أشكرك أولاً على سؤالك الحساس هذا، والذي ينكأ بثورًا نمت وترعرعت خطأ في محيط “الملتزمين”، وأخذت شكل الإسلام لا مضمونه، وعنيت بمظهر الدين لا مبطنه، وتركت الفهم لتنتقل إلى حركاتٍ بلا وعيٍ أو إدراك.
إن عالم “الملتزمين” قد حفل بالعديد من المفاهيم المغلوطة التي انتقلت وتوارثت بين أجيال الملتزمين حتى غدت قواعد وأسسًا لا محيص عنها، وما هي -في الحقيقة- من الإسلام في شيء.
ومن هذه المفاهيم المغلوطة المرتبطة بما تفضلت به أختي الكريمة مفهومان هما: “اعملوا ما شئتم”- “من ترضون دينه وخلقه”.ولنتحدث في كل مفهومٍ على حدة:
1- مفهوم: “اعملوا ما شئتم”:
أعني بهذا المفهوم حديث النبي ﷺ عن أهل بدرٍ حين قال: (وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) متفق عليه.
لقد غلب على جمهور الملتزمين هذا المفهوم بصورةٍ طاغيةٍ وعامة، ولم ينجُ منه إلا من رحم ربي سبحانه، وقد انتشر هذا المفهوم بينهم ومارسه بعضهم بقصدٍ ومعظمهم بدون قصد، وبدرجاتٍ متفاوتة، لكن أغلبهم قد اتفق على ممارسته أيًّا كانت الأسباب والمبررات.
إنك تجد المرء إذا التزم تحول من مجرد فردٍ في الأسرة مثلاً إلى محاولة أن يكون ربَّ الأسرة بدافعِ استعلاء الإيمان، وبحافز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبمنطق الدعوة إلى الله تعالى، وكذلك حاله في محيط عمله أو مجتمعه، فيغدو هو الشخص الوحيد الذي لا ينبغي أن يُسأَل عما يفعل، لأنه الملتزم! ولأنه من خير أمة أُخرِجت للناس!! ولأنه من أمة الشهادة التي جعلها الله تعالى شاهدةً على الناس!!!وحتى لا يُفهَم كلامي خطأ، أنا لست ضد من يدعو إلى الله تعالى، ومن يحاول أن يصلح أهل بيته، وأومن كذلك بوجوب تميز المسلم حين يحس بالتزامه بما أمر الله تعالى به.
كل ما أعنيه هنا هو الممارسة الخاطئة المنبثقة من مفهومٍ خاطئ، إن استعلاء الإيمان هذا لا يكون أساسًا إلا مع غير المسلمين، ولا يعني بحالٍ أن نفرض وصايةً أو ولايةً على الناس بداعي الاستعلاء، ولم يقل أحدٌ بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون بهذه القسوة مع أقرب الأقربين، ولم تكن الدعوة يومًا بالعنف والممارسة القاهرة، إن هذه المفاهيم لها أسسٌ وقواعد ليست في شيءٍ مما يفعله معظم الملتزمين للأسف.
سيتبادر سؤالٌ هنا: وما علاقة كل هذا بموضوع السؤال؟؟
العلاقة واضحةٌ جلية، أنقلها لكم بطريقة درامية: يذهب أحد “الملتزمين” إلى بيتٍ من البيوت ليرى بنتًا من بناته بداعي الخطبة، وإذا به وهو في طريقه قد رتَّب قائمةً بالبنات اللواتي يود الذهاب لرؤيتهن، وحدد مواعيد لذلك، ثم حين يدخل بيتًا من بيوت تلكم الفتيات العفيفات اللواتي رفضن العديد من المتقدمين بحثًا عن الملتزمين بدين الله تعالى، ورغبةً في من يحفظ الله سبحانه في نفسه وفيهن، حين يدخل هذا الملتزم البيت ويرى البنت وتعجبه إذا به يمارس ممارساتٍ لا تُعقَل، فيتحدث عما يريد هو، ويعرض ما على الزوجة باسم الإسلام أن تفعله كي تكون زوجةً صالحةً ترضي الله تعالى، وقد يزيد هذا الملتزم في معروضاته ويصل إلى مسائل خاصةٍ بتواجد الزوجين في بيتٍ واحدٍ لا يصح أن يتم الحديث فيها، ويستمر هكذا حتى يخرج من البيت متجهًا إلى بيتٍ حرٍّ آخر يمارس معه هذه الممارسات.
