: فبناء القدرات التكنولوجية يحتاج إلى وجود أجيال كاملة قادرة على تحمل أعباء البناء، أجيال لا تستسهل استيراد التقنيات وهي تخدع نفسها بعنوان برَّاق يُسمِّي الأشياء بغير أسمائها “نقل التكنولوجيا” بدلا من “نقل الآلات”.
ويتحقق ذلك من خلال بناء جيل تتوافر فيه الصفات التالية:
أ-حب العلم والقدرة على استيعاب مستجداته
ب-القدرة على حل المشكلات العلمية والتكنولوجية
ج-القدرة على الإبداع والاختراع العلمي والتكنولوجي.
قصة التكنولوجيا الملائمة
ولتوضيح فكرة بناء القدرات التكنولوجية والتكنولوجيا الملائمة أكثر دَعُونا نَقُلْ لكم: ما هي؟ وما قصتها؟
“التكنولوجيا الملائمة هي” تكنولوجيا ذات وجه إنساني” كما عبَّر عن ذلك “إرنست شوماخر” أبو التكنولوجيا الملائمة في العالم، وهي أيضًا “وصف لطريقة ما في توفير الاحتياجات الإنسانية بأقل التأثيرات على موارد الأرض غير المتجددة”، والتكنولوجيا الملائمة هي مزج إبداعي بين مزايا ما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة والممارسات التقليدية الفعَّالة من أجل ابتكار حلول تسمح للناس بالعيش في راحة بأقل التأثيرات الضارة بباقي الأحياء أو بالبيئة المحيطة، وتهدف التكنولوجيا الملائمة كذلك إلى زيادة الاعتماد على الذات.
وإذا كان “إرنست شوماخر” المستشار الاقتصادي للمجلس القومي للفحم في بريطانيا، هو أبا التكنولوجيا الملائمة؛ فذلك لأنه وضع أفكاره التي أوردها في كتابه الشهير” كل صغير جميل” أو “Small is Beautiful” موضع التنفيذ حين دعاه جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند ليطوف بالهند، ويشير على لجنة الخطة الهندية بما تعمله لخدمة الريف.
وكانت خلاصة فكرة “شوماخر” أن نحاول الارتباط الوثيق بالأنشطة غير الزراعية في الريف الهندي، التي تؤدي إلى اندماج فائض السكان الذي يتجه إلى المدن، وخلال تلك الزيارة برز السؤال التالي: ما هي تلك التكنولوجيا المناسبة للهند الريفية؟! ثم جاءت الإجابة الفورية: يجب أن تكون شيئًا أكثر إنتاجًا مما لديهم من أساليب جلبت لهم البؤس وحافظت على فقرهم، ولكن بشرط أن تكون شيئًا أبسط وأرخص من التكنولوجيا الغربية المكلفة، فلم يكن هناك وسط بين تكنولوجيا صنع الفخار بالقرية التي رأسمالها 50 روبية، وبين الصناعة الحكومية المعتمدة على الآلات التي رأسمالها 50 ألف روبية.
وكانت مهمة “شوماخر” إيجاد هذا الوسط الملائم، لكن لا بد من التأكيد هنا على أن “شوماخر” لم يبتدع فكرة التكنولوجيا الملائمة؛ إذ يرجع شرف ذلك إلى “غاندي” الذي وصفه “شوماخر” بأنه “الاقتصادي الأعظم لهذا القرن”، والذي يُعَدُّ بحق الأب الروحي لحركة التكنولوجيا الملائمة، ؛ حيث كان يرى أن على الهنود الاختيار بين الهند بقراها القديمة قِدَم الهند ذاتها، وبين الهند ذات المدن التي أوجدتها السيادة الأجنبية التي تسيطر اليوم على القرى، وتستنزفها لتُحِيلها إلى حطام، وكان يقول: كيف تتحمل دولة لديها عشرات الملايين من آلات الرزق المنتجة أن تحل محلها آلة تتسبب في طرد عمال هذه العشرات من ملايين الآلات القائمة فعلا؟!
وكان شعار “غاندي” المثير للإعجاب هو “الشاركا” أو عجلة الغزل التي أمدت الملايين في القرى بفرص العمل، لكنه كان يقول: إنني أود من جميع الشباب المدربين علميًّا أن يستخدموا مهاراتهم لزيادة الكفاءة الإنتاجية لعجلة الغزل كلما أمكن، وقد جاء “شوماخر” بعد ذلك؛ فقام بتطوير تلك المبادئ وتجسيدها وتبسيطها للجماهير في حقل التنمية، وفي عام 1965 أسس جمعية تنمية التكنولوجيا الوسيطة في لندن، والتي كان لها دور كبير في بلورة الفكرة وإبراز محاسنها؛ بل وفي تطبيقها عمليًّا”.
دور المؤسسات الأهلية
تلعب المؤسسات الأهلية في الغرب دورًا كبيرًا في رعاية المؤسسات التعليمية والعلمية من مدارس وجامعات ومعاهد بحثية، فهل يمكن أن يكون لها الدور نفسه عندنا؟!.
الحقيقة أن تاريخنا القريب، خاصة تاريخ الأوقاف في رعاية مثل تلك المؤسسات تاريخ مُشرِّف، لكن هذا الدور اضمحل وتراجع كثيرًا لأسباب ليس هنا مجال ذكرها، ومن ثم فمن السهل استعادة هذا الدور؛ حيث ما زالت رُوح الخير تسري في قلوب أبناء الأمة كما كانت تسري من قبل. كل ما نحتاجه هو أن تتحول الدفة، وأن يتطور مفهوم الخير لدينا، من مجرد منح الهبات والعطايا للفقراء والمحتاجين إلى تبني الأهداف الاستراتيجية للأمة.
ميزة أن تقوم المؤسسات الأهلية بهذا الدور هو أن يتحول هذا الهدف الاستراتيجي إلى روح تسري في جسد الأمة، بدلاً من أن يظل خاضعا لتقلبات السياسة، وتحت رحمة الروتين الذي يستطيع أن يميت أكثر الأفكار حيوية.
هذه باختصار هي الفكرة التي ندعو إليها، والتي نؤمن بها في “إسلام أون لاين”، والتي ندعو جماهير القراء لإبداء ملاحظاتهم حولها كتابة.
د.مجدي سعيد – المحرر العلمي5>