بقلم – أيمن محمد الجندي

من المعلوم أن سورة الأنعام مكية وقد نزلت جملة واحدة -على أرجح الأقوال- وحولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح.

والواقع أن سياق السورة في تماسكه وتدافعه وتدفقه يوقع في القلب أن هذه السورة نهر يتدفق، بلا حواجز ولا فواصل.

هذا الموكب، وهذا الارتجاج، واضح ظلهما في هذه السورة، إنها هي ذاتها موكب ترتج له النفس والكون، زحمة من المواقف والمشاهد والإيقاعات تشبه مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة، ما تكاد الموجة تصل إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية ملاحقة لها، ومتشابكة معها في المجرى المتصل المتدفق، وفي كل موجة تبلغ حد “الروعة الباهرة بالإيقاع التصويري والتعبيري ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة”.

وهي نموذج كامل للقرآن المكي تمثل خصائصه ومنهجه مع احتفاظها “بشخصيتها” الخاصة؛ فلكل سورة شخصيتها، وملامحها، وطريقة عرضها لموضوعها الرئيسي.

إنها في جملتها تعرض “حقيقة الألوهية” في مجال الكون والحياة، والنفس والضمير، ومشاهد القيامة، ومواقف الخلق، وتطوف بالنفس البشرية في ملكوت السماوات والأرض، وتقف بها على مصارع الأمم الخالية، ثم تسبح بها في ظلمات البر والبحر.. حشد كوني يزحم أقطار النفس.. ثم إنها اللمسات المبدعة المحيية فإذا بكل مألوف من المشاهد والمشاعر، جديد نابض، كأنما تتلقاه النفس أول مرة.

قضية الألوهية والعبودية

هذه السورة تعالج قضية العقيدة الأساسية؛ قضية الألوهية والعبودية، تعريف العباد برب العباد.. من هو؟ ما مصدر هذا الوجود؟ من هم العباد؟ من جاء بهم إلى هذا الوجود؟ من يقلب أفئدتهم وأبصارهم؟ ولأي شيء خلقهم؟ هذه الحياة المنبثقة هنا وهناك.. من بثها في هذا الموات؟

هذا الماء الهاطل.. هذا البرعم النابغ.. هذا الحب المتراكب.. هذا النجم الثاقب.. هذا الصبح البازغ.. هذا الليل السادل.. هذا الفلك الدوار.. من وراء هذا كله؟

هكذا تطوف السورة بالقلب البشري في هذه الآفاق والأغوار على منهج القرآن المكي الذي يهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق؛ لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق، تعبيد ضمائرهم وأرواحهم، وتعبيد سعيهم وحركتهم، وتقاليدهم وشعائرهم لسلطان الله الذي لا سلطان لغيره.

ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد، فالله هو الخالق وهو الرازق وهو المالك، صاحب القدرة والجاه والسلطان، العليم بالغيوب والأسرار مقلب القلوب والأبصار، ولذلك يجب أن يكون الحاكم في حياة العباد.

تبدأ السورة بمواجهة المشركين الذين يتخذون مع الله آلهة أخرى، بينما دلائل التوحيد تحيط بهم في الآفاق وفي أنفسهم بحقيقة الألوهية متجلية في لمسات عريضة تشمل الوجود كله، وتشمل وجودهم كله في لمسات ثلاث على أقصى عمق واتساع:

{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:1: 3].

ثلاث آيات تذرع الوجود الكوني كله في الآية الأولى، وتذرع الوجود الإنساني كله في الآية الثانية، ثم تحيط الألوهية بالوجودين كليهما في الآية الثالثة.

وأمام هذا الوجود الكوني الشاهد بوحدة الخالق فيبدو شرك المشركين عجبا منكرا لا مكان له في نظام الكون، ولا سند له في القلب والعقل!

وفي هذه اللحظة تبدأ الموجة التالية تعرض موقف المكذبين مع التهديد بعرض مصارع الغابرين:

{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الأنعام:4،5].

ثم تبدأ موجة ثالثة في التعريف بحقيقة الألوهية، متجلية في ملكية الله سبحانه لما في السماوات وما في الأرض، ولما سكن بالليل والنهار:

{قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:12].

ثم تبدأ موجة رابعة تتحدث عن معرفة أهل الكتاب لهذا الكتاب الجديد الذي يكذب به المشركون وتوقف المشركين أمام مشهدهم يوم الحشر وهم يسألون عن شركائهم فينكرون الشرك ويذهب عنهم الافتراء:

{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27].

وتنتهي الموجة بتقرير خسارة المكذبين بلقاء الله، وتفاهة الحياة الدنيا إلى جانب الدار الآخرة المدخرة للذين يتقون.

ثم تبدأ موجة خامسة يلتفت فيها السياق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه ويسري عنه ما يحزنه من تكذيبهم له:
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].

وهكذا يمضي سياق السورة موجة في إثر موجة، يأخذ بالسامع ليوقفه أمام المشهد، وأمام المواقف يتدبرها بحركة تكاد الألفاظ تجسمها.

ولقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة، وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى خطواته في الدعوة، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.

ولم تكن هذه هي أيسر السبل إلى قلوب العرب الذين كانوا يعرفون من لغتهم أن معنى “لا إله إلا الله” هو نزع السلطان الذي يزاوله الكهان والحكام، ورده كله إلى الله، ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام.

لا قومية ولا اجتماعية ولا إصلاحية!

 

وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب واستخلاص أرضها المغتصبة من الرومان والفرس، ولو دعا هذه الدعوة لاستجابت له العرب على الأرجح، ولكن الله سبحانه لم يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه، إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله، وأن يحتمل هو والقلة المختارة كل هذا العناء؛ لأن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله، والناس عبيده وحده، ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة التي يتساوى فيها سائر الأجناس والألوان تحت راية الله.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة، قلة قليلة تملك المال والتجارة، وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع، كان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يرفعها راية اجتماعية، دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء!

ولو دعا هذه الدعوة لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة مع الدعوة الجديدة، في وجه طغيان المال والرئاسة، بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه “لا إله إلا الله”، لكن الله سبحانه لم يوجهه هذا التوجيه؛ لأنه يعلم أن العدالة الاجتماعية لابد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يرد الأمر كله لله، ويستقر في قلوب الجميع أنه ينفذ نظاما يرجو عليه خيري الدنيا والآخرة.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل، كان التظالم فاشيا، والخمر والميسر من مفاخره، والدعارة من معالمه.. وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، ولكن الله سبحانه لم يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا الطريق؛ لأنه كان يعلم أن هذا ليس الطريق؛ فالأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم، وبدونها تظل القيم كلها متأرجحة، وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك، بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء.

فلما تقررت العقيدة بعد الجهد الشاق وعرف الناس ربهم وعبدوه وحده تطهرت الأرض من الرومان والفرس، لا ليتقرر فيها سلطان العرب، ولكن ليتقرر فيها سلطان الله، وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي، وتطهرت النفوس والأخلاق؛ لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر خوفا من الله وحياء منه وطمعا في رضاه، وارتفعت البشرية في نظامها إلى قمة سامقة لم ترتفع إليها من قبل، ولقد تم هذا كله؛ لأن الذين أقاموا هذا الدين كانوا قد وعدوا وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا؛ ألا وهو الجنة.

وما كان هذا ليحدث لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية أو اجتماعية أو أخلاقية، أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد: “لا إله إلا الله”.

قاعدة الألوهية الواحدة

إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا؛ فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة، كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير، ومتى استقرت عقيدة “لا إله إلا الله” في الأعماق ستقر معها في الوقت نفسه النظام الذي ترتضيه النفوس واستسلمت له، فالاستسلام هو مقتضى الإيمان، وبه تلقت تشريعات الإسلام بالرضا والقبول، لا تعترض عليه ولا تتلكأ في تنفيذه، وهكذا أبطلت الخمر والربا والميسر، والعادات الجاهلية بآيات من القرآن، أو كلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما تجهد الحكومات الأرضية في شيء من هذا فلا تبلغ إلا الظاهر، بينما المجتمع يعج بالمنكرات.

وجانب آخر من طبيعة هذا الدين أنه عملي ليحكم الحياة في واقعها، فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا، إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض، ولابد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان ما يكفل تنفيذ النظام حتى يكون للشريعة جديتها.

والمسلمون في مكة لم يكن لهم حياة مستقلة ينظمونها بالشريعة، ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع، وإنما نزل لهم عقيدة، وخلقا منبثقا من هذه العقيدة، فلما صارت لهم دولة في المدينة تنزلت عليهم الشرائع التي تواجه حاجات المجتمع المسلم، ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة، ليختزنوها جاهزة، حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة، إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا، وإنما يواجه الواقع بملابساته.


طبيب وكاتب، للاستفسار والتعليق يمكنك التواصل معه عبر البريد الإلكتروني الخاص بالصفحة: [email protected]

*المادة منتقاة من جواهر تفسير ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله بتعليقات وإضافات من كاتب المقال.