شهدت نصوص الكتاب والسنة النبوية على أهمية الصلاة وأنها ركن من أركان الإسلام، وأن الصلاة عماد الدين والعهد بيننا نحن المسلمين وغيرنا، لذلك أجمع العلماء على وجوب أداء الصلاة في وقتها، وأن ترك الصلاة كبيرة من الكبائر، وذهب الفقهاء إلى كفر من ترك الصلاة جحودا لها أو استخفافا واستهزاء بشأنها، واختلفوا فيمن تركها تكاسلا فجمهور الفقهاء على فسقه وأن يوكل أمره إلى الله، والإمام أحمد وعدد من صحابة النبي ﷺ على كفره. فإذا كان هذا شأن الصلاة فما هو واجب المسلمين نحو تارك الصلاة؟
وواجب المجتمع نحو تارك الصلاة هو الدعوة بالحسنى أولا فإن لم تنفع معه الموعظة والدعوة فعلى المجتمع مقاطعته حتى يعود إلى رشده ويئوب إلى وعيه، فلا يزوج ولا يوظف عند أحد من المسلمين، وليقاطع حتى يعرف خطورة ما هو عليه من تركه لفرض من فرائض الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة .
جاء هذا في فتوى مطولة من فتاوى فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي
وإليك نصها:
ما الرأي في إنسان عينته هيئة أو مؤسسة لأداء وظيفة محددة، يتقاضى منها راتبه، ويكون مسئولاً عنها، ولكنه لم يؤد حق الوظيفة عليه، فتخلف عن العمل أيامًا كاملة أو ساعات من أيام، وهو قادر مختار ليس بمريض ولا مقهور ؟
قد يختلف أعضاء لجنة الرأي في مثل هذا الموظف: فيرى بعضهم أنه أخلّ بالتزاماته الجوهرية نحو عمله، فلا عقوبة له إلا فصله وحرمانه من الوظيفة، ويرى آخرون أن يُجازي بعقوبة أخرى غير الفصل ما دام غير مستخف بالعمل ولا مستهزئ به.
وهذا المثل يوضح لنا موقف أئمة الإسلام في المسلم الذي ترك العبادات عمدًا وبخاصة الصلوات المفروضة اليومية.
فيرى بعضهم أن الوظيفة الأولى للمسلم، بل للإنسان في الحياة، هي عبادة الله وحده، وتركها يعد إخلالاً بعمل المسلم الجوهري، فلهذا لا يستحق هذا اسم الإسلام، ولا الانضواء تحت لوائه . ويؤيد هذا الرأي ما جاء في الحديث الصحيح ” بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة “. (رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد).
العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر “. (رواه أحمد وأصحاب السنن).
ويرى آخرون أنه إذا لم يكن منكرًا ولا مستخفًا بفرائض الإسلام، وكان مقرًا بتقصيره، نادمًا عليه، توّاقًا إلى التوبة، فهذا يظل في زمرة المسلمين محكومًا له بالإسلام.
ذلك أن تارك الصلاة أحد رجلين :
إما أن يتركها إنكارًا لوجوبها، أو استخفافًا بها، واستهزاء بحرمتها فهذا كافر مرتد بإجماع المسلمين.
لأن وجوب الصلاة ومنزلتها في الإسلام معلوم من هذا الدين بالضرورة، فكل منكر لها، أو مستخف بها يكون مكذبًا لله ولرسوله، وليس في قلبه من الإيمان حبة خردل . وهو مثل الكفار الذين وصفهم الله بقوله :
{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58].
ومن هنا نعرف منزلة الذين يعتبرون الصلاة والعبادة من مظاهر التأخر والرجعية، ويسخرون من الذين يقيمون الصلاة.
وإما أن يتركها كسلاً، وانشغالاً بالدنيا، واتباعًا للهوى، ووسوسة الشيطان فهذا قد اختلف فيه العلماء: هل هو كافر أم فاسق ؟ وإذا كان فاسقًا فهل يستحق القتل أم يكفي التعزيز بالضرب والحبس؟
فالإمام أبو حنيفة يقول: هذا فاسق بترك الصلاة، ويجب أن يؤدب ويعزر بأن يضرب ضربًا شديدًا حتى يسيل منه الدم، ويحبس حتى يصلي . ومثله تارك صوم رمضان.
وقال الإمامان مالك والشافعي: هو فاسق وليس بكافر، ولكن لا يكفي جلده وحبسه وإنما عقوبته قتله إذا أصر على ترك الصلاة.
وقال الإمام أحمد – في أشهر الروايات عنه -: هذا التارك للصلاة كافر مارق من الدين ، وليس له عقوبة إلا القتل فيجب أن يطلب منه التوبة إلى الله والرجوع إلى الإسلام بأداء الصلاة فإن أجاب فيها وإلا ضربت عنقه.
