في 31-12-2008 نوقشت في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة رسالة الدكتوراه المقدمة من الباحث السوري أحمد بشير قباوة والمعنونة بـ”دعوى القراءة المعاصرة للقرآن الكريم: دراسة تحليلية نقدية”، وذلك من خلال اختيار ثلاثة نماذج تمثيلية لهذه القراءة، وهم: شحرور وأبوزيد وأركون.
شهد الفكر العربي في عقوده الثلاثة الأخيرة بروز عدد من الظواهر المحدثة التي عبرت عن نفسها في هيئة مدارس وتيارات فكرية اتخذت من التراث الإسلامي مجالا أساسيا لعملها، حيث قامت بعملية مراجعة نقدية واسعة شملت كلا من نصوصه التأسيسية (القرآن والسنة) وتجلياته المعرفية ممثلة في العلوم الإسلامية التي انبنت على هذه النصوص.
وفي هذه الدراسة التي تم اختيار ثلاثة نماذج تمثيلية لها وهم: محمد أركون، محمد شحرور، نصر حامد أبو زيد. تشكلت هيئة مناقشة الرسالة من أ.د محمد إبراهيم شريف مشرفا، وعضوية كل من أ.د محمد عبد السلام أبو خزيم وأ.د السيد رزق الحجر، وقد ارتأت اللجنة منح الباحث درجة الامتياز في الشريعة مع مرتبة الشرف الأولى.
تاريخ دعوى القراءة المعاصرة
تسعى هذه الدراسة إلى مقاربة ما يسمى دعوى “القراءة المعاصرة” للقرآن الكريم، وذلك بالبحث في ماهية هذه القراءة، وكيف نشأت، والأسس الفكرية التي تستند إليها، والمناهج التي تعتمدها، من خلال اختيار ثلاثة أمثلة: شحرور وأبوزيد وأركون
وقد حرصت الدراسة أن تضع محاولات هؤلاء في إطارها الفكري والتاريخي، حيث أوضحت أنها تمثلت التجربة الغربية في نقد الدين والكتب المقدسة وطبقت مناهجها المعرفية، وهي بذلك تُعد امتدادا لها، حيث قامت باقتباس نظريات الغرب الفلسفية ومذاهبه الأدبية واتجاهاته الفكرية تحت اسم الحداثة والمعاصرة دون النظر لخصوصيات المجتمعات البشرية وتباين الظروف الفكرية والاجتماعية والسياسية، فكان في تطبيق تلك النظريات تشويه لها، وسبب في زيادة الخلط الفكري داخل مجتمعاتنا الإسلامية؛ لأن تلك النظريات لم تنضج بعد في منابتها، فلما حُملت من بيئتها وزُرعت في بيئة لا تناسبها فسدت وأفسدت.
وفي هذا الإطار تأتي هذه الدراسة باحثة عن حقيقة تلك القراءات، متسائلة عن مدى ملاءمة تلك المناهج والنظريات لتكون منظارا يُقرأ كتابُ الله من خلالها، حيث أرادت أن تجيب عن أسئلة ثلاثة:
- – كيف نظر دعاة القراءة المعاصرة لكتاب الله تعالى من حيث طبيعته ومحتواه؟
- – ما المناهج والقواعد التي حاول العصريون قراءة كتاب الله من خلالها؟
- – ما هو الموقف الإسلامي من هذه المناهج والقواعد؟
منهجية الدراسة
استند الباحث إلى منهاجية قائمة على جمع كلِّ ما استطاع الوصول إليه من قراءات اعتمدت هذه المناهجَ، وفي المرحلة التالية قام بتخير نماذج متنوعة بيئيًّا وفكريًّا، وبعد تحليلها كل على حدة صنفها باحثاً عن نقاطِ الالتقاءِ والاختلافِ بينهم؛ فحيث وجد بين بعضهم نقاطَ التقاءٍ، جمعها في سياقٍ فكريٍّ واحدٍ.
وقد اقتصر الباحث على إحصاء سياقين فكريين فقط: الأول يتعلق بالنظر إلى تاريخية القرآن الكريم “القراءة التاريخية”، والثاني يتعلق بالنظر إليه مجزأ ومقسما “القراءة التشطيرية”. وإذا كان البحث وصفيًّا تحليليًّا إلا أنه نحا منحى نقديا كذلك، حيث أخضع كثيرا من الأصول المنهجية لدعاة الحداثة للنقد.
وبرغم الميل النقدي للدراسة فقد حافظت على السياق الفكري لأعلام هذه الدراسة، بما يبرز الشخصية العلمية المميزة لكل منهم، وذلك بالتعبير عن أفكارهم بما يقترب من أسلوبهم إلى حد كبير؛ فحافظت على مصطلحاتهم، مع توضيحها وتعديل صياغتها بما يناسب البحث الأكاديمي، ولجأت في بعض المواضع إلى صياغة أفكارهم بأسلوبها الخاص، الخالي من مصطلحاتهم المعقدة مستهدفة تمكين القارئ من فهم أفكارهم ونظرياتهم ومدارسهم وامتلاك أساليبهم؛ للتمكن من قراءة كتبهم الأساسية فيما لو رجع إليها بشكل مباشر؛ كي لا يقوم بقطيعة أسلوبية بين أفكارهم وأساليبهم.
