قبل التعرف على سلامة موسى عاشت المنطقة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي حالة من عدم الاستقرار الفكري والسياسي والاجتماعي، حيث كانت المجتمعات العربية تحت وطأة الاستعمار الغربي، بينما كانت الدولة العثمانية في حالة إعياء وضعف شديدين.. وكانت قضية التحرر من الاستعمار والنهضة الشاملة من أهم الإشكالات التي واجهها المجتمع ومثقفو تلك الفترة، فتعددت في ذلك المشاريع والتوجهات.
وكان للمسيحيين العرب في تلك الفترة دور ملموس ، خاصة الشوام ممن رفعوا العقلانية والعلمانية كمحاولة للتخلص من الحكم العثماني الذي شهد في أواخر عهده حالة من التدهور الكبير، خاصة في مجال الحريات. وقد انتقل بعض هؤلاء المسيحيين إلى مصر، وأتاح لهم الاستعمار البريطاني سبل التعبير عن أفكارهم، من خلال المؤسسات الصحفية والكتابات، وهو ما أدى إلى ذيوع وانتشار تلك الأفكار، وتأثر بهذه الأفكار عدد من المصريين مسلمين ومسيحيين.
ومن أهم ما شهدته الساحة في تلك الفترة دعوات للعلمانية الراغبة في تحييد دور الدين في الحياة، ودعوات إلى إحياء القوميات والانتماءات القديمة مثل الفرعونية، ودعوات لتخلي مصر عن رابطتها الشرقية وتوجهها كليا صوب الغرب، وأخذها الحضارة الغربية بحلوها ومرها. وكان من أبرز الدعاة إلى ذلك سلامة موسى.
سلامة موسى.. المولد والنشأة
ولد سلامة موسى سنة (1304هـ=1887م) في قرية قرب مدينة الزقازيق بمصر، لأب قبطي يعمل موظفا بالحكومة، وسرعان ما توفى بعد عامين من مولد ابنه. والتحق الابن بمدرسة قبطية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية بالزقازيق حتى حصوله على الشهادة الابتدائية. انتقل بعد ذلك إلى القاهرة حيث التحق بالمدرسة التوفيقية ثم المدرسة الخديوية حتى حصل على شهادة البكالوريا (الثانوية) سنة (1321هـ=1903م).
وفي عام (1324 هـ=1906م) بدأت ملامح جديدة في شخصيته، وكما يقول هو: “بدأت أرسم خارطة حياتي سنة 1906م حيث ساء الوسط العائلي، ففررت إلى أوربا، وهناك شرعت أدرس اللغتين الفرنسية والإنجليزية وأقرأ من الكتب ما يشع النور في عقلي ويبعث الشجاعة في قلبي”.
الغرب.. وتكوين الفكر والملامح
سافر سلامة إلى فرنسا وقضى بها عاما اختلط فيه بأوساط المثقفين الفرنسيين، وتعرف على جريدة “الأومانينيه” التي كان يصدرها الحزب الاشتراكي الفرنسي، وأثار إعجابه الاهتمام الغربي بدراسة “علوم المصريات” الخاص بالحضارة الفرعونية.
عاد سلامة بعد ذلك إلى مصر وقضى بها عدة أشهر، ثم عاد مرة أخرى إلى فرنسا وقضى بها سنتين، وكانت سنواته تلك في فرنسا سنوات صدمة؛ إذ واجه الحضارة والأفكار الغربية في هذه السن الباكرة مواجهة كاملة خلقت عنده انبهارا كاملا بالغرب، سواء على المستوى الحضاري أو الفكري أو الاجتماعي، وقرأ سلامة خلال هاتين السنتين كتابات الاشتراكيين الفرنسيين، وتأثر بكبار المفكرين الفرنسيين خاصة “فولتير” فيلسوف الثورة الفرنسية، كما قرأ كتب “كارل ماركس” وعلى رأسها “رأس المال”.