والواقع أن ظواهر النصوص من الكتاب والسنة تؤيد هذا المذهب الذي قال به إمام السنة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهما.
فالقرآن يجعل ترك الصلاة من خصائص الكفار {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (المرسلات: 48) وقال في وصفهم يوم القيامة :
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ* خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (القلم: 43).
ولا يستحق عصمة الدم وأخوة المسلمين في نظر القرآن إلا من تاب من الشرك وأقام الصلاة، وآتي الزكاة، قال تعالى في شأن المشركين المقاتلين:
{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم} (التوبة: 5) وقال بعد ذلك: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} (التوبة: 11).
ويحدثنا القرآن عن صورة من صور الآخرة . حيث الكفرة المجرمون في نار سقر، والمؤمنون من أصحاب اليمين يسألونهم: (ما سلككم في سقر؟) أي ما الذي أدخلكم هذه النار ؟.
(قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين). (المدثر: 42).
فكان أول مظهر من مظاهر كفرهم وإجرامهم أنهم لم يكونوا من المصلين.
وإذا رجعنا إلى السنة وجدنا الأحاديث النبوية تؤكد كفر تارك الصلاة.
فعن جابر أن النبي ﷺ قال: ” بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ” رواه مسلم وعن بريدة أن النبي ﷺ قال: ” العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ” رواه الخمسة وصححه النسائي والحافظ العراقي.
وجاء عن معاذ بن جبل أن النبي ﷺ قال له: ” لا تترك الصلاة متعمدًا فإن من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ” رواه الطبراني في الأوسط بإسناد، قال المنذري: لا بأس بع في المتابعات.
وعن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لا يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبَيِّ بن خلف ” رواه أحمد قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
يقول ابن القيم رحمة الله: ” من شغله عن الصلاة ملكه حشر مع فرعون، ومن شغله عنها ماله حشر مع قارون، ومن شغله عن الصلاة جاهه حشر مع هامان، ومن شغله عنها تجارته حشر مع أبي بن خلف .
فإذا كان من لم يحافظ على الصلاة يحشر مع هؤلاء الكفرة العتاة – وهم أشد أهل النار عذابًا فما بالكم بمن تركها كليًا وعاش عمره لم يركع لله ركعة ولا سجد له سجدة ؟.
وقال ﷺ: ” من ترك صلاة العصر حبط عمله . (رواه أحمد والبخاري والنسائي عن بريدة).
فإذا كان ترك صلاة واحدة يحبط العمل فيكف بمن ترك الصلوات كلها ؟.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ هم أن يحرق على قوم بيوتهم لأنهم يتخلفون عن الجماعات (الحديث في الصحيحين) فكيف بمن لا يصلي أصلاً؟.
وأخبر القرآن عن المنافقين انهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، فكيف بمن لا ينهض إلى الصلاة أبدًا، لا نشيطًا ولا كسلان ؟.
هذه هي نصوص القرآن والسنة في شأن تارك الصلاة.
ولهذا لم يخالف أحد من الصحابة في تكفير من تركها متعمدًا واعتباره خارجًا من دين الإسلام.
روى الترمذي – وصححه – عن عبد الله بن شقيق العقيلي رضي الله عنه قال :
كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ” وعبارة الراوي تشعر أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا متفقين على هذا الرأي . ولهذا لم ينسبه إلى واحد معين منهم.
وهذا ما رواه أهل العلم وأصحاب الأثر عن الصحابة والتابعين وفقهاء الحديث.
فعن عليّ كرّم الله وجهه قال: من لم يصل فهو كافر.
وعن ابن عباس: من ترك الصلاة فقد كفر.
وعن ابن مسعود: من ترك الصلاة فلا دين له.
وعن جابر بن عبد الله: من لم يصل فهو كافر.
وعن أبي الدرداء: لا إيمان لمن لا صلاة له ولا صلاة لمن لا وضوء له.
وقال محمد بن نصر المروزي في كتابه عن ” الصلاة “: سمعت إسحق – يعني ابن راهويه يقول: صح عن النبي ﷺ أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ﷺ أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها – كافر.
وعن أيوب السختياني قال: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه.
قال الحافظ المنذري بعد أن أورد هذه الآثار والأحوال: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدًا لتركها حتى يخرج جميع وقتها منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس . ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء: رضي الله عنه ومن غير الصحابة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عتيبة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب وغيرهم . رحمهم الله تعالى “. (الترغيب والترهيب ج 1 كتاب الصلاة فصل الترهيب من ترك الصلاة تعمدًا).
هذا ما نقله الأئمة الحفاظ عن الصحابة ومن بعدهم في تكفير من ترك صلاة واحدة متعمدًا حتى يخرج جميع وقتها، فكيف يكون رأيهم فيمن سلخ من عمره سنين تطول أو تقصر ولم يحن جبهته لله ساجدًا في يوم من الأيام ؟.
