قد يحمل الضباب للكثير منا ذكريات مؤلمة، فما أكثر حوادث السيارات والسفن والطائرات التي تحدث بسبب الضباب، وما أكثر المشاكل التي نجمت عن وجوده، مثل تعطل المصالح وتأخر المواعيد، وما أسوأ الكآبة التي يشعر بها المرء في الجو الضبابي الرطب رمادي اللون الذي يكسو معظم دول الشمال؛ حتى أن العاصمة البريطانية “لندن” قد أطلق عليها لقب “عاصمة الضباب”. لكن ماهي العلاقة بين الضباب وأزمة المياه؟
الطريف أن العلماء قد أثبتوا أن الضباب له علاقة بأزمة المياه ويمكن أن يكون مصدرًا فريدًا للماء الصالح للشرب، وأنه لم يتم الاستفادة منه بالقدر الكافي حتى الآن في العديد من مناطق العالم، فقد أثبتت الدراسات العلمية أن الضباب في أي مكان في العالم يحتوي على حوالي 0.05 إلى 3 جرامات من الماء لكل متر مكعّب من الهواء، وتجميع تلك القطرات يمكنها في أغلب الأحيان تزويد البشر بماء نظيف صالح للشرب بكميات كبيرة مدهشة للغاية.
ولندرك فعليا العلاقة بين الضباب وأزمة المياه، يجب أن نعرف كيف يتكون الضباب أولا. ينتج الضباب عندما يتقابل تيّاران من الهواء أحدهما أبرد من الآخر، أو إذا انساب هواء دافئ على سطح بارد، والبحر يمتلئ بالضّباب عادةً عندما تتقابل التيارات الباردة والدافئة. وهناك نوع آخر من الضباب ينتج عندما يفقد سطح الأرض الحرارة بسرعة (بالإشعاع) ومن ثمّ يبرد الهواء فيؤدي إلى تكثف البخار وتكون الضباب، ومن المعروف أن الضباب يتحرك أفقيا مع حركة الهواء.
ولقد تأكد العديد من العلماء أن هناك علاقة وطيدة بين الضباب وأزمة المياه، فالضباب مصدر غني متجدد للحصول على ما يكفي من الماء النظيف الصالح للشرب في العديد من المجتمعات في العالم النامي. وتقوم الآن مجموعة صغيرة من العلماء والباحثين بتطوير العديد من التقنيات لتجميع الماء من الضباب. وتؤكد تجاربهم أن تقنيات تجميع الماء من الضباب يحتمل أن تكون من أرخص وأسهل الحلول الملائمة والمحافظة على البيئة التي تساهم في حل مشاكل إمدادات المناطق النائية بالمياه.
عصر الضباب
وجمع الماء من الضباب أو ما يطلق عليه “عصر الضباب” ربما يمكن تشبيهه بمحاولة الإمساك بقبضة من الهواء، ولكن لحسن الحظ المهمة أسهل من ذلك بكثير؛ فالضباب يشترك مع المطر في بعض الصفات، وبالطبع يختلفان في بعض الصفات كحجم قطرات الماء والسرعة التي تتساقط بها هذه القطرات.
وتتراوح أقطار قطرات ماء المطر ما بين نصف مليمتر إلى خمسة مليمترات، وتسقط قطرات المطر نحو الأرض بسرعة تتراوح ما بين 2 إلى 9 أمتار بالثّانية الواحدة. أما قطرات ماء الضباب، فتتراوح ما بين واحد إلى 40 ميكرونًا في القطر (المليمتر الواحد يساوي ألف ميكرون)؛ ويتساقط الماء منها بسرعات تتراوح ما بين واحد إلى خمسة سنتيمترات بالثّانية الواحدة، ولذلك تتميز قطرات الماء المتواجدة في الضباب بصغر الحجم وبطء سرعة الترسيب، كما أنها تتحرك أفقيا على العكس من قطرات المطر، ولذلك يصعب تجميعها في إناء مثلا أسوة بمياه الأمطار.
ولذلك فكّر العلماء في تصميم طريقة حديثة لتجميع الماء من الضباب، وتميز التصميم النموذجي المقترح بأنه نظام تجميع عمودي، يتعامد تقريبا مع المسار السطحي الأفقي لقطرات ماء الضباب.
وتعتمد تقنية عصر الضباب على نموذج الأشجار الجامعة لماء الضباب، وهي تقنية تاريخية قديمة استُخدمت منذ وقت طويل في الجزء الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية؛ حيث كان يبني الناس الحوائط الطينية حول الأشجار لكي يجمعوا ماء الضباب الذي عَلُق بالأشجار، وكان يتم تجميع الماء من أسفل الأشجار.
ويوضّح “روبرت شيمينوير” مستشار مجموعة لأبحاث الضباب في كندا أن الناس في أيّ جزء قاحل من العالم كانوا وما زالوا يعتمدون على الأشجار التي تجمع ماء الضباب وتقطّره أسفلها، فيجمعها الناس باستخدام أغشية مصنوعة من الجلود أو القماش للحصول على الماء.
تقنية واقعية رائعة
ويرجع ظهور هذه الأفكار التطبيقية العملية إلى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حيث قدم الباحثون الشيليون مشروع بحث علمي لتجميع الضباب إلى وكالة حكومية كندية لتمويل هذا البحث، واتجهت الوكالة إلى العالم الكندي “شيمينوير” الذي كان يجرى أبحاثا خاصة بالضباب لتقييم هذا المشروع البحثي، وانبهر العالم الكندي بجدوى هذا المشروع والتقى الباحثين الشيليين وراجع المشروع المقترح للدراسة، وأقّر بأنّ هذه التقنية تقدم إمكانية رائعة واقعية لصحاري الشمال.
