حفظ القرآن الكريم مشروع جدير بأن تُبذل في سبيله الأوقات وتنفق من أجله الأموالK ولئن كان حفظ كتاب الله في الصدور حلما بعيدا عند قوم، ومشروعا مستحيلا عند آخرين، وقمة شاهقة لا يصل إليها إلا العظماء، فلقد أثبتت نخبة من أبناء هذه الأمة أن الهمة العالية والإرادة القوية صخرة تتحطم عليها كل سهام الإرجاف والتخذيل.

ففي نفس الوقت الذي لبث فيه قوم يحفظون القرآن الكريم في سنين استطاع آخرون حفظه في أيام معدودة.. سلكوا طريقا أشبه بالخيال حتى أصبحت سلوى وحافزا للسير في دربهم والمنافسة معهم في درب العز والشرف والكرامة، دنيا وأخرى.

فقد سلكت دور وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة في السعودية طرقا مبدعة في ابتكار أساليب ووسائل ناجعة لترغيب الناس في حفظ كتاب الله والعمل به.. منها مشروع الدورات المكثفة لحفظ كتاب الله عز وجل والتي بدأت كتجربة في صيف 1421هـ في جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالطائف، وتلتها دورات في بيت الله الحرام. يشارك فيها عدد من مختلف دول العالم الإسلامي.

تجربة فريدة ونتائج خيالية

في جدة، يقول محمد فلاتة، مدير قسم شئون الطلاب بجمعية تحفيظ القرآن الكريم: “أقامت الجمعية عددا من الدورات المكثفة، ومن بينها الدورة المكثفة بجامع الشربتلي، وتُعَد هذه الدورات من أميز الدورات التي أقامتها الجمعية من حيث أعداد الطلاب المتقدمين للدورة ونتائج اختبارات الطلاب النهائية”، موجها شكره للقائمين عليها واللجان المنظمة لما شهدته الدورة من “حسن الإعداد والتنظيم والدقة في الإشراف والمتابعة”.

أما عبد الله حمود الغامدي، مشرف الدورة المكثفة بجامع الشربتلي بجدة، فأكد أن “نتائج هذه التجربة كانت فريدة من نوعها، جبارة في نتائجها، وكانت النتائج أشبه بالخيال، حيث أتم جميع المشاركين في دورة صيف هذا العام حفظ القرآن الكريم”.

وفي الرياض ذكر الشيخ عبد السلام بن عبد العزيز مسئول حلقات تحفيظ القرآن الكريم بحي الرحمانية، أنه تم طرح مشروع “حفظ القرآن الكريم خلال شهرين” في الإجازة الصيفية، وقال: “شارك في الدورة 250 طالبا، أصغرهم شبل يبلغ الخامسة من عمره، وأكبرهم يبلغ الـ49 عاما، وكانوا يجتمعون في عدد من المساجد حسب مراحلهم العمرية، يبدءون من 4:30 صباحا، وحتى الساعة 10:00 صباحا، وتخرج منهم 45 حافظا”.

المشاركون لا يصدقون!

لقد أتم شاب من دولة الإمارات العربية المتحدة، يبلغ من العمر 16 عاما، حفظ القرآن الكريم كاملا في 27 يوما. ويحكي غانم علي تجربته قائلا: “بدأت الحفظ مع الوالدين في المنزل، ومن ثَم قمت بالذهاب إلى إمام المسجد المجاور، وبعد ذلك أخذت أحفظ وأسمع على أشخاص آخرين، ولكن لم أحفظ سوى الأجزاء الأولى من القرآن، وأخيرا كانت مشاركتي في الدورة المكثفة الذي تمكنت من خلالها إتمام حفظ القرآن”.

ويقول محمد يحيى ناصر، أحد الطلاب المشاركين: “إن أهم ما يميز هذه الدورة: الراحة والمساعدة على الحفظ والمراجعة، وكذلك الروحانية التي كانت سمتا بارزا”. ومن جانبه قال ماجد الزوفي: “لم أكن أتوقع أن أحفظ القرآن في 60 يوما، وكثير منا لم يصدق، وقالوا: لم يكن ذلك في السلف فكيف بشباب اليوم، ولكن لله الحمد والمنة”.

أما المشارك أحمد محمد باعيسى، فأوضح أن الدورة علمته الكثير، مثل مواجهة المواقف وبذل الجهد والمال والوقت لتحقيق الهدف. فيما دعا أحمد حسن الشاعر الشباب للمشاركة في مثل هذه الدورات حتى يحققوا مناهم في حفظ كتاب الله.

التجربة تنتقل إلى قطر

وقد تم نقل التجربة إلى دولة قطر، حيث أقيمت الدورة المكثفة الأولى لحفظ القرآن الكريم والتي أقيمت لأول مرة في الصيف الماضي. وقام وزير الأوقاف والشئون الإسلامية محمد بن عبد اللطيف المانع بجولة تفقدية للاطلاع على سير عملية التحفيظ في الدورة. وأعرب عن أمله في استمرار انعقاد الدورة في الأعوام المقبلة، وزيادة عدد المشاركين فيها؛ لإتاحة الفرصة للراغبين في حفظ القرآن من المواطنين والمقيمين.

