في خطبته الشهيرة أمام الجمعية الفيزيائية الأمريكية قالَ العالم الفيزيائي “ريتشارد فينمان” في اجتماع لها عقد عام 1959م: “إنه عالم صغير بشكل مدهش ذلك العالم الأدنى”، وتساءل “فينمان” عن ماذا سيمكن للإنسان أن يفعله في حالة السيطرة على الذرة الواحدة وتحريكها بحرية وسهولة، كما تساءل عن ماذا سيحدث إذا أصبح بمقدور العلماء ترتيب الذرات بالطريقة التي يريدونها؟ .. جاء ذلك في إطار إعلانه عن ظهور تقنية حديثة في مهدها الأول في ذلك الوقت، سميت بالتقنية النانوية أو النانوتكنولوجيا (Nanotechnology).
ولقد مضى على إعلان “فينمان” ما يربو عن أربعة عقود من الزمان حتى الآن، وبالرغم من أن التطور في هذه التقنية قد تأخر نسبيا بالمقارنة بالتقدم المطرد في علوم الكمبيوتر مثلا، لكن هذه التقنية عاودت الظهور بكثافة عالية مؤخرا، على هيئة مبتكرات وتقارير علمية في كثير من المطبوعات العلمية العالمية.
لكن هناك ثمة اتفاق على أن عام 1990م هو البداية الحقيقية لعصر التقنية النانوية، ففي ذلك العام، تمكن الباحثون في مختبر فرعي لإحدى شركات الإلكترونات العالمية العملاقة من صنع أصغر إعلان في العالم، حيث استخدموا 35 ذرة من عنصر الزينون في كتابة اسم الشركة ـ ذي الحروف الثلاثة ـ على واجهة مقر فرعها بالعاصمة السويسرية!
إمكانات هائلة لإنتاج آلات منمنمة
يتنبأ العلماء بمستقبل واعد لهذه التقنية، التي باتت الدول الصناعية في أوروبا واليابان والولايات المتحدة تضخ إليها ملايين الدولارات من أجل تطويرها. والولايات المتحدة وحدها التزمت هذا العام بتخصيص أكثر من 497 مليون دولار للتقنية النانوية واستخداماتها، كما أن شركات الكمبيوتر الكبرى المهتمة بالبحث العلمي، مثل “هيوليد باكارد” و”آي بي إم” و”ثري إم” تقوم بتخصيص ما يصل إلى ثلث المبالغ المخصصة للبحوث العلمية على التقنية النانوية.
وقد ظهرت عدة تقارير علمية دفعة واحدة، واحتلت أبحاث النانوتكنولوجي بابا كاملا في مجلة العلم الأمريكية “ساينس” في تشرين الثاني/نوفمبرِ (2000م)، ثم تلاها عدة تقارير في مطبوعات علمية أخرى كمجلة الطبيعة “نيتشر”. كما نجح العلماء في الآونة الأخيرة في التوصل لأولى المنتجات التطبيقية المعتمدة على التقنية النانوية، ولقد بات في الإمكان وصولها للأسواق في غضون السنوات القليلة القادمة، وسوف نعرض لبعض من هذه المستجدات في هذا المقال.
“إبر ذرية” لدراسة البنية الداخلية للمادة
رقيقة كمبيوتر نانوية
قامت مجموعة من الخبراء تحت إشراف “ن. روزنوف” الخبير الروسي في مجال الضوء الكمي وفيزياء الليزر والأستاذ في معهد أبحاث الليزر بمدينة بطرسبورج، بالتوصل إلى اكتشاف جديد أطلق عليه تسمية “الإبر الذرية”.