ثم إن من حق الملتزم أن يقول رأيه في من رآه من فتيات، فيقبل هذه ويرفض تلك، ويأخذ في الانتقاء والجرح والتعديل وفق قائمةٍ طويلةٍ عريضةٍ من الشروط ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، يفعل ذلك بينما الويل كل الويل للبنت ولأهلها إن قالوا لا له رغم أنه قال نعم، كيف لأحدٍ أن يرفضه؟ فهو له الحق كل الحق في أن يرفض، أما البنت فليس لها هذا الحق، إنها مجرد تابعٍ للرجل لا أكثر، لا رأي لها ولا قرار، وأهلها بالتبعية تابعون له كذلك، فالأمر كله بيده هو!!!
هذه بعض ممارسات العديد من “الملتزمين” اليوم للأسف، وهناك غيرها كثير، ولكم عانت بناتنا وأخواتنا الحرائر من هذه الممارسات، ومن تلكم الحقوق المفروضة قهرًا وقسرًا باسم الدين والقوامة وما هي من الدين، وكل هذا يتم قبل الزواج، فتخيلوا معي كيف يكون الحال بعده!!! لكُنَّ الله يا أخواتنا.
إن ما يقوم به الملتزمون من ممارسات في أمور الزواج ينطلق من مفهوم “اعملوا ما شئتم” هذا، ذلك المفهوم الذي فرض على العباد والبلاد أكوامًا من الضيق والغضب والحزن والقهر.
وحتى أكون منصفًا، فليس كل “الملتزمين” يفعل ذلك، بل منهم عددٌ طيبٌ يعرف حدود الله تعالى، ويقدِّر الآخرين كل تقدير، لكن من أتحدث عنهم هم فئةٌ ليست بالهينة في الوسط الإسلامي، وهذه الممارسات قد عانت منها الكثيرات من أخواتنا الملتزمات وأهاليهن، وقد سمع عنها العديد ممن هم في هذا الوسط.
إن مفهوم “اعملوا ما شئتم” لا يستقيم هكذا يا أيها الملتزمون، أنتم إخوتنا وأحبتنا، فافهموا دينكم حق الفهم، يرحمني ويرحمكم الله تعالى.
2- مفهوم: “من ترضون دينه وخلقه”:
وهذا المفهوم مأخوذٌ من حديث النبي ﷺ: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ)، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال ﷺ: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات. رواه الترمذي وحسنه، وفي رواية للبيهقي صححها الحاكم قدَّم الحديثُ الخلقَ على الدين فقال: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
وما أريد الحديث عنه هو معنى “خلقه”، لنرجع أولاً إلى شرح الحديث ومعناه، ثم لننتقل إلى حديث الفقهاء حول هذا الأمر.
– في شرح الحديث:
لنتحدث أولاً في معنى ألفاظ الحديث: ففي معنى “من ترضَون دينه وخلقه” يقول الإمام المباركفوري شارح الحديث: “(ترضون) أي تستحسنون (دينه) أي ديانته (وخلقه) أي معاشرته”، فخلقه لا تعني أخلاقه فقط، وإنَّما تعني “معاشرته” بمعناها العامّ: الأخلاق- العاطفة- التكافؤ- التوافق-…، فالدين مطلوب، والمعاشرة مطلوبةٌ أيضا، فلنفهم حديث رسولنا فهماً صحيحا، ولنضعه حيث يجب أن يوضع.
ويقول الإمام الشوكاني في دلالة الحديث: “فيه دليلٌ على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق”.
ثانيًا: في معنى الفساد المذكور في الحديث: يقول الإمام المباركفوري في معنى الفساد: “أي إن لم تزوِّجوا من ترضَون دينه وخلقه وترغبوا في مجرَّد الحسب والجمال أو المال”، ولاحظوا معي الدقَّة في كلماته: كلمة (مجرَّد) في: “وترغبوا في مجرَّد الحسب والجمال أو المال”، فالمشكلة ليست في الحسب والجمال والمال، وإنَّما في الاعتماد عليها وحدها، “مجرَّد” الاعتماد عليها.
ويقول رحمه الله تعالى: “وذلك لأنَّكم إن لم تزوِّجوها إلا من ذي مالٍ أو جاه، ربَّما يبقى أكثر نسائكم بلا أزواج، وأكثر رجالكم بلا نساء، فيكثر الافتتان بالزنا، وربَّما يلحق الأولياء عار، فتهيج الفتن والفساد، ويترتَّب عليه قطع النسب وقلَّة الصلاح والعفَّة”.
