لما اقترب “بشامة بن عمرة” من الموت وهو شاعر جاهلي مجيد وزَّع ماله على أبنائه، فجاءه ابن أخته فحل الشعراء (زهير بن أبي سلمى) وقال: لو قَسَمْت لي من مالك فقال: والله يا ابن أختي، لقد قسمت لك أفضل ذلك وأجزله، فقال: وما هو؟ قال: شعري ورثتنيه دون أبنائي! ورحلة الشعر الجاهلي العربي طويلة موغلة..
والناس في بدايته مذاهب شتَّى، فمنهم من يقول: إنه وُجد من بدء الخليقة مع تعلم آدم الكلام!! ومنهم من يقول: إن بدايته كانت منذ مائتي عام قبل الإسلام (وهذا تاريخ أقدم ما ورد إلينا من أشعار)، والمنصفون على أن الشعر بدأ كأي تطور ورقي إنساني في وقت “ما” لا يمكن تحديده بدقة نظرًا لعوامل عديدة سنتحدث عنها فيما بعد، ثم تطور ونَمَا حتى وصل إلى ذروة فنية راقية فيما وصل إلينا من أعمال قبل الإسلام.. واستمرت رحلته بعد ذلك صعودًا وهبوطًا، تقدمًا وتقهقرًا.
والمشكلة التي تواجهنا عند التصدي لروائع الشعر الجاهلي تكمن في ضياع كثير من أشعار تلكم الفترة، ويرجع ذلك لعوامل عدة:
(1) الاعتماد على الرواية الشفهية للشعر، وهي بالطبع ليست أكثر الطرق أمانًا وحفظًا.
(2) ما جمع من الشعر الجاهلي، تم جمعه بداية من عصر الأمويين أي بعد 200 : 300 عامًا من تاريخ ورود الشعر إلينا، ولا شك أن ما نُسِي في هذه الفترة غير قليل.
(3) إعراض كثير من المسلمين عن الخوض في مسألة الشعر زهدًا أو خوفًا أو تقوى، ونستطيع أن نتفهم ذلك حين ندلف إلى أغراض الشعر، ونرى بعضًا مما فيها مما قد يصادم فكر من كره الجاهلية كلها وملابساتها وما تعلق بها من حلال أو حرام ومن ذلك الشعر.
(4) ويأتي العامل الأهم والأفدح وهو تعرض التراث الإسلامي لحملات شرسة من أعداء الحضارة الإسلامية: الشعوبية من جهة والتتر في مذبحتهم الشهيرة للمكتبة الإسلامية العامرة من جهة أخرى (يذكر أنهم حين عبروا نهر الفرات وضعوا كميات الكتب الهائلة التي حوتها مكتبة بغداد في النهر كي تعبر عليها خيولهم حتى تحول النهر سوادًا لأيام طوال)، مما أدى إلى دمار المخزون الثقافي الهائل الذي كانت تحويه عاصمة الخلافة العباسية آنذاك.
أغراض الشعر الجاهلي
أولاً: الوصف
لقد أحاط الشاعر الجاهلي في أوصافه بجميع مظاهر البيئة، فوصف كل ما يخطر على باله وما يتراءى أمامه من مولدات شعورية، فحين يصف “عميرة بن جُعل” ديار الحبيبة الداثرة يبدع فيقول:
قِفارٌ مَروراةٌ يَحَارُ بهـا القطـا
يظلّ بها السبعـان يعتركـان
يثيران من نسج التراب عليهما
قميصيـن أسماطًا ويرتديـان
وبالشَّرف الأعلى وحوش كأنها
على جانب الأرجاء عُوذُ هجان
فهذه الصورة الكلية الرائعة التي رسم فيها الشاعر كيف تحولت ديار نبضت بالحياة والحب وصبوة الشباب إلى ديار آوت الوحوش والسباع حتى أن الطيور تتوه فيها، وتلكم الضواري تصطرع والأتربة تتصاعد بينهما فتحيل المروج الخضراء قفارًا لا تعني إلا الموت والخراب، والخلفية الدرامية المفجعة لوحوش تشاهد الصراع وهي فوق الجبال، وقد بلغت لضخامتها مبالغ مذهلة.
