لم تكن الساعات الثلاث التي قطعتها السيارة من نيودلهي إلى أجرا طمعا في بلوغ تاج محل مجردة من المتعة والشوق.
ففي الصباح الباكر على الطريق الزراعي تجد حقول الأرز المغمورة بالمياه، الأقدام العارية التي تغوص من بقعة لأخرى في أرض سوداء لامعة، الفتيات بزيهن المدرسي يسرن في مجموعات ضاحكة تبعدهن مسافات شبه فاصلة عن مجموعات الفتيان، النشاط الذي يدفع أقدام التلاميذ يدلك على أن المدرسة ما زالت بعيدة عن البصر.
وكذلك تسمع الأنغام الهندية التي تنبعث من السيارة التي أجلس فيها، والقبلات التي يطبعها السائق على صنم صغير للإلهة “مات دورغا” طالبا منه السلامة في الطريق والرزق في آخر اليوم.
من دلهي إلى أجرا
لونلي بلانت هو الدليل السياحي الشهير الذي أمسك به، أراجع خرائطه فأعرف أنني تركت حدود نيودلهي الكبرى مغادرا إلى القسم الغربي من ولاية أوتار براديش، أكثر ولايات الهند أهمية للحضور الإسلامي والثقل الثقافي والمعالم الأثرية. هنا مكان من أكثر المواقع الجغرافية في الهند ازدحاما بالمسلمين. يمكنك في هذه الولاية أن تسأل بأمان ودون قلق -على عكس ما يمكن أن يساورك في بعض ولايات الغرب والشمال- عن مسجد للصلاة أو مسلمين للتعرف عليهم.
لم يتبق لي للوصول إلى تاج محل سوى ربع الساعة. عند مشارف مدينة أجرا، لم يكن ممكنا ألا أتوقف عند مسجد وقبر “جلال الدين أكبر” حاكم الهند الشهير. المكان لا يمكن أن تعبر عنه الكلمات من حيث تنسيق الحدائق، ممرات التجول، النافورات والمسابح المائية، القباب والبوابات القوسية، الإتقان في النحت على صخور الرخام بتفاصيل مدهشة، تكييف الهواء الطبيعي داخل الغرف وفي الردهات وعبر الأروقة، صدى الصوت الذي يرتد إليك مرجفا في الردهات وفي حجرة جلال الدين.
كم هم متواضعون ملوك هذا الزمان مقارنة بما أوتي “أكبر”. قبل أن أطرق الرأس متأثرا، كانت الآيات الأولى من سورة تبارك، وهي ترصع البوابة الكبرى لحجرة أكبر، تذكرني بأنه سبحان من له الدوام، وتبارك الذي بيده الملك.
لم أكن قد أفقت بعد من تلك التأملات حتى همس الدليل السياحي في أذني بأن أدفع فقط 20 روبية رسما للدخول، مستفيدا من ملامحي الهندية، بدلا من 800 روبية التي يدفعها السائحون الأجانب. ورغم ثقتي في ملامحي الهندية، ورغم مراودة نفسي بعد أن سألني الموظف الروبيات العشرين، آثرت الأمانة ودفعت المبلغ السياحي لدخول أشهر المعالم الإسلامية في آسيا.
الدخول إلى التاج
إذا كنت مثلي من أولئك الذين يفتقدون الحس بالتفاصيل، فلن تلتفت إلى ذلك التدهور الطفيف على بعض جدران التاج التي تأثرت بعوامل التلوث الهوائي المنبعث من المناطق الصناعية بمدينة أجرا، وما ينتج عنها من أمطار حمضية تحمل مذيبات تؤدي إلى تشويه الجدران والأسقف والقباب المرمرية.
إدارة المعلم التاريخي حظرت النشاط الصناعي في دائرة نصف قطرها 10 كيلومترات حول الموقع، كما أنها توقف سيارات السائحين والزوار على بعد نحو كيلومترين من التاج ولا يسمح بالوصول إلى بوابة التاج إلا بسيارات كهربائية أعدتها الإدارة السياحية لمن يدفع، وإلا فعليك بساقين قويتين واندفع نحو البوابة الرئيسية.
عند البوابة الحمراء لم أستسلم لتلك القصص الليلية التي تحكى عن أن الملك شاهجهان أصدر أوامره، بعد أن فرغ البناءون من بناء الأثر الخالد، بقطع أيديهم وسلبهم أبصارهم وفي مقدمتهم المهندس العبقري عيسي خان حتى لا يبنوا لأحد غيره بناء مماثلا! أيعقل أن يسع قلب المحب مكانا لحيل الجلادين وأفاعيل المعتقلات السياسية؟!.