من جهة ثانية تجنبت الدراسة في مناقشة أفكار دعاة الحداثة كلام السلف وقواعد الأصول والتفسير، وذلك لأن الكثير من دعاة هذه القراءة لا يقرّ بحجية تلك القواعد والمناهج، ومن ثَمَّ فلن يُقام عليهم العذرُ من خلالها.
وقد اتبعت في مناقشة أفكارهم طرائق متعددة فمن ادعى الانطلاق من كتاب الله تعالى ذاته، ومما ورد في بعض الموضوعات من آيات (أبو زيد) ناقشته من خلال نص الآيات، كذلك من ادعى الاعتماد على معاجم اللغة ومبادئها ونظرياتها (شحرور) حاولت أن تلتقي معه في نفس الساحة، مقارعة إياه الحجة بالحجة، وأما من ادعى الانطلاق من مذاهب الغرب الحديثة وعلومه (أركون)، فقد حاولت مقاربة هذه العلوم والمناهج في أصلها المعرفي؛ للنظر في مدى صلاحيتها لقراءة كتاب الله تعالى أصلا.
القراءة الحداثية والقراءة المعاصرة
ومن النقاط التي حرص الباحث على أن يُجليها مسألة العلاقة ما بين القراءة الحداثية والقراءة المعاصرة، موضحا أن مفهوم القراءة المعاصرة يمكن أن يشتمل على قراءات سلفية معاصرة يقوم باحثون مسلمون جادون- ولعل أبرز هذه القراءات ما قام به سيد قطب في الظلال- وهي ليست حداثية، ومن هنا أشار إلى ضرورة التمييز بين قراءة معاصرة وقراءة أخرى حداثية؛ فالقراءة المعاصرة هي قراءة ضرورية للقرآن تأخذُ بعين الاعتبار أن يكون القرآن مفسرا للواقع وقادراً على التعامل مع معطياته الجديدة، لكنها في الوقت نفسه قراءة منضبطة بالمناهج التي اتفق عليها علماء التفسير.
أما القراءة الحداثية فهي قراءة تأخذ بالمناهج الغربية -وبخاصة اللسانية منها- وتنهج نهج المستشرقين ولا تنضبط بالمناهج المستقرة تاريخيًّا والمتفق عليها بين مفسري الأمة.
سمات القراءة المعاصرة
عبر الاطلاع المعمق على النتاج الفكري لدعاة القراءة المعاصرة استطاع الباحث أن يحدد سمتين أساسيتين تميزانه:
أولا: عدم تيسر الاستدلال على ما تريد من أفكارهم من خلال عناوين كتبهم، أو حتى من خلال عناوين الكثير من مباحثها وفصولها، مما يوجب قراءة كتاب كامل، بحثاً عن فكرة جزئية.
ثانيا: كثرة استخدام دعاة هذه القراءة للمصطلحات الغربية في التعبير عن أفكارهم، إلى درجة جعلت دراسة كتابات بعضهم مهمّة شاقّة مضنية، ويظهر هذا أكثر ما يظهر في كتابات أركون، الذي يُقر مترجمه هاشم صالح بمدى صعوبة قراءته بعبارة موجزة فيقول: “بدا لي من خلال تجربة السنوات العشر الماضيات، أنه لا يمكن للقارئ العربي أن يتوصل إلى فهم أركون، إن لم ننقل له مكتبة كاملة في الفكر الأوروبي المعاصر، هي مكتبة العلوم الإنسانية والاجتماعية”، ثم راح يُعدد العلوم التي يجب أن يطلع عليها القارئ العربي ثم قال: “هكذا نجد أنفسنا في حلقة مفرغة، فأركون يحيلنا إلى علوم الإنسان والمجتمع في أعلى ذراها وأكثر نقاطها تقدماً؛ لكي نفهم منهجيته وكيفية دراسته للتراث الإسلامي، وعلومُ الإنسان والمجتمع غيرُ متوافرة في لغتنا إلا لماماً ونذراً يسيراً”.
وأركون نفسه يشتكي من سوء فهم معاصريه له أو عدم فهمهم أصلاً، مما عرضه للاتهام في عقيدته، ولذا كان بين الفينة والأخرى يدعو قارئه للصبر وتحمل معاناة قراءته، وعدم الضجر والسآمة من تعقيد المصطلحات التي قد تبدو له “متعالمة أكثر مما يجب، أو متعجرفة، أو بلا جدوى”، هكذا وصفها صاحبها وصف الخبير بحقيقتها.