وبعد سنواته تلك في باريس عاد إلى القاهرة وأصدر كتابه “مقدمة السوبر مان” سنة (1328 هـ=1910م) وكان كتابا يعبر عن حالة الانبهار بالحضارة الغربية، وتضمن بدايات لأفكاره التي تطورت بعد ذلك والتي ركزت على ضرورة الانتماء الكامل للغرب وقطع أي صلة تربط مصر بالشرق، وتضمن هجوما على فكرة الدين والإيمان بالغيب، إذ أورد فصلا في هذا الكتاب تحت عنوان “نشوء فكرة الله” اقتبسه من الكاتب الإنجليزي “جرانت ألين” ينطلق من أساس مادي لفهم الكون، واقتنع ببعض الأفكار العنصرية التي كانت سائدة في بعض الأوساط الغربية في تلك الفترة؛ حيث دعا إلى أن يتزوج المصريون من غربيات لتحسين نسلهم، وردد بعض المقولات العنصرية عن الزنوج والتي تعتبرهم من أكلة لحوم البشر.
ويبدو أن الأوضاع التي كانت تعيشها مصر في ظل الاحتلال البريطاني وحالة البؤس التي كانت منتشرة بين الكثير من المصريين انعكست عليه، وجعلته يربط ذلك بالقيم الدينية والتقاليد الموجودة في المجتمع، ورأى أن العادات والتقاليد والغيبيات هي التي خدرت الشعوب وجعلت أقدامها مغلولة “بقيود الآلهة والقديسين والرسل”.
وبعد سنواته الباريسية الثلاث انتقل إلى إنجلترا لدراسة الحقوق وقضى بها أربع سنوات، لكنه انصرف إلى القراءة بدلا من الدراسة، وانضم إلى “جمعية العقليين”، و”الجمعية الفابية” والتقى فيها بالفيلسوف الإنجليزي “برنارد شو” وتأثر به، كما التقى بـ”تشارلز داروين” وتأثر بنظريته في التطور التي أثارت الكثير من الجدل والانقسام على مستوى العالم.
بين الأحزاب والصحف
وبعد أن عاد إلى مصر أصدر أول كتاب عن الاشتراكية في العالم العربي سنة (1331هـ=1912م)، كما أصدر هو و”شبلي شميل” صحيفة أسبوعية اسمها “المستقبل” سنة (1914م) وأغلقت بعد ستة عشر عددا، وساهم هو والمؤرخ “محمد عبد الله عنان” في تأسيس “الحزب الاشتراكي المصري” سنة (1340هـ=1921م) وقد وقعت خلافات داخل هذا الحزب كان سلامة” أحد أطرافها بسبب نقده للثورة البلاشفية واتهامه لها بأنها أشاعت الخراب والدمار في روسيا، لكن سرعان ما انسحب سلامة” من الحزب الاشتراكي؛ لأنه لم يكن يرغب في أن يكون خاضعا لأية قيود تنظيمية، وكان يعتبر الحزب وسيلة لنشر أفكاره الاشتراكية، واعتزل الحياة السياسية، واكتفى بالنشاط الفكري، حيث رأس “مجلة الهلال” عام (1341 هـ=1923م) لمدة ست سنوات.
وفي سنة (1348 هـ=1930م) أسس “المجمع المصري للثقافة العلمية”، وأصدر مجلة أسماها “المجلة الجديدة” وكان يهدف من خلالها إلى تغليب الاتجاهات العلمية على الثقافة العربية، لكن حكومة “صدقي باشا” أغلقت المجمع، فقام سلامة” بتكوين “جمعية المصري للمصري” وتبنت هذه الجمعية مقاطعة البضائع الإنجليزية، مستلهمة في ذلك تجربة الزعيم الهندي “غاندي” .
أسس أفكاره ومنابتها
ساهمت عدة عوامل في تشكيل فكر سلامة موسى، منها تأثره ببعض بالأفكار التي تبناها بعض المسيحيين خاصة الشوام والتي عبرت عن رفض الدين والإغراق في المادية والانبهار بالنموذج الغربي، ومن أمثال هؤلاء “يعقوب صروف” و”فارس نمر” و”شبلي شميل”.