ثانيًا: الغزل
وقد اختص الشاعر قصائد بعينها وأوقفها على الغزل وذكر النساء، وفي أحيان أخرى كان يجعل الغزل في مقدمة القصيدة بمثابة الموسيقى التمهيدية للأغنية، توقظ مشاعر المبدع والسامع فتلهب الأحاسيس، وتؤجج العواطف، ورغم السمة العامة للغزل وهو الغزل الصريح المكشوف الذي يسعى للغريزة أول ما يسعى، فإن المثير أن يعجب بعض الشعراء الصعاليك (الشنفرى) بحسن أدب المرأة وأخلاقها العالية فيصفونها:
“لقد أعجبتني لا سقوطًا قناعهـا * إذا ذكرت ولا بذات تلفت
كأن لها في الأرض نسيًا تقصه * على أمها وإن تكلمك تبلَّت
تبيت بُعيد النوم تهدي غبوقهـا * لجارتها إذا الهدية قلت
أميمة لا يخزى نثاهـا حليلهـا * إذا ذكر النسوان عفَّت وجلت
تحل بمنجـاة من اللـوم بيتهـا * إذا ما بيوت بالمذمة حلت]
فهو يعجبه فيها حرصها على حجابها أنها لا تلتفت في مشيتها لشدة أدبها، وهي من شدة نظرها في الأرض وخجلها كأن لها شيئًا مفقودًا تبحث عنه، وإذا تحدثت إلى غريب ضاع منها الكلام وتعثر، وإذا ما أجدب الخير أهدت طعامها لجاراتها؛ ولذا فزوجها يثق فيها ويفخر حين تُذكر نساء الحي، فالبيوت إذا ذمت لنسائها ينجو بيته من اللوم لجلال أدب زوجته.
ثالثـًا:الرثاء
وعاطفة الشاعر البدوية الفطرية كانت شديدة التوهج، فإن أحب هام وصرَّح وما عرف للصبر سبيلاً، وإن حزن فبكاء ونحيب حتى يملأ الدنيا عويلاً، وكلما جفت الدموع من عينيه استحثها لتسح وتفيض.
ومضرب المثل في الرثاء صخر أخو الخنساء الذي رثته أبياتًا، وبكته أدمعًا ودماءً، تقول الخنساء:
أعيني جـودا ولا تجمـدا ألا تبكيان لصخر الندى؟
ألا تبكيان الجريء الجميل؟ ألا تبكيان الفتى السيـدا؟
وهي ترجو (صخرًا) ألا يشعر بألم تجاه عينيها الذابلتين من البكاء وتلتمس لهما العذر:
ألا يا صخر إن بكَّيت عينـي لقد أضحكتني زمنًا طويـلاً
دَفَعْتُ بك الخطوب وأنت حي فمن ذا يدفع الخطب الجليلا؟
إذا قبح البكـاء علـى قتيـل رأيت بكاءك الحسن الجميلا
رابعًا: الفخر
كان الجاهلي إذا فخر فجر … هكذا قالوا…
فانتماء الجاهلي لعشيرته وعائلته أمر مقدس، وعوامل ذلك متعددة منها: طبيعة الحياة القاسية التي عاناها العربي مما جعله يعتصم بقوة أكبر منه ويتحد معها؛ ليتحصن من صراع الحياة البدائية المريرة، مما جعل عمرو بن كلثوم يقول بملء فيه:
وأنـا المنعمون إذا قدرنا وأنا المهلكون إذا أتينا
وأنـا الحاكمون بما أردنا وأنا النازلون بحيث شينا
وأنـا النازلـون بكل ثغـر يخاف النازلون به المنونا
ونشرب إن وردنا الماء صفوًا ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا
ألا لا يجلهن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا كذاك البحر نملؤه سفينًا
إذا بلغ الرضيع لنا فطامًا تخر له الجبابر ساجدينا
لنا الدنيا وما أمسى علينا ونبطش حين نبطش قادرينا
خامسًا: الهجاء
والهجاء المقذع في الشعر الجاهلي عندهم يزكم الأنوف، ويعشو العيون، ولكنَّ لهم هجاء طريفًا ومنه التهديد والوعيد بقول الشعر الذي تتناقله العرب، فيتأذى منه المهجو أكثر من التهديد بالقتل، وكان الهجاء سلاحًا ماضيًا في قلوب الأعداء فهم يخافون القوافي والأوزان أكثر من الرماح والسنان.
يقول مزرد بن ضرار:
فمن أرمه منها ببيت يَلُح به كشامة وجه، ليس للشام غاسلُ
كذاك جزائي في الهدى وإن أقل فلا البحر منزوح ولا الصوت صاحل
فهو يشبه قصيدته بالشام في الوجه لا يُتخلص منه، وهذا طبعه في الهدايا، وإن الشعر عنده لا ينفد كما أن البحر لا ينفد، والصوت لا يُبح ولا ينقطع.
والأدهى من ذلك أن كان غلام لخالد الذبياني يرعى الإبل فغصبها (آل ثوب) منه فرجع يبكي إلى سيده فذهب خالد إلى مزرد بن ضرار الذبياني، فقال: إني أضمن لك إبلك أن تُرد عليك بأعيانها وأنشأ هجاءً يقول:
فإن لم تردوها فإن سماعها
لكم أبدًا من باقيات القلائد
فيا آل ثوب إنما ظلم خالد
كنار اللظى لا خير في ظلم خالد
فما لبث (آل ثوب) أن ردوا الإبل قائلين:
لئن هجانا مزرد لقد هجتنا العرب أبد الدهر.
سادسًا: المدح
ومن رواده في الشعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى وكان لا يمدح إلا بالحق، وكذا النابغة الذبياني الذي تخصص في مدح العظماء والملوك راغبًا في العطاء السخي، ومنهم “الأعشى” وكان سكيرًا مغرمًا بالنساء لا يهمه من يمدح ما دام يعطيه، وقد أنفق كل ما أعطى على خمره ونسائه.
قال زهير في مدح حصن بن حذيفة:
وأبيض فياض يداه غمامـة على معتفيه ما تغب فواضـله
أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله ولكنه قد يهلك المال نائلــه
تراه إذا ما جئتـه متهلـلاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ومن طرائف أشعارهم شكوى النساء وحدة ألسنتهن – ويبدو أنها شكوى الأدباء والمفكرين والناس دومًا – فهذا الشنفرى الأزدي يرجع لبيته، وقد مات كلبا صيد كانا يقتنصان الطعام له فقال:
وأيقـن إذا ماتا بجـوع وخيبة وقال له الشيطان إنك عائـل
فطوَّف في أصحابه يستثيبهـم فآب وقد أكدت عليه المسائـل
إلى صبية مثل المغالي وخرمل رواد ومن شر النساء الخرامل
فقال لها: هل من طعـام فإننـي أذم إليك النـاس أمـك هابـل
فقالت: نعم هذا الطوي ومـاؤه ومحترق من حائل الجلد قاحل
تغشى يريد النوم فضل ردائـه فأعيا على العين الرقاد البلابل
فالشيطان يعيره بفقره وأصحابه لا يعطونه شيئًا ، فيعود إلى صبية ضعاف وزوجة سليطة اللسان فسألها الطعام وهو يشكو الناس لها.
فأجابته بغيظ وضيق: نعم لتأكل ماء البئر أمامك وجلدًا كان حذاءً قديمًا لك.. كله هنيئًا مريئًا.. فهرب صاحبنا إلى النوم عله يحل مشاكله في الأحلام، فصعب على عينه النوم وظل مؤرقًا وحيدًا..
