فور هجرة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى المدينة المنورة كتب دستورًا تاريخيًا[1]، هو دستور المدينة، وقد أطنب فيه المؤرخون والمستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي، واعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها الإنساني..
ما هو دستور المدينة؟
إن دستور المدينة هذا يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرين والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، يتصدى بمقتضاه المسلمون واليهود وجميع الفصائل لأي عدوان خارجي على المدينة..
وبإبرام دستور المدينة وإقرار جميع الفصائل بما فيه- صارت المدينة دولة وفاقية رئيسها الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل.
المستشرق جيورجيو: 52 بندا في دستور المدينة
يقول المستشرق الروماني جيورجيو: “حوى دستور المدينة اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون دستور المدينة بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع دستور المدينة في السنة الأولى للهجرة، أى عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده”[2].
ما هي الأسس التي قامت عليها وثيقة المدينة؟
ومن ثم تعالوا نقف وقفات سريعة على أهم معالم القيم الحضارية التي نراها جلية في وثيقة المدينة:
ما هي بنود دستور المدينة؟
- أولاً: الأمة الإسلامية فوق القبلية: قال دستور المدينة في ذلك: “إنهم [أي الشعب المسلم] أمة واحدة من دون الناس”[3]. وبهذا البند اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم وأنسابهم إلى جماعة الإسلام، فالانتماء للإسلام فوق الانتماء للقبيلة أو العائلة، وبهذا نقل رسول الله العرب من مستوى القبيلة إلى مستوى الأمة.
- ثانيًا: التكافل الاجتماعي بين فصائل الشعب: وفي هذه القيمة كُتبت البنود التالية:
- “المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين”[4].
- “وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين”[5].
- “وبنو سَاعِدَةَ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين…
- “وبنو جُشَمٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين..
- “بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين..
- “وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ..
- “وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ”[6].
- ثالثاً: ردع الخائنين للعهود : وفي هذا الحق كُتب البند التالي: “وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة[7] ظلم أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم”[8]. وهذا نص في جواز حمل السلاح على أي فصيل من فصائل المدينة إذا اعتدى على المسلمين.. وبموجب هذا النص حُكم بالإعدام على مجرمي قريظة – بعد معركة الأحزاب (في ذي القعدة 5 هـ/إبريل 627 م ) – ، لما تحالفوا مع جيوش الأحزاب الغازية للمدينة، وبغوا وخانوا بقية الفصائل، على الرغم من أنهم أبناء وطن واحد!
- رابعا: احترام أمان المسلم: وجاء في هذا الأصل الأخلاقي البند التالي: “وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.”[9] .. فلأي مسلم الحق في منح الأمان لأي إنسان، ومن ثم يجب على جميع أفراد الدولة أن تحترم هذا الأمان، وأن تجير من أجار المسلمُ، ولو كان المجير أحقرهم. فيُجير على المسلمين أدناهم، بما في ذلك النساء، وقد قال النبي -ﷺ- لأم هانئ: ” أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ [10].
- خامسا: حماية أهل الذمة والأقليات غير الإسلامية: وجاء في هذا الأصل: “وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم”[11]. وهو أصل أصيل في رعاية أهل الذمة، والمعاهدين، أو الأقليات غير الإسلامية التي تخضع لسيادة الدولة وسلطان المسلمين .. فلهم –إذا خضعوا للدولة– حق النصرة على من رامهم أو اعتدى عليهم بغير حق سواء من المسلمين أو من غير المسلمين، من داخل الدولة أو من خارجها..
- سادسا: الأمن الاجتماعي وضمان الديات: وجاء في هذا الأصل: “وإنه من اعتبط[12] مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه”[13]. وبهذا أقر دستور المدينة الأمن الاجتماعي، وضمنه بضمان الديات لأهل القتيل، وفي ذلك إبطال لعادة الثأر الجاهلية، وبين النص أن على المسلمين أن يكونوا جميعًا ضد المعتدي الظالم حتى يحكم عليه بحكم الشريعة.. “ولا شك أن تطبيق هذا الحكم ينتج عنه استتباب الأمن في المجتمع الإسلامي منذ أن طبق المسلمون هذا الحكم”[14].
- سابعا: المرجعية في الحكم إلى الشريعة الإسلامية: وجاء في هذا الأصل: “وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله –عز وجل- وإلى محمد… “وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره”[15].
- ثامنا: حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر مكفولة لكل فصائل الشعب: وجاء في هذا الأصل: “وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ[16] إلا نفسه وأهل بيته” [17].
- تاسعا: الدعم المالي للدفاع عن الدولة مسؤلية الجميع: وجاء في هذا الأصل: “وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين”[18].
- فعلى كل الفصائل بما فيها اليهود أن يدعموا الجيش ماليًا وبالعدة والعتاد من أجل الدفاع عن الدولة، فكما أن المدينة وطن لكل الفصائل، كان على هذه الفصائل أن تشترك جميعها في تحمل جميع الأعباء المالية للحرب.
- عاشرا: الاستقلال المالي لكل طائفة: وجاء في هذا الأصل: “وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم”[19]. فمع وجوب التعاون المالي بين جميع طوائف الدولة لرد أي عدوان خارجي، فإن لكل طائفة استقلالها المالي عن غيرها من الطوائف.