وكان تأثر سلامة موسى الأكبر بـ”شبلي شميل” المتوفى (1336هـ=1917م) ، وكان شميل أستاذا في الجامعة الأمريكية، ويعد من أوائل ممثلي الاتجاه المادي الإلحادي في العالم العربي، وكان يرى أن العلم هو الدين الجديد للبشرية، كما كان من أوائل الاشتراكيين العرب، ومن أوائل من دعوا إلى النظرية الداروينية المادية، بهدف التخلص من دور الدين في الحياة، وكان يرى أن الحقيقة تكمن في المادة.
كما تأثر سلامة موسى بـ”فرح أنطوان” المتوفى (1340هـ=1922م) صاحب مجلة (الجامعة) وهو ممن تأثروا كاملا بالحضارة الغربية وأفكارها، ويعد أول من كتب بالعربية عن الفلسفة البوذية والكونفوشيوسية وبعض أفكار الفلاسفة الأوربيين.
وكان لنظرية دارون أثر كبير أيضا في فكر سلامة. طرح “تشارلز داروين” نظريته في كتابيه “أصل الأنواع” و”أصل الإنسان”، ورأى أن الأنواع كلها تنحدر من أصل واحد من خلال قانوني: البقاء للأصلح، والتنازع من أجل البقاء. وساهمت هذه النظرية في تطور الفكر المادي في أوربا؛ لأنها استطاعت أن تقدم تفسيرات مادية لأصل الأنواع
وتأثر سلامة بمجموعة من الأفكار التي كانت سائدة في أوربا في ذلك الوقت ومن ذلك الفكر الاشتراكي خاصة الجمعية الفابية البريطانية، التي أسسها “سيدني ويب” سنة (1301 هـ=1884م)، وكان من أبرز أعضائها الفيلسوف “برنارد شو” وكانت تدعو إلى تحقيق الاشتراكية بالتدرج دون عنف أو ثورة، وتحولت فيما بعد إلى حزب العمال البريطاني.
وكذلك الأمر بالنسبة لأفكار “كارل ماركس”، ويقول سلامة في ذلك: “وأحب أن أعترف أنه ليس في العالم من تأثرت به وتربيت عليه مثل كارل ماركس، وكنت أتفادى اسمه خشية الاتهام بالشيوعية”، كما تأثر بأفكار مدرسة التحليل النفسي لـ”فرويد” ويقول في سيرته الذاتية “ولقد جمعت بين فرويد وماركس وخرجت منهما بأزكى الثمرات”، كما تأثر في أوربا بأجواء الحرية التي كانت سائدة والمظاهرات التي كانت ترفع لافتة “لا رب .. ولا سيد”.
كما تأثر سلامة” بأفكار “أحمد لطفي السيد” المتوفى (1383هـ=1963م) التي دعا فيها إلى تحديد مفهوم جديد للشخصية المصرية يستند إلى أساس يختلف عن الرابطة الشرقية والدينية، ويربط بين الجنسية والمنفعة، وكان أهم ما طرحه في هذا الشأن الدعوة إلى الفرعونية كأساس لانتماء المصريين، ودعا إلى اللغة العامية بدلا من اللغة العربية الفصحى وذلك لإنهاء الازدواج في اللغة عند المصريين.
أفكار.. ومعارك
كان للروافد الفكرية المتنوعة لسلامة موسى -وليس من بينها أي رافد عربي أو شرقي- أثر في فكره وما طرحه من رؤى، حيث عبرت أفكاره عن حالة انبهار كامل بالغرب، ولدت حالة من الرفض لكل ما هو شرقي، وكان من أهم ما دعا إليه:
– الاتجاه الكامل وغير المشروط للغرب:
حيث رأى ضرورة التخلص من الرابطة الشرقية والتحرر من كل قيود الدين والتراث، والأخذ بالحضارة الغربية بكل جوانبها، وترك كل ما هو شرقي دينيا وسياسيا واجتماعيا، وأعلن ذلك صراحة بقوله: “هذا هو مذهبي الذي أعمل له طوال حياتي؛ فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب، وفي كل ما أكتب أحاول أن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب، ويتنصلون من الشرق”.
ورسالة المثقف -في هذه الحالة من وجهة نظره- أن يوجه قراءه نحو الغرب لأن “الرابطة الشرقية سخافة، والرابطة الدينية وقاحة”، ومن ثم فالنهضة لن تتحقق إلا بالاتجاه الكامل لأوربا، وغرس قيم وعادات الرجل الأوربي في مجتمعاتنا.
– الرفض الكامل للدين:
اتخذ سلامة موسى موقفا مناهضا للدين، معتبرا إياه السبب الرئيسي في معاناة الشرق، بل رأى أن الخلاص من الاستعمار والطبقية لا يتأتى إلا من خلال التخلص من العبودية للخالق سبحانه وتعالى، والنهضة لا تتحقق إلا في إطار رفض الدين، لأنه -كما يقول- “ليس للإنسان في هذا الكون ما يعتمد عليه سوى عقله، وأن يأخذ الإنسان مصيره بيده ويتسلط على القدر بدلا من أن يخضع له”.
ويؤكد ذلك الدكتور “غالي شكري” -أحد أشد المتحمسين لسلامة- حيث يقول: “إن سلامة موسى كان يرى أن تحرير الطبقات المطحونة من العبودية الأولى، عبودية الوهم والخرافة، سوف يؤدي إلى تحرير تلك الفئات من العبودية الثانية، عبودية الاستغلال الطبقي، وظلت هذه الفكرة نقطة الانطلاق عند سلامة موسى في تكوين منهجه الفكري إلى النهاية، بأن راح في مختلف مؤلفاته يلح إلحاحا شديدا ومركزا على ضرورة الخلاص من أسر الفكر الغيبي”، ولذا فإن حل المسألة الاجتماعية لن يتأتى إلا بخلع الطبقات المطحونة لثوب الدين عن نفسها مرة واحدة.
ويبدو أن هذا الموقف المسبق من الدين ومن كل ما هو شرقي كان له الأثر البالغ في اقتناعه الكامل بنظرية التطور لداروين، معتبرا إياها مبدأ علميا وأخلاقيا يفسر ظهور الدين، ولذا اعتبر الدين خاضعا للتطور، ومن ثم فمصدر الدين بشري وليس إلهي، وأن صناعة الإنسان لظاهرة الدين منذ القبائل البدائية تطورت مع تعطش الإنسان لفكرة الدين، وبالتالي فالدين بشري المصدر ونفعي الغاية، ولم ير سلامة فرقا بين النبي والفيلسوف، فالفلاسفة والأدباء يؤدون نفس وظيفة النبي؛ فهم يطورون الفضائل في المجتمع، بل إنهم يوجدون قيما بديلة للقيم الدينية تكون غايتها المجتمع وترقية البشر إلى عصر جديد غير العصور التي نشأت فيها الأديان، لأن وجهة نظره ترى “أن الفلسفة دين”، ومفهوم الدين عنده واسع يشمل الكتب المقدسة وكتب الفلسفة والدراسات التاريخية وغيرها.
وقد بشر سلامة موسى بدين جديد يرفض الغيبيات، ويقوم على التوحيد الطبيعي بين المادة والقوة، وبين الله والكون، وبين العقل والجسم في وحدة مادية، وترتكز أفكاره على إحلال العلم محل الدين، فليس هناك مقدس في الدين لأنه صنعة البشر، وتخيل أن يُمارس البشر العبادة في معابد جديدة وحديثة وأنيقة مزينة بالرسومات التي توضح تدرج الحياة منذ الإنسان الأول حتى وقتنا الحاضر، حتى تلائم ديانة الإنسان القادم، وكان يقول: “ليس للحياة غاية إلا الحياة، وكل ما عدا الحياة إنما هي وسائل للحياة”.