والإبر الذرية هي نوع جديد من الأشعة أو الحزمة الضوئية ذات مواصفات خاصة، إذ تحتوي على عناصر “نانو-إلكترونية” أي على الجسيمات المادية تحت الذرية التي لا تتعدى قياسات أبعادها عن نانومتر. وبذلك يمكن استخدام هذه الأشعة أو الحزمة الضوئية في حل جملة من المسائل العلمية والعملية بما فيها تشكيل صور المواقع الدقيقة جدا والتي تقل أبعادها عن طول الموجة الضوئية المستخدمة وإمكانية تسجيل المعلومات المسهبة عن هذه المواقع. كما توصل الفريق البحثي عمليا إلى تمرير حزمة الأشعة في قناة يقل عرضها عن طول موجة الضوء لغرض الحصول على التركيز اللازم لطاقة أشعة الليزر.
عدسات مجهرية
أنتجت مختبرات “بيل” آلات مشابهة للعدسات الدقيقة تحتوي على أجهزة مرنة بحجم الخلية الدموية الحمراء. ويمكن أن تثنى الأجهزة المرنة هذه إلى أحجام تشبه العدسات. وكل واحدة يمكن أن تغيّر وتحوّل طول موجة للضوء. وتم شحن هذه التكنولوجيا داخل مفتاح “لوسنت” المرئي لأول مرة في الصيف الماضي.
رقاقة أصغر من الشعرة
ابتكرت شركة ” آي.بي.إم” الأمريكية أول رقاقة إلكترونية يمكن أن تساهم في زيادة قوة أجهزة الكومبيوتر، وتصغيرها مع خفض كمية الطاقة التي تستهلكها. وتتكون الرقاقة من جزيئات أسطوانية من ذرات الكربون يصل قطرها إلى جزء من مليار من رابط الكربون (أصغر من الشعرة بمائة ألف مرة )، وأكدت الشركة في بيان أصدرته أنها ستسعى لابتكار استخدامات معلوماتية أكثر تعقيدا لهذه التكنولوجيا.
وقال “فيدون أفوريس” مدير قسم التكنولوجيا النانوية في شركة” آي.بي.إم”: “هذه الرقاقة الجديدة هي البديل الأول المحتمل لرقاقات السيليسيوم المعتمدة حاليا، حين يصبح من المستحيل التوصل إلى رقاقات أصغر حجما، وهو حاجز مادي يتوقع الاصطدام به بعد 10 أو 15 عاما.” وأضاف أن “التكنولوجيا النانوية التي تتخطى السيليسيوم قد تقود إلى تطور يفوق التصور في مجال خفض حجم أجهزة الكومبيوتر ورفع طاقتها.”
البلاستيك المهجن!
وبينما لن تكون هذه التكنولوجيا جاهزة لصنع أية آلات أو معالجات كومبيوتر لعشر سنوات على الأقل فالباحثون في علم المواد يستخدمونها لتغيير خواص البلاستيك والزيوت والأنسجة لتصبح مقاومة للحرارة وزيادة قوتها ومرونتها. وتقوم حاليا شركة “هايبرد بلاستيكس”، أو البلاستيك المهجن، بإضافة مواد مصنعة عن طريق التقنية النانوية لمواد تمتد من مزيتات المحركات النفاثة وحتى ألواح الدوائر الكهربائية في القوارب وأحواض السباحة. وتعتبر هذه الجسيمات الدقيقة التي تبيعها الشركة صغيرة جدا لدرجة أن قطر أكبر جسيم يقدر بحوالي 3 نانومتر،(أي واحد من مليار من المتر). وتُكسب هذه الجسيمات البلاستيك خواص فريدة كالقدرة على مقاومة الحرارة واللهب والبرد، فضلا عن زيادة صلابته.
ومن شركات الكيماويات الأخرى التي تدرس مجال التقنية النانوية شركة “دوبونت” التي يحاول علماؤها صناعة ألياف توصل الكهرباء ويمكنها تغيير شكلها من المستدير إلى المثلث والمربع. وتهدف “دوبونت” لاستخدام هذه الألياف في الثياب التي تغير لونها وحجمها وفقا لطلب المرتدي. كما تقوم شركة “نانوفيز تكنولوجيز” ببيع جسيمات دقيقة مثل أكسيد الزنك مصنعة عن طريق استخدام التقنية النانوية لصانعي شتى المنتجات من التغليف الصناعي إلى مستحضرات التجميل.
