في خريف عام 1999م ولمدة أسبوعين متصلين حام حول القاهرة الكبرى شبح أسود يأتي بعد كل غروب شمس ويظل كالكابوس جاثمًا على الصدور والأنفاس حتى مطلع الشمس.. أسموه إعلاميًّا ظاهرة السحب السوداء.. وعلميًّا هذه الظاهرة تسمي “ضبدخان” “Smog” وهي اختصار لكلمتي “Smoke” بمعنى دخان و “Fog” بمعني ضباب.. أي أن الهواء صار خليطًا من الضباب والدخان..

ظاهرة السحب السوداء هذه قاتلة.. قتلت العديد في الدول الصناعية.. وبالذات في مناطق الصناعات الثقيلة عندما تكون في أودية بين الجبال وجو بارد مستقر، ويستطيع أي إنسان من فوق هضبة المقطم أن يرى أثناء الغروب غلالة سوداء صاعدة لأعلى فوق القاهرة.. وهي ناتجة من التلوث الهوائي العالي لجو القاهرة من عوادم السيارات والأنشطة الصناعية، ولولا رحمة الله تعالى ووقوع القاهرة ضمن حزام الشمس الذي يتمتع بأعلى سطوع في العالم لكانت الكارثة وموت الكثير بالاختناق من هذه السموم بالهواء.. حيث تؤدي أشعة الشمس إلى تسخين الهواء بالقرب من سطح الأرض، وتصاعده لأعلى حاملاً معه الملوثات الجوية.. ثم تأتي الرياح لتقذف به بعيداً عن القاهرة باعتبار أنها منطقة مفتوحة إلى حدٍّ ما.

المشكلة في ما يتعلق بظاهرة السحب السوداء أنها تأتي عند وجود حالة استقرار في الجو، مما يؤدي إلى ما يسمى بالانقلاب الحراري، وهو أنه بدلاً من أن تتصاعد الملوثات إلى أعلى في الجو أثناء المساء نجدها تهبط إلى أسفل مع عدم وجود رياح تذكر، هنا تصبح الظاهرة خطيرة وقد تكون قاتلة.

إن كانت الظاهرة في خريف عام 1999م قد مضت دون أن تحدث حالات وفاة، مع أن الكثيرين قد عانوا من ضيق في التنفس واحتقان في العيون وتسببت في تهيج الشُّعب الهوائية للذين يعانون من حساسية بالصدر – فإنه ولا بد وأن ننظر لها بعين الاعتبار، وأن نتحاشى تكرارها والقضاء على أسبابها.

قيل: إن سبب ظاهرة السحب السوداء توافق حالة استقرار في الجو (انقلاب حراري) مع حرق كميات كبيرة من مخلفات الحقول (حطب القطن وقش الأرز) للقضاء على دورة حياة الحشرات الضارة بهذه الزراعات، حيث كانت تتم عمليات الحرق في محافظات الدلتا أثناء النهار وتصل لمنطقة القاهرة الكبرى مع غروب الشمس، ولا سيما أنه في عام 1999م امتدت زراعة الأرز حتى جنوب المحافظات التي بشمال القاهرة (القليوبية والمنوفية).

والواقع أن عملية الحرق هذه غير منطقية من الناحية الاقتصادية والبيئية، فمصر تعتبر من أفقر الدول فيما يسمى بطاقة “الكتلة الحية” Bio-Mass وهي عبارة عن الأشجار والغابات والمخلفات النباتية؛ وذلك لأن المساحة المزروعة من مصر لا تمثل إلا 4% من قيمة المساحة الكلية لمصر، وبالتالي فإن إحراق هذه المخلفات الزراعية يعتبر إهدارًا لطاقة جديدة متجددة وهي طاقة “الكتلة الحية”، حيث تقوم أغنى الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية بتقطيرها بطريقة الحرق الإتلافي بمعزل عن الأكسيجين وتحويلها لزيوت خفيفة وثقيلة يمكن استعمالها لكافة الأغراض، وهذا ما يحدث لمصدر كبير عندهم وهو مخلفات القمح (التبن).

وكذلك تقوم الهند وهي من الدول الفقيرة بتحويل هذه المخلفات مع مخلفات الحيوانات إلى ما يسمى بالغاز الحيوي “Bio-Gas” والذي يستعمل بكثرة في القري الهندية الآن لعمليات الطهي والأغراض المنزلية بدلاً من البوتاجاز والغاز الطبيعي.. أما ما يتبقى من عمليات تحلل هذه المخلفات بعد استخلاص الغاز الحيوي منها فإنه يصبح أفضل سماد عضوي للأرض.