هذا هو تارك الصلاة.
فإما أنه كافر إذا تركها منكرًا لها أو مستخفًا بوجوبها.
وإذا لم يكن منكرًا ولا مستخفًا فهو بين أن يكون كافرًا مرتدًا كما هو ظاهر الأحاديث، وظاهر ما أفتى به الصحابة ومن بعدهم، وأن يكون فاسقًا بعيدًا عن الله.
فأخف الآراء فيه أنه فاسق يخشى عليه الكفر . فمما لا ريب فيه أن الذنوب يجر بعضها إلى بعض، فالصغائر تجرّ إلى الكبائر، والكبائر تجرّ إلى الكفر.
ولهذا يجب على كل من ينتسب إلى الإسلام أن يراجع نفسه، ويتوب إلى ربه، ويصحح.دينه، ويصمم على إقامة الصلاة.كما يجب على المتدينين أن يقاطعوا كل تارك للصلاة، مصرّ على تركها، بعد أن يسدوا إليه النصيحة، ويأمروه بالمعروف، وينهوه عن المنكر.
قال الإمام ابن تيمية في تارك الصلاة: لا ينبغي السلام عليه، ولا إجابة دعوته.
وكذلك لا يجوز للأب أن يزوج ابنته من تارك للصلاة لأنه في الحقيقة ليس بمسلم وليس أهلاً لها . ولا أمينًا عليها، ولا على أولادها.
ولا يجوز لصاحب المؤسسة أن يوظف تارك الصلاة لأنه يعينه برزق الله على معصية الله، ومن ضيع حق الله الذي خلقه وسواه فهو لحقوق عباده أكثر تضييعًا وإهمالاً.
ومن هنا تتضح مسئولية المجتمع عن هذه الفريضة التي هي عماد الدين، والتي لم يجعل الله لأحد عذرًا في تركها، إلا أن يكون مريضًا مرضًا أفقده وعيه بحيث لا يفهم الخطاب وما دون ذلك من الأمراض لا تسقط به الصلاة ولو كان قعيدًا، أو مشلولاً، أو مثخنًا بالجراح.
فالشرع يقول للمريض: تطهر كيف استطعت، وصل كيف استطعت ولا تترك الصلاة، تطهر بالماء فإن لم تجد فتيمم صعيدًا طيبًا . صل قائمًا فإن لم تستطع فصل قاعدًا فإن لم تستطع فصل مضطجعًا على جنبك، أو مستلقيًا على ظهرك، مشيرًا برأسك، أو مومئًا بحاجبيك كما قال تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم). (التغابن: 16).
المجتمع مسئول إذا عن إقامة هذه الفريضة، وبخاصة كل ذي سلطان في سلطانه: كالأب مع أولاده الصغار، والزوج مع زوجته قال تعالى :
(وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك، والعاقبة للتقوى) (طه: 132) وقال عليه الصلاة والسلام: ” مُروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر ” (رواه أحمد وأبو داود والحاكم بإسناد حسن) . وقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة). (التحريم: 6).
فإذا كان الزوج حريصًا على زوجته، محبًا لها، وإذا كان الأب حريصًا على أولاده، محبًا لهم، فليحمهم من النار، وليأمرهم بطاعة الله تعالى، وأولها الصلاة.
بقي من السؤال جزء عن تارك الصلاة.
هل يصلي عليه إذا مات أم لا ؟.
فالجواب أن هذا مبني علي القول بكفره أو فسقه.
فمن اكتفى بالقول بأنه فاسق قال: يصلي عليه ويدفن مع المسلمين وأمره مفوَّض إلى الله إذا مات على الإسلام.
ومن قال بكفره مثل الإمام أحمد وغيره قال: لا يصلي عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وهنا فائدة ننبه عليها وهي الصحيح في مذهب أحمد: أنه لا يحكم بكفر تارك الصلاة إلا إذا دعاه الإمام – أو نائبه كالقاضي مثلاً . إلى أداء الصلاة فامتنع، أما قبل ذلك فلا نحكم عليه بالكفر، ويترك أمره إلى الله.
هذا كله في تارك الصلاة وحدها، فإذا أضاف إلى ترك الصلاة ترك الصيام والفرائض الأخرى، فقد تأكد فسقه عند القائلين بالفسق، وكفره عند القائلين بالكفر.
روى أبو يعلي بإسناد حسن عن ابن عباس – قال حماد بن زيد ولا أعلمه إلا قد رفعه إلى النبي ﷺ – قال: ” عرا الإسلام، وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم : شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان “.
وكفى بهذا الحديث وأمثاله زاجرًا ورادعًا لمن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي