أيها الآباء والأمهات دعوا أطفالكم يلعبون في المساجد!، فإنه من واقع ملاحظاتكم ونظراتكم الصامتة لأطفالكم؛ ستجمعون على أن ليس هناك لفظا يليق أن يوصفوا به سوى الشقاوة والحركة الدائمة المستمرة؛ فهم كتلة مشحونة بالطاقة والحيوية، فكما لا يمكننا أن نتخيل نمو النبتة بلا جذور كذلك لا يمكن أن نتوقع النمو العقلي والجسمي للطفل بلا حراك أو نشاط، إذ أنه لا يمكنه التعرف على الحياة وأسرارها واكتشاف عالمه الذي يعيش في أحضانه إلا عن طريق التجول والسير في جوانبه، وتفحص كل مادي ومعنوي يحتويه، والتلفت يمنة ويسرة للإحاطة بكل ما حوله والتعرف على ماهيته، وحيث إن الله تعالى خلق فينا حب الاستطلاع، والميل إلى التحليل والتركيب كوسيلة لإدراك كنه هذا الكون فإن هذه الميول تكون على أشدها عند الطفل.
وإذا كان حب الاستطلاع والاستكشاف يلازمنا نحن الكبار حتى لحظتنا هذه التي نحياها، بل ويلازم كل فرد طوال رحلة حياته حتى يلقى وجه ربه، فما بالنا بالدرجة التي يحتلها هذا الجانب في لب الطفل ووجدانه وهو الكائن الذي هلَّ وجهه على هذه الدنيا مؤخرًا، ولم ينل بعد الفرصة الكافية لإشباع ذاته بالخبرة التي تشعره بالأمن والطمأنينة في عالم جديد لم يعهده من قبل. وما دام الأمر كذلك فنحن مطالبون بأن نفسح المجال، ونفتح الطريق أمام فلذات أكبادنا ليتمكنوا من تنمية كافة جوانبهم الجسمية والروحية والعقلية، تلك الجوانب التي ترسم الإطار السوي لشخصية كل إنسان.
ما سبق ذكره ما هو إلا هدف تربوي يتصل اتصالاً وثيقًا بقضيتنا المطروحة ولا يتحقق إلا من خلالها، وبأخذها في الحسبان باعتبارها واحدة من آلاف المواقف التي تخدم هذا الهدف التربوي؛ الذي هو أهم ما يسعى كل فرد لتحقيقه ليتمكن من التكيف في هذه الحياة.
إننا حين نطالب بتوفير ساحة واسعة الأرجاء يُمنح الطفل فيها حرية النشاط والانتشار؛ لتشكيل شخصيته وتنميتها في البيت والمدرسة والنادي والشارع وكل مكان ويسمح له بتكوين خبراته عن طريق اختلاطه بمن حوله في تلك الأماكن، فليس لنا الحق في أن نسلط له الضوء الأحمر في المسجد، وأن نقف سدًا منيعًا يحول دون تحقيق المسجد دوره الذي أصبح يقتصر الآن على تحقيق أهداف دينية تنمي الجانب الروحي في ذاته وشخصيته.
البعض منا يجنب أطفاله دخول المساجد مطلقًا حرصًا على راحة المصلين، وحفاظًا على استمرارية الهدوء فيها، والبعض الآخر دائم الاهتمام باصطحاب أطفاله إلى المسجد بالجسد دون الروح؛ فهو قد هيأه ماديًا لا معنويًا، فحرمه من الخبرة اللازمة والتهيئة الضرورية التي تحفظ للمسجد قدسيته وحرمته، والتي كان من الواجب أن تحتل مكان الصدارة في ذهن كل أب وأم ليمدوا به أطفالهم قبل أن يأخذوا بأيديهم إلى أبواب المساجد، فهم لم ينيروا الطريق أمام أبنائهم بتوجيهاتهم الرشيدة ليقتبسوا منها سلوكًا قويمًا يهتدون به ويتصرفون بمقتضاه في هذا المكان الطاهر، وبذلك نجد أنفسنا أمام صنفين من الآباء والأمهات على طرفين نقيض صنف أغلق الأبواب وحال دون وصول الأطفال إليها، والآخر فتحها على مصارعها وأتاح للصغار حرية مطلقة لا تحكمها مجموعة من المبادئ والقيود.
وبما أننا أمة وسط وديننا يميل إلى التوسط في الأمور كلها فليس هناك ما يحول بيننا وبين الاحتكام إلى الوسطية في هذه القضية، فديننا الحنيف لم يرد فيه من النصوص ما يشير إلى المنع البات لدخول أطفالنا المساجد حتى نميل بمقتضاه إلى الرأي الأول؛ بل على العكس من ذلك فقد ورد الكثير من الأحاديث التي يُستدل منها على جواز إدخال صبياننا المساجد:
من ذلك ما رواه البخاري عن أبي قتادة قال: “خرج علينا النبي ﷺ وأمامة بنت العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها”، وأيضًا ما رواه البخاري عن أبي قتادة عن النبي ﷺ قال: “إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه
وكذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس قال: “أقبلت راكبًا على حمار أتان؛ وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله ﷺ يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذك علي” وإذا كانت هذه هي الأدلة النقلية التي تهتف بنا قائلة: “دعوا أطفالكم يدخلون المساجد” وكفى بها أدلة تجعلنا نبادر بالخضوع والاستجابة لهذا النداء.
