رسالة إلى أبي ..
أبي كلمة نُقشت في التاريخ… إن لم يكن في تاريخ الإنسانية، فهو في تاريخي أنا كجزء من هذه الإنسانية، ولعله تاريخ ضئيل ما تجاوز العقد الثاني إلا بصفحات، ولكن كلمة خالدة كهذه تستحق التسطير بها.. بل تاريخي هو من ازدان بمثل هذه الكلمة. كلمةٌ توجز لك معاني الحب والدفء والأبوة، كلمة لصيقة باسمي لأستوحي منها القوة والثبات، فإذا ما حرّكتُ بها شفتاي نطقتها بغير ما تنطق به الكلمات، أقولها: “أنا ابنة أبي”، فأشعر أني غارقة في بحر هذه الأبوة، “أبي” التي أحملها في تاريخي المتواضع ما لا يحمله غيري، فشتان بين حب تجبله الفطرة، وحب “تجبله” الفؤاد والفطرة، نعم يا “أبي”.. فأنا مجبولةٌ على حبك، مجبولة بكل ما أراه منك وما لا أراه، مجبولة بكلمة أنطقها فكيف بمن هو حقيقة “أبي”..!
أبي الحبيب..
ها هو قلمي قد انثنى وتذلَّل، لا يعرف سوى أن يطيش باسمك كيفما كان، تراه يبدي ويعير، ولكن تخذله الاستعارة أبدًا، فيظهر ما في قلبي ضئيلاً أمام حبك وحنانك الأعظم..
أرأيت يا “أبي” “للجبل” وقساوته؟ أرأيته كيف يصمد كيف يجلد؟..
أرأيته بحلته البيضاء تكسو رأسه فتخفي بياضًا آخر في سريرته؟..
أرأيته كيف يزداد ارتفاعًا فيزداد مهابةً؟ وهو مع مهابته ترتاح الناس لرؤيته..
أرأيته كيف يمد أياديه أسفل الوادي فيُلهم من حوله الثبات والحلم؟
أما وإني يا أبي قد رأيت أعجب من هذا.. رأيتكَ تجمع همَّ الجبال وهمَّ الأبوة، تلك الأبوة المضاعفة التي تحملها، فتحمل في قلبك مجموع ما نحمله جميعًا في قلوبنا؛ ولذلك ترانا نحيا بنبضك، وبجسور حبك أضحينا شبابًا تفتخر بهم، فإن مالك الشيء يعطي ما لا يعطيه فاقده.. بل إن حنانك لم يكن يومًا مُلكًا إنما هو مَلكة وخُلة، فإنه لو كان مُلكًا لانتهى حقيقةً، ولكنه لا ينتهي..
أبي الحبيب..
نَغَم الطفولة يسيغ لي دومًا التلذذ بالضحكِ والقفز حولك.. فاعذرني اليوم إن تمايلت طربًا بحبك.. واعذرني إن كانت الكلمات لم تفِ بالتعبير، فإن ما كان في القلب لا تستقطبه الشفاه، وإنما هي لغة القلوب فحسب..
والسلام على أغلى ما نظرتْ عيناي..
لا حرمني الله دفء النظر إليك..
ابنتك الحبيبة…
يمان أفندي – سوريا
النقد والتعليق:
الموضوع الذي كتبت حوله غاية في العذوبة والرقة والإنسانية، وهو من الموضوعات التي تتسرب إلى النفس بتؤدة وهدوء، فتؤثر فيها وتمتلكها ببساطة؛ لأنها تخاطب في النفس فطرتها النقية، وعواطفها الشفافة البريئة.. حب الأب والإفضاء إليه بهذه العاطفة.. قليل من يفعل ذلك.. قليل من يكتب لأبيه؛ فالأم في آدابنا تأخذ نصيبًا حقيقيًّا وافرًا من الأعمال.. ولكن الأب يقل الاهتمام به وبمناجاته، والحديث حوله في آدابنا، وهذا ليس في الأدب العربي فحسب، ولكن في الآداب العالمية -على قدر معرفتي-، والفتيات بصفة خاصة أميل إلى التعلق بآبائهم وحرارة عاطفتهم تجاههم.
كل هذا جميل وعذب ومحلق، لكن في العمل الذي بين أيدينا.. غلبت أفكارُك عاطفتَك يا يمان، فجاء العمل ينزع إلى الرؤية الفلسفية التأملية، لا غبار عليها، لكن المشكلة الحقيقية أن القصة التي تعتمد على التأمل والفلسفة تحتاج إلى قلم خبير وشخصية مجربة.. وعمر أكبر من عمرك يا (يمان)؛ لذا فقد جاءت القصة وبها قدر من اضطراب الأفكار، وتعقيد الصياغة، بما جعل القارئ يعاني -كثير معاناة- في استمتاعه بالقراءة وتواصله مع العمل؛ فالقلم في يديك لم يكن بانطلاقه وتدفقه الذي عهدناه في كتابتك السابقة؛ لأن العقل لم يساعده، وإنما وقف أمامه وعرقله عن مهمته، بينما نجد أن عاطفتك حين تسوق قلمك فإنه يتدفق وتنهمر منه الجمل والكلمات سلسة ورشيقة.
ولو راجعتِ مقدمة القصة حتى كلمة (القوة والثبات) فستشعرين أنها مقدمة عقلية ذهنية تقترب من المقال كثيرًا، ولو راجعت عملك في ضوء هذه الإشارة لوجدتِ أعمالاً كثيرة منطقية ومحكمة عقليًّا، لكنها لم تصف جديدًا.. “مالك الشيء يعطي ما لا يعطيه فاقده”، وهذه مسلّمة مثل أن “الشمس تشرق من الشرق”.. وجمل مثل “فشتان بين حب تجبله الفطرة وحب تجبله الفؤاد والقطرة..”، مجبولة بكل ما أراه منك ولا أراه.. مجبولة بكلمة أنطقها فكيف بمن هو حقيقة أبي..
فعذرًا يا يمان إن كنا أثقلنا، لكنني واثق أن هذا سيدفعك لمزيد من الاتفاق والحرفية، خاصة أن لديك جملاً وفقرات عذبة ورشيقة، منها صورة الجبل التي رسمتها في منتصف العمل، وكيف يجمع المتناقضات.. “المهابة” و”ارتياح الناس” وهذه إشارة رائعة للأب، وكذلك الدفء الذي شاع في آخر العمل في جملة (نغم الطفولة…).
فأنت قادرة -بإذن الله- على صنع الأعمال القيمة الراقية، فلا تقعي في ملف الاستسهال و”التسرع”، وعليك بالدأب والتأني..