وتجول الوزير في مقر الدورة بمدرسة الأندلس الثانوية، وراقب حلقات الحفظ في المسجد، حيث يتحلق كل 5 طلاب حول أحد المحفظين لمراجعة وحفظ نصف جزء من القرآن الكريم يوميا؛ ليكملوا حفظ القرآن كاملا خلال 60 يوما. وشاهد الوزير أماكن إعاشة الطلاب المشاركين في الدورة، والخدمات التي يتم توفيرها لهم من مأكل ومشرب وأماكن للترفيه وممارسة الأنشطة الرياضية.

البعض يراها عبثا!!

واجهت هذه التجربة انتقادات من بعض العلماء والدعاة، كان أبرزها انتقاد فضيلة الشيخ إبراهيم الأخضر القيم، شيخ قراء المدينة المنورة، وإمام المسجد النبوي الشريف سابقا. ففي حديثه مع “إسلام أون لاين.نت” قال: “إن هذه الدورات المكثفة عبث، والقرآن يأبى هذه التصرفات. فهذه الدورات يقوم عليها من لا يحظى بأي نوع من التجارب في خدمة القرآن الكريم.. فالقرآن لا يقبل بهذه القيود التي تفرض، القرآن نور من الله، يريد برامج مفتوحة، كل حسب ما قدر الله له وحسب ما يستطيع.. كثير من الأذكياء عندهم قدرة كبيرة على الحفظ، ومع ذلك لم يستطيعوا حفظ كتاب الله، وكثير ممن نقول عنهم شبه أغبياء تمكنوا من حفظ كتاب الله”.

وأضاف الشيخ إبراهيم الأخضر: “إن وضع القرآن في قالب معين لحفظه خلال ثلاثة أشهر أو أقل هو عبث وتضييع للوقت، وهو عبارة عن إعلانات للدعاية لا أكثر ولا أقل. إن إقامة دورات لحفظ القرآن الكريم وتعليمه شيء مطلوب، ولكني أرفضها بهذا الشكل المكثف؛ لأنها بذلك تكون عبثا وليس لها أي نصيب من الإحسان للقرآن الكريم”.

المجتهد مأجور ولو أخطأ

حسن بن عبيد باحبيشي، أمين جمعية القرآن الكريم بمنطقة مكة المكرمة، رد على هذا الانتقاد قائلا: “هذه الدورات ما زالت في بداياتها، ومن الطبيعي أن أي عمل في بداياته لا يكون متكاملا، ومع مرور الزمن سيتم بإذن الله تعالى تطوير هذه الدورات وتنظيمها، وتطوير إيجابياتها وتلافي سلبياتها، فالكمال لله وحده سبحانه، والمجتهد مأجور ولو أخطأ والحمد لله؛ لذلك أدعو المسئولين والمهتمين بالأنشطة القرآنية لكي يجتمعوا ويتدارسوا ما يخص الدورات المكثفة ووضع أنظمة ولوائح خاصة بها”.

وأضاف باحبيشي: “إذا كان الحوار الآن مطلوبا من الجميع وفي كل الاتجاهات، فهو فيما يتعلق بالقرآن وأهله أولى، وإذا كان اجتماع الكلمة هدفا عاما فهو في المجال القرآني من أمس الاحتياجات. وإن كانت محاربة الإرهاب واجبة فلن نجد أسلحة أمضى وأفضل من العودة الصادقة إلى كتاب الله الكريم. حري بالذات بمن ينتسبون إلى القرآن الكريم خاصة إذا كانوا على مستوى عالٍ من الخبرة والتخصص والوجاهة أن يكونوا قدوة في كل شيء، وبالذات في النصح والحوار بالحكمة، متبعين في ذلك قدوتهم وأسوتهم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث وسعت رحمته ورفقه ونصحه ليس المؤمنين فقط وإنما أيضا المنافقين والمشركين واليهود”.

النقاد يجهلون حقيقتها

من جانبه أكد الشيخ فريد بن سالم المنتاخ، المشرف العام على الدورة القرآنية المكثفة التي أقيمت بالمسجد الحرام، أن الذين ينتقدون مشروع الدورة القرآنية المكثفة للموهوبين يجهلون حقائق الأمور، وهم يسعون لإفشال المشروع وليس لهم سابق تجربة فيه، مشيرا إلى أن إقامة هذه الدورات بشكل متوالٍ يؤكد نجاحها.