مفهوم العقل عند أركون
وإذا كان دعاة القراءة المعاصرة يفرطون في استخدامهم للمفاهيم والمصطلحات الغربية مع مراعاة الدقة، بحيث تماثل مدلولاتها المعجمية فإنهم في تعاملهم مع المفاهيم العربية لا يتحلون بنفس الدقة، ويؤولون المفاهيم تأويلا متعسفا، فأركون على سبيل المثال يميز بين العقل كمفهوم قرآني وبين مفهوم العقل كما شاع استخدامه لدى المسلمين (الاستخدام الإسلامي لمفهوم العقل)، ووفقا لأركون فإن القرآن استخدم مفهوم العقل ليشير إلى ما يثير الدهشة والإغراب لدى الإنسان دون أن يعني تمكن الإنسان من التفسير العقلي المنطقي؛ إذ دعوة القرآن المؤمنين هي للتفكر في السماء دون دعوتهم لأن يبحثوا أو يتعلموا دقائق التفاصيل والمشاهد الكونية.
ويمضي أركون إلى أن العقل لم يأخذ بعده الفلسفي المتعارف عليه عند المسلمين إلا بعد الاطلاع على الفلسفة اليونانية.
بنية الدراسة وفصولها
هذا وقد أتت الدراسة في ثلاثة أقسام: تمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة؛ الأول بحث في مضمون النص القرآني في القراءة المعاصرة بشقيها التشطيري والتاريخاني؛ حيث افتتح بمناقشة القراءة التشطيرية وناقش مفاهيمها الأساسية تعتمدها: الكتاب، الألوهية، النبوة، الربوبية، أم الكتاب وغيرها، وأوضحت فساد دعوى التمييز بين الألوهية والربوبية وأن القرآن هو كتاب الربوبية.
كذلك ناقشت الدراسة مضمون القرآن في القراءة التاريخية موضحة ما تراه هذه القراءة من الفرق بين الخطاب القرآني والنص القرآني، كما ناقشت رؤية القراءة التاريخية للتنظيمات السلوكية والحقائق الكونية في القرآن، ثم نظرتها لكلٍّ من العقل و العجيب المدهش والواقع في القرآن.
أما الباب الثاني فقد حمل عنوان “طبيعة النص القرآني في القراءة المعاصرة”، ودرس فيه أقسام المصحف لدى أصحاب القراءة التشطيرية وتعريف النص القرآني وبنياته وطبيعته الاختلافية لدى أنصار القراءة التاريخية.
على حين بحث الباب الثالث في أدوات القراءة المعاصرة للقرآن وقواعدها، ودرس فيها تفصيليا المناهج المعرفية التي يستخدمها أصحاب القراءة المعاصرة وناقش كيفية تطبيقها وحاول قياس أمانتهم العلمية في التطبيق، وبيّن موقف المفكرين المسلمين من هذه المناهج وتلك القراءة للقرآن الكريم، واختتم بمقارنة موجزة بين القراءة المعاصرة وتفسير السلف.
وانتهت الدراسة التي تناولت الأمثلة الثلاثة شحرور وأبوزيد وأركون، إلى أن دعاةَ هذه القراءة يعانونَ من مشكلةٍ تتجلى في أمرين متكاملين، وهما: مشكلةُ علاقةِ الذات بالآخر، ومشكلةُ المنهج، حيث تراهم يقفون من هذا الآخر موقفَ المستهلك العاجزِ عن المشاركةِ في صنعِ الحضارة؛ لفقدِهم الإحساسَ بقيمة الذات، وقد انعكس هذا في حالةِ التيهِ المنهجيِّ التي يعيشُها الكثيرُ منهم بسبب تناسيهم لمرجعيتِنا الفكرية، أمامَ كثرةِ المناهجِ والاتجاهاتِ التي تملأ الساحةَ الفكريةَ المعاصرةَ، فقضَوا حياتَهم لاهثين بحثاً عن منهجٍ يمتلكُ حلَّ مشكلاتِنا، ولعلَّ السببين يتداخلان، فبينما كانت مشكلتُنا مع الآخر ناتجةً عن هجرنا للمنهج الذي يغنينا عنه، فإن تشكيكَنا بالمناهج التي نمتلكها كان نتيجةً لموقفنِا من هذا الآخر>
وقد انعكس هذا الأمرُ على جهودِ هؤلاء المفكرين شحرور وأبوزيد وأركون في سعيهم لتحريرِ العقلِ العربي مما رأوه قيوداً مرهقةً، حيث رأوا أن تلك القيودِ تتمثلُ في نصوصِ الوحي المفارقةِ للإنتاجِ البشري، فسعَوا للتخفُفِّ منها، بالدعوةِ للاجتهاد المعاصر، أو تقديمِ العقل عليها، أو إلصاق صفة التاريخية بها، أو تضييق مجالها في حيِّزِ القرآن وإهمالِ السنة، إلى غير ذلك من مزاعم.
فاطمة حافظ5>