وتختبر “ناسا” أنواعا جديدة من البلاستيك الذي يحتوي على هذه الجسيمات على هيكل محطة الفضاء الدولية، وتختبره أيضا القوات العسكرية وشركات الطيران لاستخدامه كبديل للهياكل المعدنية على الطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية. ويعتبر صنع هياكل الصواريخ من البلاستيك المحتوي على هذه الجسيمات أرخص وأسهل من الهياكل المعدنية التي يمكنها حماية الحمل سواء كان ذخيرة أو قمرا صناعيا من الاصطدام مع النفايات التي تطوف بالفضاء وتتحمل برد الفضاء القاسي وحرارة الاحتكاك عند العودة للأرض.
وتصنع نفس الشركة الآنفة الذكر زيتاً لسلاح الجو الأمريكي يمكنه تحمل حرارة تصل إلى 500 درجة فهرنهايت، أي حوالي 100 درجة أعلى من الزيوت الحالية من دون الاحتراق أو الانحلال. و تقوم شركة “ترايتون” بتطوير تغليف بلاستيكي مقاوم للخدش لخوذات الطيارين في البحرية الأمريكية. وقد يُستخدم هذا التغليف بعدسات النظارات العادية قريبا.
أزياء ذكية نانوية!
يقوم الجيش الأمريكي حاليا بتطوير جيل جديد من الزي القتالي باستخدام ألياف دقيقة معدلة، بحيث تعمل كالمرشح، تسمح بدخول الهواء وتمنع دخول الغازات السامة والجراثيم الناتجة عن الأسلحة الكيماوية والحيوية، ويعتبر هذا الزي الواقي الذي يتوقع دخوله مجال الخدمة خلال سنتين من أول استخدامات التكنولوجيا النانوية في مجال الأزياء وتصنيع الملابس.
ويأمل الجيش الأمريكي أنه خلال عشر سنوات سينتج زيا “ذكيا” يحتوي على أنسجة معدلة ومجسات مزروعة وكومبيوترات صغيرة تمكن الزي من ردع الرصاص، ومراقبة الجسم. كما سيكون بإمكان هذا الزي تغيير لونه الخارجي إلى أشكال متنوعة بهدف التمويه والتخفي.
ويظهر في كلا المجالين المدني والعسكري عدد من المنتجات الدقيقة الجديدة، وتتضمن هذه المنتجات عدسات النظارات المقاومة للخدش وأحذية الرياضة المحتوية على غاز الهليوم، لتساعد على خفة الحركة.
ولمقاومة البقع والروائح تقوم شركة “نانوتكس” الأمريكية بمعالجة الألبسة كيميائيا وتغليفها بغلاف خارجي يلتصق بجزيئات القطن. كما أضافت الشركة خواص أخرى كمقاومة القاذورات والتجاعيد في الأقمشة التي تُستخدم لصنع الكراسي، وإمكانية تمرير الهواء في الأقمشة الصناعية، وبالتالي أصبحت مريحة مثل الملابس القطنية. وتختبر الشركة الآن قماشا يحبس الروائح داخل جزيئاته، ويتم التخلص منها بسهولة عن طريق الغسيل.
وما زالت تتسرب إلينا، من وقت لآخر، معلومات عن مشروعات طموحة تجري في بعض مراكز البحوث بالعالم، منها فكرة لبناء محركات في حجم الخلية البكتيرية، تدير آلات مجهرية أو “فوق مجهرية”، قادرة على التقاط جزيئات من المواد في البيئة المحيطة بها، ومعالجتها، تخلصاً من جوانب غير مرغوب فيها، أو تعظيماً للفائدة في جوانب أخرى، ومن المتوقع أن تزيد الاستثمارات في هذا الحقل العلمي الفريد الذي سيحدث ثورة صناعية جديدة في المستقبل القريب.
طارق قابيل