والحقيقة أن القاهرة الكبرى من أكثر المدن في العالم من ناحية الملوثات الجوية.. حتى بدون حريق حطب القطن وقش الأرز.. وأسباب التلوث الجوي للقاهرة عديدة يأتي في مقدمتها وجود أكثر من مليون وربع سيارة داخل القاهرة الكبرى وهي تزيد على ثلاثة أمثال القدرة الاستيعابية للحركة المرورية لشوارع القاهرة وكباريها العلوية. كما أن هناك عددًا كبيرًا من هذه السيارات (40%) تعمل محركاتها بغير كفاءة لحرق البنزين أو الجاز بطريقة كاملة؛ مما يتسبب في مضاعفة الملوثات الجوية في العوادم الخارجة منها.

ويتسبب هذا في زيادة الملوثات الجوية كأول وثاني أكسيد الكربون وأكاسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين والكربوهيدرات وأكاسيد الرصاص والأوزون السطحي بجانب كمية الدخان (الهباب) وهذه الملوثات أضعاف الكميات المسموح به عالميًّا، وقد تصل في بعض الأحيان إلى عشرة أمثال المسموح به عالميًّا أو يزيد.

كما أن وجود المناطق الصناعية في شمال وجنوب القاهرة حيث يوجد في الشمال منطقة “شبرا الخيمة”، وفي الجنوب صناعة الأسمنت في “حلوان” و”طرة” يعتبر من مصادر التلوث العالي بالقاهرة، حيث تحمل الرياح ومعظمها شمالية غربية ملوثات شبرا الخيمة وتقذف بها إلى داخل القاهرة، بينما الملوثات الجوية في طرة وحلوان والتبين من غبار الأسمنت تزيد عن المسموح به عالميًّا عشرات المرات، وفي منتصف التسعينيات وصل إلى اثنين وثلاثين مرة من المسوح به عالميًّا.

ويعتبر مطار القاهرة الدولي من مصادر تلوث جو القاهرة نتيجة لعادم الطائرات أثناء عمليات الإقلاع والهبوط ولقربه الآن من المنطقة السكنية، بجانب الضوضاء والتلوث السمعي نتيجة ضجيج الطائرات، كما أن حرق القمامة والكويتش المستهلك لإطارات السيارات في الفواخير حول القاهرة يعتبر من مصادر التلوث أيضًا.

وتؤثر الملوثات الجوية على الإشعاع الشمسي بمركباته المختلفة (كلي ومباشر ومشتت)، وفي المناطق الطيفية المختلفة (فوق البنفسجي، المرئي، تحت الحمراء)، حيث تتسبب هذه الملوثات في عملية امتصاص لأشعة الشمس وتشتيت لها؛ لذلك فإن هذه الملوثات تؤدي في النهاية إلى تقليل الإشعاع المباشر والكلي وزيادة الأشعة المشتتة، وفي هذه الزيادة والنقصان يمكن حساب معاملات فيزيائية لقياس مقدار العكارة الجوية كمعامل إنجستروم ومعامل لنك، وكلا المعاملين (إنجستروم ولنك) المحسوبين للقاهرة الكبرى من أرصاد الإشعاع الشمسي تشير إلى أن القاهرة الكبرى من كبريات المدن الملوثة جويًّا، ويتفق القياس الفيزيائي مع القياس الكيميائي لتلك الملوثات.. مما يجعل هواء القاهرة مشبعًا بالملوثات الجوية الضارة بصحة الإنسان والحيوان والنبات، وفي قياس لكمية الإشعاع الكلي للشمس المقاس أعلى مبنى الهيئة العامة لأرصاد الجوية بكوبري القبة بالعباسية، وفي منطقة “بهتيم” الزراعية خلال العشرين عامًا الأخيرة نجد هناك نقصانًا مستمرًّا للمتوسط العام للإشعاع من عام لآخر في القاهرة و”بهتيم”. وفي القاهرة نتيجة لزيادة السيارات وبالتالي العادم وما فيه ملوثات جوية، وفي بهتيم نتيجة لزيادة النشاط الإنساني والحركة السكانية حيث تحولت المنطقة إلى منطقة سكنية بدلاً منها زراعية.