- الحادي عشر: وجوب الدفاع المشترك ضد أي عدوان : وجاء في هذا الأصل : “وإن بينهم النصر على من دهم يثرب “[20]. “وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة”[21]. وفي هذا النص دليل صريح على وجوب الدفاع المشترك، ضد أي عدوان على مبادئ هذه الوثيقة.
- الثاني عشر: النصح والبر بين المسلمين وأهل الكتاب: وجاء في هذا الأصل:”وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم”[22].فالأصل في العلاقة بين جميع طوائف الدولة –مهما اختلفت معتقداتهم– هو النصح المتبادل، والنصيحة التي تنفع البلاد والعباد، والبر والخير والصلة بين هذه الطوائف. وقد اشتملت دستور المدينة على قيم حضارية أخرى .
- الثالث عشر: حرية كل فصيل في عقد الأحلاف التي لا تضر الدولة: وجاء في هذا الأصل: “وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه”[23].
- الرابع عشر: ووجوب نصرة المظلوم: وجاء في هذا الأصل : “وإن النصر للمظلوم.”[24]
- الخامس عشر: وحق الأمن لكل مواطن: “إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول”[25].
طرق ورود وثيقة المدينة
يقول د. أكرم ضياء العمري في كتابه (السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد رويات السيرة النبوية) عن صحة وثيقة المدينة : ” وقد اعتمد الباحثون المعاصرون على الوثيقة في دراسة تنظيمات الرسول ﷺ في المدينة المنورة ولكن من الضروري جدا التأكد أولا من مدى صحة الوثيقة قبل أن تبني عليها الدراسات، خاصة أن أحد الباحثين يرى أن الوثيقة موضوعة .
ونظرا لأهمية الوثيقة التشريعية إلى جانب أهميتها التأريخية، فلابد من تحكيم مقاييس أهل الحديث فيها لبيان درجة قوتها أو ضعفها، وما ينبغي أن يتساهل فيها كما يفعل مع الروايات والأخبار التأريخية الأخرى إن أقدم من أورد نص الوثيقة كاملا هو محمد بن إسحق (ت151هـ) لكنه أوردها دون إسناد وقد صرح بنقلها عنه كل من ابن سيد الناس وابن كثير فوردت عندهما دون إسناد أيضا، وقد ذكر البيهقيإسناد ابن إسحق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون البنود التي تتعلق باليهود لذلك لا يمكن الجزم بأنه أخذها من نفس هذه الطريق أيضا. وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خثيمة أورد الكتاب (الوثيقة) فأسنده بهذا الإسناد (حدثنا أحمد بن خباب أبو الوليد حدثنا عيسى بن يوسف حدثنا بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده. أن رسول الله ﷺ كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار فذكر بنحوه – أي بنحو الكتاب الذي أورده ابن إسحق) .
ولكن يبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خثيمة إذ لا وجود لها فيما وصل إلينا منه. كذلك وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد آخر هو (حدثني يحيي بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح قالا حدثنا الليث بن سعد قال حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله ﷺ كتب بهذا الكتاب …) وسرده ما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لابن زنجويه من طريق الزهري أيضا” (26).
مدى صحة وثيقة المدينة
وحول مدى صحة وثيقة المدينة أفرد إبراهيم بن محمد العلي في كتابه صحيح السيرة النبوية بابا لها فقال : ” الحكم بوضع الوثيقة مجازفة، ولكن الوثيقة لا ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة. فابن إسحاق في سيرته رواها دون إسناد مما يجعل روايته ضعيفه، وأوردها البيهقي من طريق ابن إسحاق أيضا بإسناد فيه سعد بن المنذر وهو مقبول فقط، وابن أبي خيثمة أوردها من طريق كثير بن عبد الله المزني وهو يروي الموضوعات وأبو عبيد القاسم بن سلام رواها بإسناد منقطع يقف عند الزهري، وهو من صغار التابعين فلا يحتج بمراسيله. ولكن نصوصا من الوثيقة وردت في كتب الأحاديث بأسانيد متصلة وبعضها أوردها البخاري ومسلم، فهذه النصوص هي من الحديث الصحيح وقد احتج بها الفقهاء، وبنوا عليها أحكامهم. كما أن بعضها ورد في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، وابن ماجه والترمذي، وهذه النصوص جاءت من طرق مستقلة عن الطرق التي وردت منها الوثيقة.
ويضيف العلي : إذا كانت الوثيقة بمجموعها لا تصلح للاحتجاج بها في الأحكام الشرعية، سوى ما ورد منها من كتب الحديث الصحيح، فإنها تصلح أساسا للدراسة التاريخية التي لا تتطلب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية”(27).
هذه بعض معالم الحضارة الإسلامية في دستور المدينة، تبين لك – كما رأيت – كيف سبق النظامُ الإسلامي جميع الأنظمة في إعلاء قيم التسامح والتكافل والحرية ونصرة المظلوم .. وغيرها من القيم الحضارية التي يتغنى بها العالم في الوقت الراهن دون تفعيل جاد أو تطبيق فاعل.
5>