المرور بالحدائق البديعة، والتأثر بدقة البناء، والاستماع إلى شرح المرشدين السياحيين، ومراجعة الكتب السياحية، كلها لا تساوي أن تجلس عند إحدى الزوايا الجانبية من التاج تستمتع ببرودة المرمر الأبيض وأمامك الآيات القرآنية تزين إطارات البوابات.
في الأفق يمتد ذلك النهر الصغير المعروف بنهر يامونا هادئا منعطفا حول التاج، عبر النهر سترى على ضفته المقابلة قلعة حمراء وفي ركن منها سيشير إليك العارفون إلى سجن آل إليه مصير شاهجهان بعد أن انقلب عليه ابنه أورانكزيب واقتنص الحكم منه، ثم أكمل تراجيديا الصراع على السلطة فصفى خلافاته مع إخوته بطرق ليس آخرها القتل والاعتقال. لكن أورانكزيب لم يكن مرعبا إلى النهاية، فبعد أن توفي شاهجهان في سجنه بالقلعة أعاد جثة أبيه إلى قبر يقابل قبر زوجته ممتاز، وكلا القبرين يقعان في غرفة تحتية في قلب التاج.
لن تمر على أسماء الحكام المسلمين للهند دون أن تلحظ، دون عناء، احتفاء الهندوس بـ”جلال الدين أكبر” لدرجة تصل إلى الترحم عليه والدعاء له، ومقتا لـ “أورانكزيب” لدرجة تصل إلى التطاول. ودون أن ترجع إلى كتب التاريخ، أو تغرق في التفاصيل المربكة للديانة الهندوسية وعلاقتها بالحكم الإسلامي للهند، ستعرف أن محبتهم “لجلال الدين أكبر” تنبع من أنه كان يزاوج بين الهندوسية والإسلام ويقدر عقيدة الهندوس ويشجعهم على بناء معابدهم ويتزوج من نسائهم، بينما كان حفيده أورنكيزيب يفعل العكس.
هكذا يفعل المحبون
لا ترهق بالك بالرجوع إلى الشروحات التفسيرية لتاريخ التاج وقصته، اترك نفسك طليقا من مكان لآخر، وحينما تشعر بالتعب اجلس في مكان ظليل وراجع تلك المعلومات السياحية التي ستخبرك أنه في عام 1631 ماتت “ممتاز محل” الزوجة الثانية لإمبراطور الهند المسلم شاهجهان وهي تلد، فأراد الزوج أن يخلد ذكراها ببناء يضم قبرها.
بعض المعلومات التي ستراجعها ستكون مؤثرة للغاية، كتلك التي تقول إن شاهجهان قضى ليلة وفاة زوجته في ألم وتأثر حتى اشتعل رأسه شيبا دفعة واحدة. ورغم أن بناء التاج قد شرع فيه في ذات العام الذي توفيت فيه ممتاز فإن عشرين ألفا من العمال والفنيين تمكنوا بالكاد من إتمام البناء بعد 22 سنة كاملة.
المعلومة الطريفة التي قد تفيدك أنه إذا أردت أن تبني لزوجك بناء كهذا فلن يكلفك الأمر كثيرا، فقط 60 مليون دولار حسب آخر التقديرات الهندسية! وإذا لم تكن مستعدا هذه الأيام، فيمكنك أن تشتري نموذجا مصغرا من المرمر بسعر 50 دولارا، وهي الهدية الأكثر شهرة في مئات المحال التي تحيط بالتاج. لا تفعل مثلي وتشتري لزوجتك نموذجا صغيرا بخمسة دولارات، فقد تقابل تجربة سيئة بعد عودتك.
مسجد للصلاة
في مكان لا يشغل بال السائحين كثيرا إلى الغرب من التاج يقع المسجد الذي بناه شاهجهان، هذه المرة من الحجر الرملي الأحمر ليصنع تباينا لونيا مع هيمنة اللون الأبيض الرمادي للتاج ومناراته الأربع، لن يفوتك أن تصلي ركعتين في المسجد أو تؤدي فريضة فيه من مطلع الشمس حتى غروبها.
مكان الوضوء تمثله بحيرة صناعية مربعة الشكل بين قاعدة التاج والمسجد، لا تبتئس من لون مياهها الضارب إلى السواد، فحين تملأ راحتيك ستجدها صافية عذبة، قبل أن تقلق من أن يلوث وضوءك المياه ستجد تحت أقدامك قنوات صغيرة تصرف المياه خارج البحيرة.