وقال المنتاخ: “إن هذه الدورات فكرتها قديمة، وهي متجددة ولله الحمد، ومن ليس له تجارب ربما يصف هذا المشروع بالفشل أو لا فائدة من خلاله، ويظن أن كثرة المحفوظ تنسي بعضها البعض، وأنا أقول: نحن في مشروعنا هذا لا نطلب أن يكون الطالب متقنا أو ضابطا خلال شهرين، لكن كانت هناك أعجوبة نسمعها عن السلف أن هناك من حفظ القرآن الكريم في ستة أشهر، فلما هيئت الأجواء وأصبح البرنامج ولله الحمد قائما من خلال تجارب مع الطلاب، أصبح الأمر فيه سهولة”.

وأضاف المنتاخ: “أثبت الواقع أنه يمكن للطالب حفظ القرآن كاملا في شهرين، إذا رُتب له برنامج متميز، وكانت هناك إدارة تتابع هذا البرنامج، مع تفريغ الطالب من بعض أشغاله، وتهيئة الأجواء الإيمانية. بل إنه عندنا بعض الطلاب حفظوا القرآن في 35 يوما و40 يوما، والمجرب غير من لم يجرب. فأنا أعجب من كثير من الإخوة الذين يصف هذا المشروع بأنه فاشل”.

ووجه المنتاخ دعوة لمنتقدي هذه الدورات للوقوف عليها قائلا: “إنني أدعو إخواني المنتقدين للمشروع بدلا من هذا التخبيط ووضع العراقيل التي يستفيد منها الأعداء، أدعوهم أن يحفزوا، ويجعلوا لهذا البرنامج أهمية، في أماكنهم، ونحن استفدنا من تجارب بعض الدورات المشابهة، ووجدناها ولله الحمد ناجحة، وكانت التجربة خير برهان”.

الحكومة تتبناها

من جهته أشاد معالي الشيخ صالح آل الشيخ وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بهذه الدورات، واعتبرها من أبواب الخير، قائلا: “إن فتح الحلقات وإقامة الدورات بأنواعها لحفظ القرآن والسعي لذلك من أعظم أعمال العبادة”، موصيا المشاركين بالعناية بما حفظوه من كتاب الله، لما في ذلك من الخير الكثير.

وأكد معاليه أن “الدورة رغم انعقادها في فترة قصيرة جدا إلا أنها أثمرت عن نتائج فعالة وإيجابية ولله الحمد”، مشيرا إلى أن “الوزارة بتوجيه من حكومتنا الرشيدة تسعى لدعم كل عمل خير، سواء أكان في مجالات حفظ القرآن الكريم، أو في مجالات الدعوة إلى الله تعالى، أو في أي مجال فيه نفع للناس”.

أما سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، فأشار إلى أن هذه الدورات المكثفة هي نعمة عظيمة وفضل من الله، وقال سماحته: “إن في شبابنا أناسا نابغين، لديهم القدرة بتوفيق الله على التفوق متى ما استغلت مواهبهم وشحذت هممهم ووجدوا من يأخذ بأيديهم إلى ما فيه الخير ويرسم لهم الطريق المستقيم، فهم ذوو فهم وحفظ وقدرة واستيعاب، فهذه الأمة المحمدية لا يزال الخير فيها باقيا.

وقال مفتي عام المملكة: “إن شبابنا لديهم القدرة والمواهب والنشاط والحفظ والإدراك، وسنرى إن شاء الله في المستقبل القريب وفي الدورات المكثفة القادمة ما يثلج الصدر ويقوي العزيمة ويشد الأزر ويجعلنا نربي هذا الشباب التربية الصالحة؛ لنربطه بكتاب ربه تلاوة تكون سببا للعمل به والثبات على الحق”.

وأوصى سماحته الشباب الذين شرفهم الله بالقرآن الكريم بأن يتخذوه منهجا لحياتهم؛ ليستقيموا على الخير، وأن يحافظوا على الفرائض، ويبتعدوا عن الرذائل، وأن يكونوا بارين بالأبوين، حريصين على صلة الأرحام، وإكرام الجار، واحترام الناس عموما.

وأضاف: “إن هذه الدورات المكثفة وأمثالها ستحمل بشائر الخير إلينا، وتجعلنا نتطلع إلى فجر جديد وإلى مستقبل زاهر في شباب أمتنا، ليحفظوا القرآن ثم ليحفظوا من سنة رسول الله ما يعينهم على فهم القرآن، ثم ليحفظوا من تراث سلفهم الصالح في باب المعتقد وفي باب الفقه.

وأكد مفتي المملكة على “أهمية أن تكون هذه الدورات متواصلة، والأخذ من هذه النواة الصالحة إن شاء الله منهجا للمستقبل؛ لأن الطريق واضح والقدرات موجودة والمواهب متوفرة، تحتاج إلى من يرعاها ويشرف عليها”.

وأبدى سماحته رغبته في أن “تشمل هذه الدورات المكثفة السنة والمواد العلمية واللغة العربية، لكي يكون عند الشباب علوم متنوعة ومدارك متعددة، يفخر بها الجميع بتوفيق من الله”.