تهدف هذه الورقة إلى التعرف على الوسطية الاقتصادية وملامحها، باعتبارها القادرة على تحقيق التوازن في الأداء الاقتصادي، سواء على الصعيد العالمي أو القطري، وكذلك معرفة دور الوسطية الاقتصادية ودورها في التنمية والتطوير الاجتماعي، وذلك من منظور إسلامي.
فمنذ فترات طويلة من الزمن والعالم يتقلب بين نظم وسياسات اقتصادية متعددة، ولكن في الغالب اتخذت هذه النظم والسياسات منحى التحيز، سواء لطبقة معينة، أو لأسلوب معين في إدارة شئون الاقتصاد؛ فترتب على ذلك خلل بين في بنية جميع الدول، المتقدمة منها والنامية على السواء، ومن أجل ذلك قامت ثورات وسقطت نظم، كما أن الجانب الأكاديمي تغيرت رؤاه حسب تغيرات الواقع، وقد شهدنا ذلك التقسيم للنظم الاقتصادية ما بين رأسمالي، واشتراكي، وثالث مختلط، ورابع إسلامي. وإن كان الواقع الفعلي لم يتحقق فيه التطبيق الكامل لأحد هذه النظم، فالدول الرأسمالية أخذت ببعض المبادئ الاشتراكية لمعالجة آفات الرأسمالية، وكذلك الدول الاشتراكية عمدت إلى تطبيق بعض المبادئ الرأسمالية تلبية لفطرة الإنسان في التملك والتنعم بثمرات عمل يده.
فكرة تنقصها التكامل
ولكن يلاحظ أنه في العصر الحديث قد مكن للنظم الثلاثة من التطبيق في ظل منظومة متكاملة من حيث الأدوات التشريعية والاجتماعية والثقافية، مما أتاح لها زخما من حيث التنظير والتأصيل، بينما النظام الإسلامي لا يزال يعمل في أجواء ينقصها التكامل بين أطرافها، فكانت معظم حالات تطبيقه اجتهادية من حيث النشأة والممارسة، وفي الغالب قد تتعارض منظومة التشريعات والإجراءات الإدارية الأخرى داخل الدول التي شهدت بعض التطبيقات الاقتصادية الإسلامية مع منظومة المعاملات الاقتصادية الإسلامية، فتتم عملية مواءمة مع تلك الظروف من منطق ما لا يدرك كله لا يترك كله.
إلا أن بعض الدول الإسلامية تبنت مؤخرا المنتجات الاقتصادية الإسلامية على استحياء، بعد أن أثبتت هذه التجارب الإسلامية نجاحها وتلبيتها لرغبات شريحة كبيرة من أبناء العالم الإسلامي، والذين يريدون البعد عن شبهات الربا والوقوع في مخالفات شرعية ترتبط بالعقود والمعاملات المالية، بل قبل غير المسلمين المنتجات المصرفية والمالية الإسلامية لعلاج بعض مشكلاتهم الاقتصادية، كما هو حاصل في شأن الصكوك الإسلامية [1 ].
وعلى اختلاف النظم الاقتصادية التي تم تطبيقها في عالمنا الحديث، أتت النتائج مخيبة للآمال، فإما أنها استهدفت تحقق الكفاءة الاقتصادية، فتحقق لها بعض من هذا، ولكن على حساب العدالة الاجتماعية، أو العكس أنها استهدفت تحقيق العدالة الاجتماعية، فتحقق لها بعض من ذلك على حساب الكفاءة الاقتصادية.
الوسطية: التعريف والمفهوم
معروف من تعريف اللغة العربية أن للوسطية وجوها عدة للتعريف، وهي تأتي أيضا بمعان عدة من خلال الأدبيات الإسلامية، ومنها:
1. الوسطية بمعنى التوازن، أي التوسط بين طرفين متقابلين ومتضادين، وفي المجال الاقتصادي نجد أن الملكية على سبيل المثال، أخذت صورتين متضادتين ففي النظام الرأسمالية أطلق العنان للملكية الخاصة، بينما في النظام الاشتراكي فقيد هذه الملكية لدرجة تصل لحد الإلغاء التام، وتوسع في الملكيات العامة، بينما الإسلام قد جعل من الملكية صورا متعددة؛ فأقر الملكية الخاصة واعتبرها أصلا وجعل عليها استثناءات من ملكية عامة للمجتمع الأهلي، وصورة ثالثة لملكية الدولة كملكية الدولة للمناجم والطرق والمطارات والموانئ وغيرها.
2. الوسطية بمعنى العدل: بمعنى عدم الظلم والجور على حقوق الآخرين، والعدل توسط بين طرفين متنازعين أو أطراف متنازعة دون ميل أو تحيز لأحدهما، وإعطاء كل منهم حقه دون بخس ولا جور[2]، وقد فسر العلماء كلمة أوسطهم الواردة في قوله تعالى: { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } ( القلم: آية 28 ) بمعنى أمثلهم وأعدلهم قولاً وأصدقهم[3 ].
والعدل في ساحة المعاملات الاقتصادية مطلب ينادي به الأفراد والمؤسسات والدول، حيث نشهد على مستوى الأفراد ذلك التمايز في توزيع الثروات والدخول دون تحقيق العدل المطلوب، وكذلك بين المؤسسات حيث تفضل قطاعات على بعضها البعض من حيث المعاملات الضريبية، أو المزايا الأخرى من تقديم الدعم العيني أو النقدي، وعلى مستوى الدول حيث يشهد مجال التجارة الدولية على سبيل المثال مطالبة الدول النامية بالتجارة العادلة، بينما تسوق الدول المتقدمة لمفهوم التجارة الحرة، وبينهما بون شاسع حيث تريد الدول النامية سعرا عادلا وشروط تجارة غير مجحفة لمواردها الطبيعية والتقليدية التي تمتلكها في مجال التجارة الدولية، بينما الدول المتقدمة تريد تجارة حرة لتفوق صناعاتها منذ سنوات طويلة وقدرتها على منافسة صناعات الدول النامية في عقر دارها وهو ما يؤذن بإغلاق الصناعات في البلدان النامية.
3. الوسطية بمعنى الاستقامة، والمقصود بالاستقامة سلامة المنهج وملاءمته للطبيعة والفطرة الإنسانية، فلا يشرع له ما فيه ضرر له، كما يأمره بما فيه صلاحه وعافيته في الدنيا والآخرة، ونجد أن النظام الاقتصادي الإسلامي قد اتسم بهذه الصفة وهى الاستقامة، فوضع من القواعد ما ينظم عمليات الإنتاج والاستهلاك والتوزيع وحقوق الأطراف المعنية بها، وكذلك حق الفرد والمجتمع، بما يحافظ على سلامته الاقتصادية والاجتماعية. فلا يسمح بمحرمات تهدر الموارد (سواء البشرية أو الطبيعية أو المالية) ولا تبدد النفقات (سواء كانت للفرد أو المؤسسة أو الدولة).
4. الدكتور/ الصادق المهدى قد عرف الوسطية في المجال الاقتصادي بالآتي:
(التنمية البشرية التي تحقق نموا اقتصاديا وتوفيرا للخدمات الاجتماعية وتوزيعا للثروة، هدف إسلامي مثلما هو هدف إنساني، والوسطية تتطلع لها وتعمل على تحقيقها[4 ] ).
5. د/ منى أبو الفضل، ترى ( أن مفهوم الوسطية لا يتعامل معه على أنه الوسط الحسابي الأرسطي، بحيث يَعُد الفضيلة بأنها الوسط بين رذيلتين، إنما هو قائم على منظومة متكاملة من الممارسات والسلوكيات والأفكار التي تتفرع عن مركزها )[5 ]. ومن هنا نجد أن الوسطية ليست معنى تجريديا ولكنها واقع معيش يترجم الأفكار إلى واقع.
الوسطية تنمية شاملة
تعريف إجرائي للوسطية الاقتصادية: هي مجموعة السياسات الاقتصادية المنبثقة من النظام الاقتصادي الإسلامي، والتي تستطيع أن توفر الاستقرار الاقتصادي المحمود –وليس الاستقرار المرتبط بالجمود أو السكون– من خلال تنمية شاملة ومستدامة تنهض بالإنسان وتعمر الكون في إطار من المنافسة الداعية للتعايش وليس الانفجار.
ويلاحظ من هذا التعريف، أن له أركانًا أو أهدافًا أساسية هي:
– تحقيق الاستقرار الاقتصادي المحمود، والذي يراعي المستجدات الحياتية في الواقع، ويدفع إلى اجتهاد يناسب مستجدات العصر.
– تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وهذا الركن من الوسطية الاقتصادية، مرتبط بطبيعة المنهج الإسلامي والذي يعتمد خلافة الإنسان لله عز وجل في هذا الكون، وهذه الخلافة ممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبالتالي فوجود تنمية شاملة ومستدامة أمر طبيعي في إطار مفهوم الخلافة ومتطلبات عمارة الكون.
– تحقيق منافسة تقيم التعايش بين بني الإنسان، وتحدث التطوير الاجتماعي. وهنا نجد أن الإسلام يضع من الضوابط للممارسة النشاط الاقتصادي ما يسمح بتحقيق منافسة حقيقية تعتمد على الكفاءة وليس الاحتكار أو إزاحة الآخرين من السوق.
الوسطية الاقتصادية استخلاف
أولا: الاقتصاد والمال في الإسلام
خلق الله عز وجل الإنسان، وخلق معه احتياجاته إلى من حوله في هذا الكون، فلا يستطيع أن يحيا وحده، بل يعيش في إطار نظرية المدافعة التي أودعها الله في خلقه، يقول الله تعالي: “وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ” (البقرة: الآية 251). ومن هنا تعددت علاقات الإنسان فشهدت تنوع في مختلف مجالات الحياة.
ونظرا لأهمية التعاملات الاقتصادية، والتي حركت الكثير من العلاقات الإنسانية، من حيث توطيد هذه العلاقات، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو الدول والشعوب، أو العكس من ذلك حيث نشبت الحروب، وقطعت الأرحام، وتكونت تحالفات ومؤسسات لتواجه بعضها البعض، وذلك كله من أجل أسباب اقتصادية.
ولكن الإسلام وفق رسالته الثابتة والتي استخلف الله عز وجل فيها الإنسان في الأرض، يقول تعالي: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة: آية 30)، لم يجعل من الاقتصاد والمال إلا وسيلة تستخدم وتوظف في إطار رسالة الإنسان الكبرى، وهي عبادة الله عز وجل. ومن صميم العبادة، ألا تستخدم نعم الله عز وجل في إيذاء الآخرين أو حرمانهم من خيرات هذا الكون ونعمه الكثيرة، أو أن تهيمن المادة على مقدرات الحياة فتجعل من المال سلطانا على الإنسان وعلى تصرفاته، فهو يعطي ويمنع من أجل المال، ويصالح ويخاصم على هدي قواعد مادية. ولا يتحرك إلا على أساس من المصالح المادية.
فكما يشير المفكر الإسلامي الراحل “مالك بن نبي” رحمه الله –في كتابه المسلم في عالم الاقتصاد- إلى أن الاقتصاد بجانب أنه وسيلة الشعوب الإسلامية للحياة، فهو أيضا رسالة لها لكي تحمل رسالة الإسلام الداعية إلى السلام إلى هذا العالم. وأن الاقتصاد الإسلامي حينما يقيم علاقاته الاقتصادية على المنافسة، فإنه يجعلها منافسة تدعو إلى التعايش، وليس إلى الانفجار[6 ].
مقاصد التنمية
ثانيا:البعد المقاصدي للأموال
يرى العلامة الطاهر بن عاشور أن للإسلام مقاصد خمسة في الأموال؛ هي: رواجها ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها [7 ]. بينما يضيف إليها بعض الباحثين مقصدا سادسا وهو التكسب والاستثمار. ونتناول هذه المقاصد بشيء من التفصيل فيما يلي:
1. مقصد التداول والرواج: ويراد بهذا المقصد تداول ورواج الأموال بين عامة الناس، وألا يكون ذلك قاصرا على الأغنياء فقط أو على فئة معينة من المجتمع دون الفئات والشرائح الأخرى، ويكون ذلك في مجالات الاستثمار والاستهلاك، ومن هنا شرعت العقود والبيوع والشركات في الفقه الإسلامي ونظمت معاملاتها، لتيسير وتسهيل حركة الأموال بين الناس.
2. مقصد التكسب والاستثمار. ويراد بهذا المقصد ما أوجبه الإسلام على الأفراد من السعي للكسب، واستثمار الأموال، فلا يعطل المال ولا يكتنز ولكن يدفع به لدوائر الأعمال لينمو ويعم خيره على المجتمع؛ فالحق تبارك وتعالى يقول: “فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (الجمعة: آية 10) وهذا دليل وجوب السعي للرزق والكسب، ويقول عز وجل محذرا من اكتناز المال: “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” (التوبة: آية 34).
3. مقصد الوضوح: والمراد بهذا المقصد هو شفافية المعاملات والتصرفات المالية من حيث تدوينها وتوثيقها والإشهاد عليها، وذلك دفعا للضرر والغرر والغش والتدليس، وإن كانت آية الدين هي الأشهر في هذا المجال، فإن كتابة جميع المعاملات والتصرفات المالية معمول به من باب حفظ وبيان الحقوق. ومما يؤسف له أن الشفافية للمعاملات المالية في البلدان الإسلامية محل شك وريبة، وينعكس ذلك من خلال ترتيب البلدان الإسلامية على مؤشر الشفافية الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية حيث تحتل البلدان الإسلامية مراتب متدنية أو في أحسن الأحوال في منتصف التقويم.
4. مقصد الثبات: ويعنى بهذا المقصد الاختصاص وحرية التصرف في الملكيات والأموال الخاصة وعدم انتزاعها بغير رضا مالكها بالطرق المشروعة من بيع أو هبة أو تبرع، وقد نهى الله عن أكل أموال الناس بالباطل أيّا كانت صورته، ويقول الحق تبارك وتعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً” (النساء: آية 29).
5. مقصد العدل: والعدل المراد في هذا المقصد، جعل المال في نصابه الذي جعل من أجله فلا يستثمر ولا ينفق في حرام، وإنما في قنوات أمر بها الله عز وجل، تعود بالنفع على صاحبها وعلى من حوله من أفراد مجتمعه.
ثالثا: الوسطية الاقتصادية والاستقرار
يقصد بالاستقرار الاقتصادي المحمود هنا، أن تكون المتغيرات الاقتصادية (الإنتاج – الاستهلاك – التوزيع – الادخار – الاستثمار) محكومة بمتطلبات المجتمع وتطلعاته، في إطار من الشفافية، وبعيدا عن الاحتكار، أو شبهة العمل لصالح فئة أو طائفة من اللاعبين الاقتصاديين، سواء أكانوا أصحاب رءوس أموال أو عمالا. ومن هنا شرعت صور التعاملات لجميع المتغيرات الاقتصادية بما يمثل عائدا حقيقيا لكل مساهم في تكوينها الاقتصادي. وبما لا يؤثر على إهدار موارد المجتمع والحفاظ على الموارد بكل أنواعها (البشرية، المادية، المالية). ولذلك فهناك مجموعة من السياسات الاقتصادية والتي تتكامل فيما بينها لإحداث هذا الاستقرار المحمود والمنشود، وذلك من خلال الآتي:
الوسطية والسياسات الاقتصادية
السياسات النقدية، ويكون دورها من خلال تقويم حقيقي للعملة المتداولة دون مغالاة أو وجود مضاربات عليها، وأن تكون معبرة بحق عن موجودات المجتمع من إنتاج السلع والخدمات، فلا يظلم صاحب الثروة ولا يضيع العامل. فكلاهما يحصل على عائد حقيقي على ما قدم دون بخس أو وكس. كما لا يعطى الحاكم أو الدولة الحق في إصدار نقود دون وجود غطاء من معدن نفيس أو إنتاج من السلع والخدمات. كما أن التعاملات الاقتصادية بكل أنواعها تكون بعيدة تماماً عن آلية سعر الفائدة، وإنما تعتمد على المشاركات والمعاوضات.
السياسات المالية، إحداث ذلك التوازن من خلال الزكاة ومصادر الإيرادات العامة الأخرى التي تفرض وتحصل في إطار من الشورى، وفي ظل دولة القانون، فلا يعفى الأغنياء ويغرم الفقراء، كما هو معمول به الآن في ظل الأداء الاقتصادي في العديد من الدول النامية. فلا تشرع الضرائب إلا في ضوء احتياجات ووظائف محددة، ويتم مراجعاتها كلما دعت لذلك الحاجة، كما يقوم على جمعها والتصرف فيها وفق قوانين منظمة لذلك ويراعى في تطبيقها الشافية ومنع الفساد.
السياسات التجارية، سواء فيما يتعلق بالتجارة الداخلية أو الخارجية، فيتم تنظيمها في ضوء المنافسة العادلة، والتي تراعي وجود صغار المنتجين والتجار، دون محاباة للأغنياء أو تضييع الفرصة عليهم. كما أن التجارة الخارجية تكون في إطار المعاملة بالمثل، ولا يترتب عليها وقوع الضرر على المنتجين الوطنيين أو غيرهم، في ظل تبني سياسات تقوي من موقفهم التنافسي سواء على الصعيد المحلي أو الدولي.
ولا شك أن محور السياسات الاقتصادية يتطلب من المرونة ما يلزم بحيث تتواكب هذه السياسات ومتطلبات المجتمع من أفراد ومؤسسات، في ضوء اجتهادات تراعي مقاصد الشرع، واعتبار المصلحة.
الوسطية عملية متصلة
مر تعريف التنمية بعدة مراحل بدءًا من النمو الاقتصادي، ثم التنمية الاقتصادية، ثم التنمية البشرية، ثم التنمية الشاملة، وكان آخر ما تعارفت عليه الأدبيات الاقتصادية، التنمية المستدامة والتي عرفت بدورها هي الأخرى تعريفات مختلفة منها:
“تلك التنمية التي تلبي حاجات الحاضر دون مساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتهم”. أو “التنمية التي تأخذ في اعتبارها التوازنات البيئية الطبيعية وذلك حفاظا على الموارد من التدهور والاستنزاف وضمانا لاستدامة التنمية”[8 ].
وكما ذكرنا من قبل، أن الوسطية الاقتصادية تستهدف تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، من خلال نظرية خلافة الإنسان لله عز وجل في هذا الكون، وأن الإنسان مكلف بحكم هذه الخلافة بعمارة الأرض، وأن الإنسان يتحمل هذا التكليف إلى قيام الساعة. فالتنمية بالمفهوم الإسلامي ليست فرضا على جيل دون آخر، ولكنها عملية متصلة لا تتوقف، بحيث تكفل للمجتمع الاستقرار في ظل ظروف أفضل للحياة الإنسانية، مهما يعترض المجتمع من مشكلات وعقبات، والتواصل بهذا المعنى يحقق التكافل بين الأجيال من خلال المحافظة على الموارد واستثمارها بالقدر الذي يحفظ حق الأجيال القادمة[9 ]. ومن هنا فإن خصائص التنمية التي تتوخها الوسطية الاقتصادية تتمثل في عدة أمور هي:
الإنسان أساس التنمية. إن محور التنمية هو الإنسان الذي يتحرك ويعمل وينتج ويتحمل ويبذل. والذي تؤكده كل الحقائق والتجارب أن أي إستراتيجية تنموية في أي اقتصاد لا تحقق النجاح، ولا تصل خططها إلى أهدافها وغاياتها،إلا باحترام الإنسان واحترام حريته وتوفير الضمانات له، ومنحه الثقة الكاملة، ومشاركته في المسئولية مشاركة فعالة. ويتميز الإسلام بأنه لا يجعل المادة مطلوبة لذاتها ولكن لفلاح الإنسانية وتعمير الأرض[10 ].
وثمة ملحظ هام يتعلق بأداء السياسات التنموية والاقتصادية، في بلداننا العربية والإسلامية، وهو غياب مشاركة الأفراد في صنع وتنفيذ هذه السياسات، فالعادة أن الحكومات تشرع في تنفيذ ما تراه من سياسات، سواء كانت من بنات أفكارها، أو من وحي المؤسسات الدولية، فيغيب عنها إيمان الأفراد بجدوى هذه السياسات. فإذا ما تمت مشاركة الأفراد في صنع هذه السياسات عبر مؤسسات المجتمع الأهلي، والمؤسسات الفنية المعنية، وجعل قضية التنمية، قضية جمعية تعبر عن طموحات وتطلعات المجتمع، فبلا شك، لن يكون هناك سياسة اقتصادية تؤتي مردودًا ثقافيا وسلوكيا سلبيا ينتهي بتبني منهجية العنف من أجل التغيير[11 ].
مراعاة احتياجات الفرد المادية والروحية، فبعض المذاهب الأخرى صرفت الإنسان عن المال والاقتصاد باعتباره عرض الحياة الدنيا، والبعض الآخر جعل من المال كل شيء، لتكون النظرة للحياة والكون وطبيعة العلاقة بين الناس على أسس مادية بحتة فجاء الإسلام ليحدث هذا التوازن بين الدنيا والآخرة: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” ( القصص : آية 77 ) واعتبر من مسألة الملكية صورًا متعددة تفي باحتياجات المجتمع وجعل من المال والملكية وظيفة اجتماعية.
مراعاة الموارد المتاحة والمحتملة، في ضوء احتياجات المجتمع الحالي، ووضع خطط للحفاظ على حق الأجيال القادمة من هذه الموارد. ويتطلب ذلك حصرا لموارد المجتمع وإمكاناته، وإعداد موازنات بين بدائلها وبدائل بعضها بعضا، ولعل أفضل مثال في هذا المجال المياه والطاقة.
ولعل موضوع تخصيص الموارد لصيق الصلة بهذا المحور، حيث يكون تخصيص الموارد بين العام والخاص بما يحقق مصلحة المجتمع ولا يعطل طاقته، فالأصل أن يقوم القطاع الخاص بتلبية احتياجات المجتمع ويساعد على ذلك بتخصيص ما يلزمه من موارد، إلا أن تكون هناك دواع تستلزم تدخل الدولة مثل عجز القطاع الخاص عن تلبية احتياجات المجتمع، أو أن تكون هناك حاجات للفقراء لا يلتفت إليها القطاع الخاص فتقوم الدولة بتلبية احتياجاتهم، أو أن تكون هناك دواع يتطلبها الأمن القومي.
أخذ البعد المكاني للتنمية في الاعتبار، فلا تفضل المدن على القرى والريف، ولكن الجميع سوء فالإنسان في القرى والريف له نفس حقوق الإنسان في المدن والحضر من توفير المياه النقية الصالحة للشرب، واستخدام الصرف الصحي الآمن، والطرق المعبدة، والتعليم المناسب. ورضي الله عن الفاروق عمر بن الخطاب الذي أثر عنه: “لو أن بغلة عثرت في العراق لسألني الله عنها لما لم تمهد لها الطريق يا عمر”.
الاعتماد على الذات، لابد أن ينصرف كل مجتمع بالدرجة الأولى إلى إشباع احتياجات أفراده من خلال موارده المتاحة وحسن توظيفها، ومن هنا تحدث فقهاؤنا عن فروض العين وفروض الكفاية في واجبات الأفراد من أصحاب المهن والتخصصات المختلفة تجاه احتياجات المجتمع، وفي هذا الأمر توظيف لكل إمكانات المجتمع وعدم تهميش قطاع أو أفراد، أو الاهتمام بحاجات فئة دون أخرى. فإن عجزت بالمجتمع الوسائل المحلية في تلبية احتياجاته خرج إلى مجتمعات أخرى في إطار من التعاون وتبادل المنافع. ويجب ألا يفهم أن هناك صراعا أو تضادا بين المجتمعات وبعضها بعضا أو هي دعوة للانغلاق على الذات، فهناك العديد من المبررات التي تدعو إلى التعاون وتبادل المنافع الاقتصادية وغيرها مع الآخر،ومنها[12 ]:
1. إن قصر التعاملات بين فئة معينة من الناس، وعدم انفتاحهم على غيرهم، تجعل مقدم الخدمة أو السلعة، في هذا المجتمع، كبر أو صغر، في وضع احتكاري. وتوفر له نوعا من الحماية من منافسة الآخرين، حتى لو كانوا أجود منه في الصنعة أو تقديم السلع والخدمات. وهذا الوضع يقتل في نفس المحتكر روح الإبداع والتطوير، ويبدد موارد المجتمع لصالح فئة معينة، ومن المعروف أن تبديد الموارد سمة من سمات التخلف في الاقتصاديات الدولية.
2. المسلمون مدعوون للمساهمة في حضارة العصر، وألا يكونوا مستوعبين من قبل هذه الحضارة، فهي تصوغ حاجاتهم وتحدد وسائل إشباع تلك الحاجات، ولكن الانفتاح على الآخر يجعل من المسلمين كأفراد وشعوب ومجتمعات، في وضع لإثبات الذات، والمشاركة الفعلية لا الحضور والمشاهدة.