وقام “شيمينوير” وفريق من الباحثين الكنديين بزيارة إلى الجامعة الكاثوليكية بشيلي، للعمل سويا مع العلماء الشيليين، وبدءوا بتقييم المواقع وبناء صفوف من المصداتّ لتجميع الماء من الضباب.
وقامت مجموعة من العلماء بتجارب عديدة في “شيلي” بالاشتراك مع مجموعة من السكان المحليين محترفي تجميع ماء الضباب لفترة استمرت لعدّة عقود، ووجدوا أنّ المناطق الساحلية الشمالية للبلاد التي تتميز بشدة الجفاف تحصل على الكثير من الضباب، وأجروا أبحاثا عديدة في قرية ساحلية صغيرة تعتمد على صيد الأسماك في “شيلى” تسمى “تشانجانجو”.
وتم العديد من التجارب العلمية الرائدة في هذه القرية الصغيرة، وقام العلماء بالعديد من دراسات الجدوى لهذه التقنية الواعدة، حيث توجد بهذه القرية طبقات كبيرة من الغيوم المنخفضة الملاصقة للمحيط، وتدفع الرياح تلك الغيوم في اتجاه التلال الساحلية، وعندما تصطدم الغيوم بالتلالّ، يتكون الضباب، ويغطي الضباب قمم التلال أو يندفع بشدة إلى السفوح، ثم تستقر حركة الضباب في النهاية حتى تتلاشى تماما في المناطق الأكثر جفافا داخل البلاد.
وكان يُفقد الماء النقي النظيف الموجود في هذا الضباب الكثيف؛ نظرا لعدم وجود أي مصدات أو أشجار يمكنها تجميع قطرات الماء من الضباب، ولذلك بدأ الأهالي في التفكير في جمع الماء من الضباب الكثيف بتقنيات اصطناعية، اعتمادا على فكرة الأشجار المجمّعة للضباب السابق ذكرها.
وبمساعدة فريق من العلماء تم تصميم مصدات اصطناعية حديثة لتجميع الماء من الضباب باستخدام شبكات من البلاستيك التي تم نصبها بشكل عمودي على مسارات الضباب، وتم استعمال الماء المجمع بهذه الطريقة للاستهلاك الآدمي وفي الزراعة وفي إعادة تشجير المنطقة؛ حيث قامت الأشجار بالعمل نفسه التي تتميز به عادة، وجمعت الماء من الضباب بشكل طبيعي.. ووفر الماء المجمّع بهذه الطريقة زراعة أشجار جديدة وشجيرات ونباتات أخرى عديدة، وخلق حياة برية جديدة في المناطق الجافة. كما وفرت هذه التقنية ظهور جداول مياه صغيرة لأول مرة.
نتائج علمية و اقتصادية مشجعة
وأظهرت الدراسات نتائج علمية واقتصادية مشجعة للغاية، ولا سيما إذا تم بناء شبكات تجميع الماء من الضباب باستخدام المواد المحلية الرخيصة وإذا تم نصبها في المواقع الصحيحة، وتم تجميع كميات رائعة من الماء النظيف الصالح للشرب، وتمكن العلماء من جمع 3 لترات من الماء لكل متر مربع من الشبكة في اليوم.
وعندما تم استخدام الشبكات المجمعة للماء من الضباب والتي تتكون من 50 مصيدة جامعة للماء بمساحة 48 مترا مربعا لكل واحدة منها، كان المعدل اليومي حوالي 11 ألف لتر من الماء، وهذا الكم من الماء النقي النظيف يغطي احتياجات حوالي 330 فردًا من القرويّين.
وتوجد الآن مشاريع بحثية متقدمة وتمر بمراحل مختلفة من التطور في العديد من البلدان، مثل: جنوب أفريقيا، جمهورية الدومينيكان، إسرائيل، جزر الرأس الأخضر، جزر الكناري، ونيبال.
وهذه التقنية تحتاج إلى متخصصين لتحديد المواقع الصحيحة التي يمكن تجميع الماء منها. وللحصول على كميات كافية من الماء المُجمّع بهذه الطريقة يجب عليهم إجراء دراسات عملية، وقياس وتسجيل النتائج يوميا في المواقع الصالحة لذلك، وتتميز هذه التقنية بصلاحيتها للعمل في المناطق التي تتميز بالمناخ القاحل، كما يمكن استخدامها للحصول على ماء نقي صالح للشرب مباشرة.
وأهم ما يميز هذه التقنية هو إمكانية تنفيذها باستخدام مواد بسيطة زهيدة الثمن، وكل المكونات يمكن أن تتواجد في دول العالم الثالث النامية والفقيرة مثل القوائم الخشبية والقماش.. وتم تنفيذ هذه التقنية بنجاح في جنوب أفريقيا لتجميع الماء اللازم لسقاية طلبة مدرسة بها حوالي 200 طفل، ولم يكن بها مصدر للمياه من قبل.
ويتوقع “شيمينوير” العديد من الإمكانيات المستقبلية لماء الضباب، ويعتقد أنه سيصبح عما قريب قيد الاستعمال والتطبيق في الدول النامية؛ نظرا للحاجة الشديدة للماء للنمو المطرد في أعداد السكان، ولنضوب مصادر المياه الجوفية في بعض البلدان.
طارق قابيل – باحث في جامعة كليمسون بالولايات المتحدة5>