ورغم هذا الموقف المناهض للدين فإننا نجده يرفض أفكار الفيلسوف الألماني “نيتشه” الذي مجّد القوة وادعى “موت الإله”، ودعا إلى عدم قراءة فلسفته وكتبه، وكان السبب في ذلك هو أن “نيتشه” شن حربا شعواء على السيد “المسيح” عليه السلام، وحتى لا يُتهم سلامة” بعاطفته نحو المسيحية رغم مناهضته لفكرة الدين، أكد أن “نيتشه” لم يجرد “المسيح” من الغيبيات، بل عاداه لتزعمه الضعفاء والمساكين وحبه لهم!
– الدعوة للغة العامية وتمصير الأدب:
نظرا لأن المنهج الفكري لسلامة موسى كان مناهضا لفكرة الدين، معتبرا إياه السبب في تخلف الشرق ورضوخه للاستبداد، فقد استتبع ذلك أن يتخذ موقفا مناهضا للغة العربية، حيث دعا إلى العامية بدلا من الفصحى وتوحيد لغة الكلام ولغة الكتابة، ودعا لكتابة اللغة العربية بالحرف اللاتيني لأن ذلك -كما يرى- “وثبة نحو المستقبل” مثلما فعل “مصطفى كمال أتاتورك” في تركيا، ففي كتابه “البلاغة العصرية واللغة العربية” طالب بأن تكون اللغة متطورة متمدينة تتسع للعلوم والفنون التي لم يعرفها العرب.
كما رأى أن اللغة العربية لا تخدم الأدب المصري ولا تنهض به، كما أنها تبخر الوطنية المصرية وتجعلها تذوب في وعاء القومية العربية؛ لأن من يتعمق في اللغة العربية الفصحى لا بد أن يشرب روح العرب وأبطالهم بدلا من أن يشرب الروح المصرية وأبطالها؛ ومن ثم فقد اقترنت الدعوة للعامية بالنزعة إلى الوطنية المصرية أو الفرعونية.
ويلاحظ أن تلك الفترة التي ظهرت فيها أفكار سلامة” الداعية إلى نبذ اللغة العربية كانت فترة تشهد هجوما كبيرا على اللغة، قاده عدد من المستشرقين مثل الإنجليزي “وليم ويلكوكس” الذي اعتبر اللغة الفصحى هي المصدر الأساسي لتخلف المصريين وأن دراستها مضيعة للوقت، وأن موتها محقق كما ماتت اللغة اللاتينية، وهي أفكار تلقفها بعض مثقفي تلك الفترة؛ فدافعوا عن العامية ليهدموا اللغة العربية، حيث إن اللغة هي وعاء الحضارة وتحطيم اللغة هو تحطيم للشخصية، والهجوم على اللغة بداية للهجوم على الهوية والانتماء وعوامل التماسك في المجتمع الشرقي.
كذلك اتخذ سلامة موسى موقفا سلبيا من الأدب والتراث العربي، فقد نقد الأدب المصري في تقليده الأدب العربي، وطالب أدباء مصر بالتعلم من أدباء أوربا التقدميين، مع الإقلال من الصنعة في الأدب، وتضمين الأدب الموضوعات الاجتماعية، وأصدر مجلته “المجلة الجديدة” بهدف تغليب الاتجاهات العلمية على الثقافة العربية.