3. إن الانفتاح على الآخر لا يتعارض مع الوحدة الإسلامية، بل هو دافع لها؛ إذ يجعل الانفتاح على الآخر من معايير المنافسة، دعوة للمجتمعات الإسلامية إلى إحداث تكامل بين مواردها المالية والمادية والبشرية، مما يقوي من موقفها التنافسي في الساحة الاقتصادية الدولية.
4. أن التجربة أثبتت أن سياسة الاكتفاء الذاتي غير ممكنة، وأن تكامل المجتمعات مع بعضها البعض هو الوضع الطبيعي، كما قلنا من قبل، في إطار نظرية المدافعة، ولكن هذا لا يعني أو ينفي سياسة الاعتماد على الذات، وبينهما فرق كبير. فالاعتماد على الذات فيه شحذ للهمم وتوظيف للطاقات، ولا يمنع من الاستفادة بإمكانيات الآخرين والانفتاح عليهم والتواصل معهم.
إذن تعتبر الوسطية الاقتصادية من أهم خصائص التنمية فيما يتعلق بالاستهلاك، ففي الوقت الذي لا يحرم فيه الإنسان من استهلاك الطيبات فإنه مأمور بعدم الإسراف والتبذير، يقول الحق تبارك وتعالى: “وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً”. (الإسراء: آية 29) ويقول أيضا: “وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً” (الإسراء: 26 و27).
عبد الحافظ الصاوي – باحث اقتصادي5>
[1]لمزيد من التفاصيل حول الصكوك الإسلامية واستخداماتها في البلدان الغربية والإسلامية، أنظر: د. فياض عبدالمنعم،” الصكوك الإسلامية والاجتهادات الشرعية” ورقة عمل مقدمة لمؤتمر رؤية جديدة للصكوك الإسلامية ، الكويت إبريل 2005.
[2] د. يوسف القرضاوى، الخصائص العامة للإسلام، مكتبة وهبة، الطبعة السادسة، القاهرة 2003 ، ص 119.
[3] الإمام محمد أبو زهرة، المجتمع الإنساني في الإسلام، دار الإخلاص للطباعة ، القاهرة 1986، ص 106.
[4] د. الصادق المهدى، ” يسألونك عن الوسطية “، جريدة الشرق الأوسط 2/5/2006 . تاريخ الزيارة 27/7/2008
[5] منى أبو الفضل : الوسطية مشروع لا موقف ، حوار للصحفين مصطفى عاشور وفاطمة حافظ مع الدكتور/ منى أبو الفضل على موقع إسلام أون لاين بتاريخ 8/7/2008. تاريخ الزيارة 1/8/2008
[6]مالك بن نبي، مشكلات الحضارة: المسلم في عالم الاقتصاد، دار الفكر المعاصر بيروت – دار الفكر دمشق ، الطبعة الثالثة 1987، ص 34.
[7]د. أختر زيتي بنت عبدالعزيز، المعاملات المالية المعاصرة واأثر نظرية الذرائع في تطبيقاها، دار الفكر العربي، دمشق الطبعة الاولي، 2008، ص 203 – 209.
[8] د. نهى محمد الخطيب، إدارة التنمية المستدامة في الفكر الإسلامي، ورقة عمل مقدمة لمؤتمر ” التنمية المستدامة في العالم الإسلامي في مواجهة تحديات العولمة”، القاهرة مايو 2008.
[9]د. نعمت مشهور، إدارة التنمية الاقتصادية، ورقة عمل مقدمة لمؤتمر، ” البحوث الإدارية من منظور الفكر الإداري العربي الإسلامي، التأصيل والتوظيفات المعاصرة، المنظمة العربية للتنمية الإدارية،القاهرة 2004، ص 256 – 257.
[10]د. محمد شوقي الفنجري، ذاتية السياسة الاقتصادية وأهمية الاقتصاد الإسلامي، إصدارات المجلس الأعلي للشئون الإسلامية، الطبعة الثانية، القاهرة 2007، ص 79.
[11] عبدالحافظ الصاوي، السياسات الاقتصادية الخاطئة ودورها في تفريخ التطرف والعنف، المركز العالمي للوسطية، تاريخ الزيارة 5/8/2008
[12]عبدالحافظ الصاوي، العلاقات الاقتصادية مع الآخر.. رؤية وسطية، المركز العالمي للوسطية. تاريخ الزيارة 5/8/2008