فالفساد المذكور في الحديث إذن سببه اشتراط ذي المال أو الجاه فقط، وهذا إن حدث فبالطبع سيؤدِّي إلى هلاكٍ وفسادٍ عظيمين، وليست لمسألة الكفاءة والتوافق والمشاعر أيَّ علاقةٍ بهذا.
فلنفهم الحديث جيِّداً، وللمرَّة الثانية “فهمًا صحيحًا”.
وقد يعترض معترضٌ هنا على ما أقول مستدلاً بالحديث الذي رواه الإمامان البخاري ومسلم: (تُنكَح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، فأجيبه بما قاله الإمام القرطبي في تعليقه على الحديث: “ولا يُظَنُّ من هذا الحديث أن هذه الأربع تؤخذ منها الكفاءة أي تنحصر فيها، فإن ذلك لم يقل به أحدٌ فيما علمت وإن كانوا اختلفوا في الكفاءة ما هي”.
فمن شروط الزواج إذن “الكفاءة”؛ الكفاءة بكل ما تعنيه الكلمة من كفاءة اجتماعية، ومادية، وثقافية.. إلخ.
– أقوال الفقهاء في “الكفاءة”:
اعتبر جمهور العلماء الكفاءة في النسب، ويرى الإمامان الشافعي وأحمد الكفاءة شرطًا للزوم النكاح وليس شرطاً لصحته، قال الإمام الشافعي: “ليس نكاح غير الأكفاء حرامًا، فأردُّ به النكاح، وإنما هو تقصير بالمرأة والأولياء، فإذا رضوا صح ويكون حقاًّ لهم تركوه فلو رضوا إلا واحدًا فله فسخه”، وبنحو هذا قال الحنابلة منهم الموفق وشيخ الإسلام ابن تيمية والمرداوي والبهوتي وغيرهم.
وقال الإمام المباركفوري: “ومذهب الجمهور: أنه يراعى أربعة أشياء الدين والحرية والنسب والصنعة، فلا تزوج المسلمة من كافر، ولا الصالحة من فاسق، ولا الحرة من عبد، ولا المشهورة النسب من الخامل، ولا بنت تاجر أو من له حرفة طيبة ممن له حرفة خبيثة أو مكروهة، فإن رضيت المرأة أو وليها بغير كفءٍ صح النكاح”.
من كل ما سبق يتضح ضرورة الاهتمام بمسألة الكفاءة الاجتماعية جنبًا إلى جنب مع الكفاءة الدينية، وهي نصيحة أتوجه بها إلى كل أطراف النكاح، وأخص بها الدعاة والشيوخ الذين ما فتئوا ينصون على الكفاءة الدينية متناسين بل مستنكرين من يطلب الكفاءة الاجتماعية، فأقول لهؤلاء الدعاة والشيوخ، ارجعوا إلى دينكم فافهموه فهمًا صحيحًا، واقرءوا أقوال علماء هذه الأمة قبل أن تفتوا وتنصحوا الناس فتضروهم أكثر مما تفيدونهم.
بقيت نقطة أخيرة أشير إليها في هذا الأمر، وهي معنى الكفاءة في الدين، إذ هي ليست -كمن يظنها- حسن العبادة، وإنما تشمل كذلك حسن المعاملة، بل لعل حسن المعاملة أولى، إذ العبادة تكون بين المرء وخالقه سبحانه، أما المعاملة فهي مع الناس، وهي المقياس الحقيقي لالتزام المرء، لذلك كان الاهتمام بها أولى، ويؤيد هذا المقولة الشهيرة عن الفاروق رضي الله تعالى عنه حين قال له رجل: إنَّ فلانًا رجلُ صدق، فقال له: “هل سافرت معه؟” قال: لا، قال: “فهل كانت بينك وبينه معاملة؟” قال: لا، قال: “فهل ائتمنته على شيء؟” قال: لا، قال: “فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد؟!”.
هكذا التزام المرء -ذكرٍ أو أنثى- يُعْرَف ويستدلُّ به عليه بسلوكه في حياته طولها وعرضها.
أختي الفاضلة عبير،
أتمنى أن تكون هذه الكلمات قد أصابت ما تريدين، وخففت مما تعانين وتعاني معك أخواتك الحرائر وأهلهن، وأسأل الله تعالى أن تجد من “الملتزمين” أذنًا صاغيةً وقلبًا واعيًا.. اللهم آمين.
شكرًا لك.. وأهلاً بك.