أما مقارنة الإشعاع الشمسي في حلوان بنظيره في العشرينيات في القرن العشرين والذي تم قياسه في مرصد حلوان يوم أن كان سكان حلوان لا يزيدون عن خمسة آلاف نسمة وكانت تعتبر منتجعًا للخاصة ومشتى للباحثين عن الدفء من الشمس فهذا مما لا يكون، فالآن أصبح الفارق رهيبًا قد يصل إلى (40%) انخفاض في الإشعاع المباشر والكلي في بعض الفصول وفي بعض المناطق الطيفية، مما يشير إلى ارتفاع الملوثات في حلوان بصورة خطيرة.

ونتيجة لهذه الملوثات الجوية فمن المحتمل عودة شبح السحابة السوداء عند وجود حالة استقرار جوي لفترة طويلة وحدوث انقلاب حراري يؤدي إلى استقرار الملوثات الجوية بالقرب من سطح الأرض وعدم صعودها لأعلى وتشتتها.

 ولتلافي حدوث مثل هذه الظاهرة الخطيرة التي قد تكون قاتلة نوصي بالآتي:

1-عدم حرق المخلفات الزراعية (حطب القطن وقش الأرز) والاستفادة منها كمصادر للغاز الحيوي وكأسمدة عضوية، مع ضمان قتل أطوار الحشرات الضارة بزراعة القطن والأرز وذلك بوضعها داخل أجولة بلاستيكية سوداء تمتص أشعة الشمس وتقتل الحشرات بعد ارتفاع درجة الحرارة على ما يزيد عن ستين درجة مئوية داخل الأجولة عند الظهيرة (بسترة الأسمدة بالطاقة الشمسية).

2-إحكام الرقابة على أداء محركات السيارات أو مراقبة حركتها في الشوارع والعادم الخارج منها.

3-تطبيق نظام نزول السيارات الملاكي لمنطقة وسط البلد بطريقة تبادلية (يوم لأرقام السيارات الفردية ويوم لأرقام السيارات الزوجية) ومسموح بالنزول يوم الجمعة للجميع مثلاً.

4-نقل مطار القاهرة الدولي على مسافة أبعد على المدى البعيد.

5-نقل مصانع الأسمنت بطرة وحلوان خارج نطاق القاهرة الكبرى على المدى البعيد والالتزام باستخدام المرشحات الكهروستاتيكية لحين إتمام النقل لتقليل الانبعاث من غبار الأسمنت.

6-استخدام الغاز الطبيعي في سيارات هيئة النقل العام والحكومة وتشجيع أصحاب السيارات الخاصة على استخدام الغاز الطبيعي لتقليل انبعاث الغازات الضارة لأقل درجة ممكنة.

7-نقل الفواخير والصناعات المصحوبة بانبعاث عالٍ للملوثات الجوية خارج نطاق القاهرة الكبرى.

8-تحويل القمامة إلى مصدر من مصادر الطاقة الحيوية “Bio-Mass Energy” وعدم حرقها داخل أو خارج القاهرة.

9-زيادة الرقع الخضراء بالقاهرة الكبرى وزيادة التشجير حول القاهرة سواء في المناطق الصحراوية أم فوق هضبة المقطم؛ لتقليل الأتربة العالقة فوق القاهرة الكبرى.

10-التشجيع على استعمال مترو الأنفاق والمترو السطحي والباصات التي تعمل بالكهرباء.

ونود هنا أن نذكر أن النقصان المستمر في كمية الإشعاع الشمسي فوق القاهرة الكبرى يقابله زيادة مستمرة في درجة حرارة جو القاهرة ولو بمقدار ضئيل، إلا أنه يعكس التلوث الحراري الناتج من استخدام السيارات ووجود اختناقات مرورية في بعض المناطق داخل القاهرة.

كما لوحظ أن كمية الأشعة فوق البنفسجية فوق القاهرة الكبرى أقل من معدلها الطبيعي نتيجة لزيادة نسبة الأوزون السطحي الناتج من عادم السيارات، وهذا يؤدي إلى ليونة في العظام عند الأطفال لعدم تكون فيتامين “د”، كما يؤدي إلى ظهور الفطريات على جلد الإنسان والحيوان وإعاقة عملية التمثيل الضوئي في النباتات أثناء النهار وتقليل نسبة الأكسجين الصادر منها.


مسلم شلتوت