إمام المسجد وخادمه يقفان ببابه يرحبان بالمسلمين للصلاة ويرشدان السائحين بخلع نعالهم. حدثني الإمام بعربية جيدة أنه تعلم في معهد إسلامي تابع لجامعة دار العلوم بشمالي دلهي، وما زال يحلم بالسفر إلى الأزهر. لم يكن هناك من داع لسؤاله عن معاشه، فهندامه ينطق بالإنابة عن تواضع الحال.
الصراع على التاج
حين يحل الغروب لا بد للجميع من الانصراف، فهناك مخاطر على المكان، وآخر المخاطر القلق من اعتصام جماعات هندوسية متطرفة تسعى إلى الاستحواذ على المكان مدعية أن المسجد والتاج أقيما على أنقاض معبد هندوسي للإله شيفا. ومن ثم يطالبون أتباعهم بضرورة هدم تاج محل والبحث عن قواعد المعبد الكامنة أسفل المصطبة المرمرية الكبرى التي يقف عليها التاج.
هي حالة يمكن أن تكرر المذابح التي وقعت للمسلمين على أيدي الهندوس حينما هدموا المسجد البابري في عام 1992 وما تلا ذلك من صدامات ألحقت بالمسلمين خرابا وقتلا في عدة أماكن أشهرها ما سقط منهم من قتلى وجرحى بالآلاف في ولاية جوجارات عام 2002.
القضية شديدة التشابك، فالسنوات الأخيرة تشهد جدلا قضائيا بين هيئة الأوقاف السنية في ولاية أوتار براديش –التي يقع بها تاج محل– والحكومة الهندية. حيث تطالب الهيئة باعتبار تاج محل “وقفا إسلاميا” لأنه يحوي مسجدا ومقابر للمسلمين، ومن ثم فهي تدعو إلى الإشراف عليه والسماح لها بإقامة صلاة الجماعة فيه خمس مرات يوميا ، وكذلك الإشراف على نسبة من عائدات تاج محل للنهوض بباقي الأوقاف الإسلامية.
الحكومة الهندية ترى في التاج موروثا تاريخيا تبع منذ إنشائه للحكومة ولم يخصص للأوقاف الإسلامية. ومن ثم فهو معلم حضاري وسياحي يعرفه الناس في العالم كرمز للحب والوفاء بين زوجين ولا علاقة له بالأوقاف الإسلامية. كما أن الأموال التي تدخل من عائدات زيارة السائحين للتاج هي مستحقات حكومية للقطاع السياحي ولا نصيب للمساجد أو الأوقاف منها.
في بعض الحالات الإعلامية يصور الأمر وكأنه طمع من هيئة الأوقاف في عائدات التاج الضخمة، وأن الحكومة فعلت كل ما يمكن لتيسير الأمر على المسلمين لأداء صلاتهم، بل إنها –يدعي المتعصبون الهندوس- دللت المسلمين في التاج حين صدر قرار في أكتوبر عام 2003 بفتح أبواب التاج لصلاة التراويح في شهر رمضان بين الساعة السابعة والنصف إلى العاشرة مساء.
الجانبان يستشهدان بالوثائق التاريخية، وأهمها أثر تركه المؤرخ عبد الحميد اللاهوري في تأريخه لفترة حكم الملك شاهجهان وخاصة الفترة من 1628-1658 ميلادية. ورغم أن النص واحد فإن هناك نسختين واحدة أردية والثانية هندية، النسخة الهندية لا يوجد فيها تخصيص تاج محل للأوقاف الإسلامية، بينما النسخة الأردية يشار فيها إلى المسجد وإلى مبنى ملحق به يستخدم لتدريس القرآن وعلومه. المبنى المشار إليه لتدريس القرآن وعلومه يوجد في النسخة الهندية ولكنه يحمل صفة “دار للضيافة” وليس مركزا دينيا.
هكذا يتعرض تاج محل لتهديدات متنوعة، لكن الثابت أنه في كل يوم جمعة يحتشد الناس من تلك الأزقة الضيقة في مدينة أجرا وما حولها فيأتون إلى تاج محل يصلون صلاة واحدة جامعة تنبهر لها الأبصار.
تاج محل بهذه الحال أكبر من مزار سياحي، هو بؤرة كامنة للنزاع الديني ومكمن للخطر يمس المسلمين في الهند سواء من قبل المتشددين الهندوس أم ممن يفتعلون قضايا خلافية في المنافذ الإعلامية تصور المسلمين وكأنهم أوشكوا على إعادة بناء إمبراطوريتهم من جديد، ولهذا حديث آخر.