سابعًا: المعلقات
وهي أعظم نتاج الشعر الجاهلي كتبها الفحول العظماء؛ وسميت كذلك لأنهم علقوها على جدران الكعبة، وقيل: لأنها كاللآلئ الثمينة بين باقي القصائد، وقيل غير ذلك وتتميز بطولها وجزالة ألفاظها وتماسك أفكارها.
ويعتقد د. علي الجندي أستاذ الأدب الجاهلي بجامعة القاهرة أن من أسباب خلود المعلقات أن كلاً منها تشبع غريزة من غرائز النفس البشرية..
فحب الجمال في معلقة امرئ القيس، الطموح وحب الظهور في معلقة طرفة، والتطلع للقيم في معلقة زهير، وحب البقاء والكفاح في الحياة عند لبيد، والشهامة والمروءة لدى عنترة، والتعالي وكبرياء المقاتل عند عمرو بن كلثوم، والغضب للشرف والكرامة في معلقة الحارث ابن حلزة.
والمعلقات كلها تبدأ بالحديث عن الأطلال وموكب الارتحال عدا ابن كلثوم الذي طلب الخمر كأنما يريد أن يذهل عن الوجود الذي سيطعنه بارتحال الحبيب، والعربي منذ الأزل ارتبط بأرضه ووطنه، فالمكان لديه أخ وأب وصاحبة، والارتحال يفرق بين قلوب إلى مدى لا يُعرف، والتأثر يكون أقوى إن كان للمكان ذكرى حلوة، ولا عجب إن فرَّج عن نفسه بالبكاء لعل الدموع تطفئ نار الوجد، والعجيب أنهم وإن اتفقوا في الفكرة إلا أن جانب الشعور لديهم كان مختلفًا؛ ولذا فقد تنوعت الصور واختلف التناول.
كلمة أخيرة
إن كثيرًا من السهام توجه إلى الشعر الجاهلي بداية من موضوع أصالته وانتحاله ودعوى أن الرواة قد ألَّفوا من عندياتهم شعرًا نسبوه إلى الجاهليين (وهذه قضية جديرة بإفرادها فيما بعد) ومرورًا بأن العاطفة عند شعراء هذا العصر كانت جافة أو مبتورة؛ لالتزامهم بحصر مشاعرهم داخل أقفاص من الأوزان والقوافي.
ونقول: إنه من الظلم أن نحكم على ثقافتهم وعصرهم بمقتضى ثقافة عصرنا، فإذا كنا نحب الآن “التكثيف” عاطفيًّا ولفظيًّا وشعوريًّا، فإن طبيعة عصرهم كانت بسيطة غير مركبة، فكانت الصحراء وكانت المراعي وكان الامتداد أمامهم يغلف مشاعرهم بشيء من “البساطة”، وإن شئنا “البداوة”، مما يجعلهم يعتمدون الإيقاع السريع الخاطف قاعدة لإبداعاتهم، وليس لديهم النفس الطويل الذي يركِّب عاطفة معقدة، وإنما جاءت مشاعرهم إبداعًا متأثرًا ببيئاتهم كلمع البرق، أو كرمية سهم، أو وثبة فرس..
وكذا المتلقي كان يحيا نفس ظروف المبدع لا يهتم بصنعة المبدع ولا حرفيته الفنية، ولكن اهتمامه الأول ببساطته وفطريته، ويدلل على ذلك ما نلحظه من غلبة الارتجالية على أعمالهم، حيث كان البعض يدفع قصيدته إلى المتلقين في جلسة قصيرة لا يتعداها.. مما كان له أثر في أن يصبح البيت الواحد كأنه جوهرة تلمع وتبرق لا أداة في منظومة متكاملة كما نكلفه الآن ونطلبه منه..
أحمد زين5>