لماذا نصطحب أطفالنا إلى المساجد؟
هناك أدلة تتبادر إلى عقولنا مؤيدة تلك الأدلة النقلية، والتي تزيد من اقتناعنا بهذه القضية، فدخول أطفالنا المساجد يترتب عليه تحقيق الكثير من الأهداف الدينية والروحية والتربوية والاجتماعية إلى غير ذلك، فاهتمامنا باصطحاب الأطفال إلى المساجد ينمي لديهم شعيرة دينية هي الحرص على أداء الصلاة في جماعة، كما أنها تغرس فيهم حب بيوت الله، وإعمارها بالذكر والصلاة؛ وهذا هدف روحي في غاية الأهمية لكل شخص مسلم.
كما أن المساجد هي ملتقى اجتماعي يقصده كل مسلم على اختلاف جنسه وفكره ومستواه الاجتماعي والمادي، فالجدير بنا أن نضع أطفالنا وسط هذا العالم المنفتح ليستمدوا منه خبراتهم وتجاربهم التي تشكل شخصياتهم وتنميها، وهذا هدف اجتماعي تربوي هام، كما أن الملاحظة هي خير وسيلة للتعليم وهي نقطة البداية التي يتبعها التجريب، ومن هنا فملاحظة الطفل للكبار عند أداء صلاتهم يكون سببًا في سرعة تعلمه لكيفية أداء الصلاة مستوفية أركانها وهيئتها، ولو حاولنا حصر الأهداف المترتبة على مشاركة الأطفال للكبار في دخول المساجد لطال بنا المقام ولما تمكنا من الإلمام بها.
بالحكمة.. علموهم قدسية المساجد
إن أحاديث جواز دخول صبياننا المساجد مما أوردناه وما لم نورده قد وضعت النقاط على الحروف، وأضاءت لنا معالم الطريق لننطلق منه إلى البحث في شروط دخول أطفالنا المساجد، فإذا كانت تلك الأحاديث قد سمحت لصغار السن دخول المسجد، فلا يعني ذلك السماح لهم باللهو واللغو فيها وتحويلها إلى مكان يعج بالصياح والضوضاء، وشغلها بالضحك والكلام بدلاً من الذكر والقرآن.
وحتى نتغلب على انتهاك حرمات بيوت الله مما يتسبب فيه غالبًا صبياننا الصغار فإن ذلك لا يتحقق إلا إذا أحطناهم علمًا بقدسية ذلك المكان، والهدف الذي من أجله قد وضع في الأرض، والاختلاف المتباين بينه وبين غيره من أماكن اللهو والعبث التي يُمنح الفرد فيها مطلق الحرية والانطلاق، ومن هنا يدخل أطفالنا المساجد وقد تهيأوا نفسيًا وفكريًا بما يساعدهم على تقبل أي سهم من سهام الانتقاد الموجهة إلى تصرفاتهم المخلة بآداب المساجد؛ لاستدراك خطأهم عند استرجاع ما انطوت عليه عقولهم من مخزون قد احتفظوا به من توجيهات والديهم قبل دخولهم المساجد.
وبذلك يتبين لنا أهمية التهيئة وآثارها الإيجابية على استقرار الجو الداخلي لبيوت الله ويليها عملية التوجيه المستمر، ذلك التوجيه المبني على أسس علمية مدروسة فلا يكون عن طريق الزجر والتوبيخ والتعنيف المحطم لشخصية الطفل؛ بل على النقيض من ذلك فينبغي أن يكون التوجيه والإرشاد بأسلوب هادئ محبب إلى نفس الصغير بعطف دون ضعف، وحزم دون عنف ، فهناك فرق بين أن يقلع الطفل عن لعبه ولهوه خوفًا من العقاب، وبين أن يفعل ذلك احترامًا لقدسية المكان واستجابة لوالديه.
فما دام المقصود هو هدوء الجو فيمكن تحقيق ذلك بأساليب متفهمة وليس بغيرها من الأساليب التي تؤثر على نفسية الطفل وشخصيته، وتحدث بها جرحًا لا يندمل؛ بل وتجعله يكره الذهاب إلى المساجد هروبًا مما يقلقه ويزعجه ويشل نشاطه وحركته.
وبذلك نكون قد سرنا في هذه القضية واضعين نصب أعيينا “خير الأمور أوسطها” متجنبين الآثار السلبية المترتبة على سيرنا وفق أحد الأسلوبين المنحرفين عن التوسط. فوفقنا الله إلى الجمع بين طرفي نقيض؛ فلا نحرم أطفالنا من دخول المساجد، ولا ننتهك حرماتها. وبما أنني قد ابتدأت مقالتي بعبارة “دعوا أطفالكم يلعبون في المساجد” والتي لم تكتب إلا لإثارة الانتباه، ولكنها في الوقت ذاته أثارت الكثير من التساؤلات ودفعت بالكثيرين إلى التعجب والاستنكار فإنني في نهاية المطاف وبعد أن تبين المقصود وانكشف المستور أحسم تلك المشاعر الثائرة قائلة ومصححة: دعوا أطفالكم ..يدخلون المساجد..ويحبونها* يسرا علاء