أخي العزيز محمد، جزاك الله خيراً على غيرتك على دينك، وقد أحسستُ بلهيب حماسة قلبك ينبض في كلماتك، وهذه الغيرة والحماسة أمر محمودٌ ومطلوبٌ ولا شك، ولكن دعنا نكون عمليين استتباعاً للمنهج الذي اخترناه في الاستشارات، فإن سهام الغدر حاولت وما زالت تحاول الطعن في ديننا، في محاولة للنيل منه وتشكيك المسلمين في الإسلام، وهي محاولات لن تتوقف مادام هناك “أنجاسٌ” كما أسميتهم، فما دورنا إذن كمسلمين حيال ذلك؟
أرى أن الدور الأولى والأهم أن نقوم بإصلاح نفوسنا، ثم دعوة المسلمين ليعرفوا دينهم حق المعرفة، ويعوه ويفهموه، ولو تحقق ذلك، فلن أخاف على مسلمٍ حينئذٍ حتى لو اجتمعت عليه الدنيا بأسرها لتضله وتغويه، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعليقاً على قوله تعالى: “والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”، يقول رحمه الله: “لم يكتف-أي الله سبحانه وتعالى- منهم بمعرفة الحق والصبر عليه، حتى يوصي بعضهم بعضاً ويرشده إليه، ويحثه عليه، فإذا كان من عدا هؤلاء فهو من الخاسرين”، وبعبارة أخرى يقولها الداعية الأستاذ محمد محمود الصواف رحمه الله: “شرط النجاة من الخسران جعله الله تبارك وتعالى معلقا بمعرفة الناس للحق، وإذا عرفوه ألزموا أنفسهم به، ومكنوه من قلوبهم، وعاشوا بالحق وللحق، ولا يعفون من المسئولية ولا ينجون بأنفسهم إذا عرفوا الحق ولم يبشروا به ويدعوا الناس إليه، ويحملوهم حملاً على التمسك بالحق واتباع الحق”، “والمسلم لا يعيش لنفسه فقط، بل يعيش لنفسه وللناس، فإذا أصلح نفسه وجب عليه إصلاح غيره، والدعوة إلى الإصلاح تشمل الناس جميعاً، كل على حسب طاقته، وبقدر نطاقه الذي يحيط به، والنص في هذه الآية صريح لا يقبل التأويل”.
أما شيخ زهاد بغداد عبد القادر الكيلاني فقد تجاوز ذلك كله، فكان يقول: “سبحان من ألقى في قلبي نصح الخلق، وجعله أكبر همي”، ثم يقول: “إذا رأيت وجه صادقٍ قد أفلح على يديّ: شبعتُ، وارتويتُ، واكتسيتُ، وفرحتُ، كيف خرج مثله من تحت يديّ.
فيا أخي الكريم؛ اجعل رِيَّك وشبعك أولاً في دعوة الناس وإصلاحهم، ثم إن استطعتَ بعد ذلك أن تفعل ما تستطيع حيال هذه المواقع وغيرها، وتجاه كل من يظهر الكيد والشر بالإسلام والمسلمين، فافعل، ولكن اجعل همك الأكبر نصح الخلق وهدايتهم، كن “رجل عامة” كما وصف المحدِّثون المحدِّثَ الثقةَ الفقيه أبو إسحاق الفرازي، وفسروا قولهم ذلك بأنه “هو الذي أدّب أهل الثغور الإسلامية التي في أعالي بلاد الشام والجزيرة تجاه الروم، وعلّمهم سنن النبي ﷺ.
ألست تبغي القرب من الله عز وجل؟ “ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم السلام، أما علمتَ أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم؟ هل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق، وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر؟” كما يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى.
ويؤكد ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله فيقول: “الشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته: وقوفه في الصف ساعة، وجهاده أعداء الله، أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع، والعالم الذي قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم، أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح.
أصلح نفسك وقلبك، ثم كن قلباً بلسانٍ، وإياك أن تكون قلباً بلا لسان، فإنه سيفوتك من الفضل الكثير والكثير، واحمل عزيمة قوية، وهمة عالية، فـ:
على قدر أهل العزم تأتي العـزائمُ
وتأتي على قدر الكـرام المكـارمُ
كما يقول المتنبي.
أصلح نفسك.. مارس الدعوة.. حاول إصلاح الآخرين، واترك بعد ذلك كل ناعق كذابٍ أشر يقول ما يقول ويفعل ما يفعل، فلن يهز ذلك شعرةً من بنياننا المرصوص بمشيئة الله تعالى.
مع ملاحظة أني حذفت عنوان الموقع من نص الاستشارة، ولن أضعها حتى يقوم الدعاة بدورهم المناط بهم والمنشود في الدعوة إلى الله تعالى، وتثبيت الناس من دينهم، فإذا ما تم ذلك فسأضع هذه العناوين عياناً بياناً دون أن يختلجني أدنى شكٍ في أنها لن تفيد هؤلاء “الأنجاس” إلا “كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه” كما قال تعالى: “لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ”.
وفقنا الله إلى أن نكون دعاةً مهديين هادين.
الدكتور كمال المصري