رفض ونقد.. وانتقاد
كان للآراء الصادمة التي أعلنها سلامة موسى وأصر عليها أثرها في تعرضه لانتقادات واسعة، واتخاذ الكثيرين موقفا معاديا منه، فقد وصفه الأديب “مصطفى صادق الرافعي” بأنه “معاد للإسلام”، وكان الأديب “عباس محمود العقاد” من أشد منتقديه، فبعدما نشر سلامة” كتابه “البلاغة العصرية واللغة العربية” أكد أن سلامة موسى “أثبت شيئا هاما؛ هو أنه غير عربي” ثم قال عنه “إنه الكاتب الذي يكتب ليحقد، ويحقد ليكتب، ويدين بالمذاهب ليربح منها، ولا يتكلف لها الكلفة، في العمل أو في المال”، ثم قال: “إن العلماء يحسبونه على الأدباء والأدباء يحسبونه على العلماء، لهذا فهو المنبت الذي لا علماً قطع ولا أدباً أبقى” كما هاجمته “مجلة الرسالة” الأدبية الشهيرة، ووصفته بأنه الكاتب الذي يجيد اللاتينية أكثر من العربية، وهاجمه آخرون بأنه “صفحة يجب أن تطوى من تاريخنا الثقافي”.
كتب.. و”ثقافة”
كان سلامة موسى غزير التأليف متعدد الاتجاهات في الكتابة، وساعده على ذلك أنه ولج مجال الكتابة في سن مبكرة جدا، وهو في العشرين من عمره، كما أن إجادته للغات الأجنبية خاصة الإنجليزية والفرنسية أتاحت له الاطلاع على معارف متنوعة وثقافات مختلفة، وقد أصدر حوالي أربعين كتابا منها: “الاشتراكية” و”مقدمة السوبر مان” ، و”حرية العقل في مصر”، و”تربية سلامة موسى” الذي تناول فيه سيرته الذاتية، و”النهضة الأوربية”، و”الدنيا بعد ثلاثين عاما”، و”الحرية وأبطالها في التاريخ”، و”أحلام الفلاسفة”، و”المرأة ليست لعبة الرجل”، و”هؤلاء علموني”، كما أصدر عددا من المجلات، وكتب الكثير من المقالات، ويذكر للرجل أنه هو الذي أدخل كلمة ثقافة إلى اللغة العربية ترجمة لكلمة Culture، وتأثر في ذلك بالمدرسة الألمانية التي ربطت الثقافة بالأمور الذهنية.
في الميزان
كان فكر سلامة موسى معبرا عن عدم توازن وأحادية نظر، فبينما يبدي الرجل الانبهار الكامل بالغرب، يبدي تعصبا شديدا تجاه الشرق، وهذه الثنائية في التفكير التي وضعت الشرق في مقابل الغرب، كشفت عن نوع من الانهزام والاستسلام الحضاري والتنصل من الهوية، ومحاولة تكريس التبعية الكاملة للآخر، ولذا نستطيع أن نقول: إن نموذج النهضة الذي طرحه سلامة موسى كان يرتكز على التبعية للغرب وليس على بناء نموذج مستقل للنهضة في الشرق.
واختزال مشروع النهضة في التبعية للغرب فقط لا يعتبر إنجازا فكريا أو ثقافيا، بل هو انهزام نفسي وحضاري، واستبدال بقيود التقاليد التي تعوق النهضة في الشرق قيود الغرب في التبعية والاستعمار، وكلاهما مرفوض في مشاريع النهوض لأي أمة راغبة في التحرر والنهوض والعودة إلى الفعالية الحضارية.
لقد أثارت أفكاره صدمات جعلت الكثير ينفر من مشروعه الفكري، وهو ما فتح عليه جبهات متنوعة من الأعداء والمعارضين، مما جعل الصحف جميعها غير راغبة في نشر أي مقال له، وهو ما جعله صفحة من صفحات تاريخنا الثقافي التي مرت مرورا سريعا، ولم يفكر أحد في إعادة قراءتها مرة أخرى.
مصطفى عاشور5>
من مصادر الدراسة:
- سلامة موسى: تربية سلامة موسى- مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الثانية – 1958م.
- غالي شكري: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي- دار الآفاق الجديدة -بيروت- الطبعة الرابعة- 1983م.
- أحمد محمد جاد: فلسفة المشروع الحضاري بين الإحياء الإسلامي والتحديث الغربي -المعهد العالمي للفكر الإسلامي-القاهرة- الطبعة الأولى- 1995م.