عندما تُذكَر كلمة أقلية فسرعان ما يتطرق للذهن الأقلية العددية، أو تلك الفئة المستضعفة، أو مجموعة قد هُضم حقها لسبب أو آخر، غير أن للأقلية مفهومًا آخر يرتبط معياره بالحقوق التي يكفلها الشرع والقانون، وبمدى تطبيقها وممارسة الأفراد لها، ومن ثم فمن الممكن أن نجد الغالبية العظمى من البشر في شعب من الشعوب أو دولة من الدول تعيش محرومة من حقوقها، وهنا ينطبق عليها لفظ أقلية؛ رغم كثرتها العددية.

اتضح ذلك المفهوم وغيره من خلال الندوة التي أقامها موقع “إسلام أون لاين.نت” واستضاف فيها كلا من: الدكتور صلاح الدين سلطان، الأستاذ المساعد للفقه الإسلامي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، ورئيس الجامعة الإسلامية الأمريكية،فضيلة الشيخ حسين حلاوة، عضو المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء. الدكتور عطية فياض، الأستاذ المساعد للفقه المقارن بكلية الشريعة جامعة الأزهر.

وحضرها لفيف من الباحثين والمحررين من أقسام الموقع المختلفة.

وقد قام بالإعداد للندوة والتقديم لها الأستاذ محمد عبد اللطيف البنا، الباحث الشرعي بالموقع.

فقه الأقليات ليس للقلة !

افتتح الحديث في الندوة الأستاذ الدكتور صلاح سلطان، فبدأ بتعريف مصطلح الفقه في اللغة والاصطلاح.

وتحدث عن مسئولية أهل العلم والفتوى وما ينبغي أن يكونوا عليه من آداب وأخلاق.

ثم عرج بعد ذلك على ما ينبغي أن يكون عليه الفهم الصحيح لمصطلح الأقليات، وأن المقصود به ليس القلة العددية، بقدر ما يعبَّر به عن ضياع الحقوق السياسية والمدنية لأناس بأعينهم.

كما أوضح أنه بهذا المفهوم يغدو كثير من المسلمين أقلية مستضعفة في بلادهم رغم كونهم كثرة عددية، وضرب أمثلة على ذلك من بلاد متفرقة.

ثم بيّن بعد ذلك أن للاستضعاف فقها لا بد أن يختلف عن فقه التمكين، وقد اتضحت أحكام كل من النوعين على حدة في العهدين المكي والمدني، وذكر -تأييدًا لذلك- مثلَين يعبران عن مظاهر التطبيق لكل منهما، هما مقتل سمية رضي الله عنها في مكة وطعنها في موطن عفتها، والمرأة المسلمة التي كُشفت عورتها في سوق بني قينقاع، ورد فعل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في كلا الحادثتين.

فقه له أولوياته وضوابطه

ثم بدأ الدكتور صلاح سلطان في تحديد الأولويات التي يجب أن يتناولها فقه الأقليات ويجعلها من صلب اهتمامه، فذكر أن أولى تلك الأولويات وأهمها الدعوة إلى التوطين في تلك البلاد، وناقش الأزمات التي يحدثها تعميم الفتاوى التي ترى حرمة الإقامة والتوطين في تلك البلاد.

وقرر أنه يرى أن إقامة بعض المسلمين في الغرب تعد واجبًا عينيًّا على الأمة، وعرض أسباب ذلك وأدلته وناقش المخالفين.

ثم تحدث عن بعض الآفات التي أصابت فهم المسلمين في الغرب، وذكر بعض مظاهرها.

كما حدد باختصار بعض أدوار ومسئوليات المسلمين في الغرب.

ثم قام ببيان الضوابط المنهجية التي يجب أن يتبعها مَن يتعرض لفقه الأقليات ويفتي لهم، وكذلك لمن يطلبون الفتوى، وأهمها الصدق مع الله ومع النفس، وتجنب الاضطرار الكاذب، ومراعاة القضايا التي تعم بها البلوى، واعتماد الاجتهاد الإصلاحي لا التسويغي.

وفي هذا الصدد أشاد بورع المجلس الأوربي للإفتاء، وتنزهه عن التسرع في إصدار الفتاوى، وحرصه على التمحيص والدراسة قبل إصدار فتاواه.

إلا أنه تأسف على أننا قد ابتلينا -سواء في بلادنا أم في بلاد الغرب- بنوعين من العلماء والمفتين: نوع يفتي بغير علم لافتقاده الحُجَّة الشرعية، ونوع يفتي بالهوى لافتقاده الخشية القلبية.

وأكد على أن استنهاض الأمة الآن لن يتم إلا بالتقاء السلطة السياسية بالسلطة الشرعية، كما تم تاريخيًّا قبيل انتصار المسلمين على التتار.

فقه إصلاحي لا تسويغي

وعبّر الدكتور صلاح عن كراهيته ورفضه للفتاوى التسويغية، مؤكدًا احتياجنا لاجتهاد إصلاحي لا تسويغي يقدم المبررات والرخص غير المعتبرة.

وفي هذا الصدد أبرز أهمية فقه الواقع والعلم به في تدعيم عناصر القوة للمسلمين في الغرب ومواجهة عناصر الضعف.

وقد أكد على أن التهديدات الداخلية التي تمثلها الآفات المستشرية في المسلمين في الغرب أقوى بكثير مما يتهددهم من الحكومات الغربية.

وشدد على أن فقه الأقليات ليس مرادفًا لفقه الترخص، وإنما هو يراعي كلاًّ من فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات وفقه الأولويات، بالإضافة إلى فقه المآلات.

وبيَّن أن أخطر ما يحدث للمسلمين في الغرب -من وجهة نظره- عدم وجود مؤسسات تأهيلية للدعاة الموفَدين تبصرهم بقضايا المجتمع الذي يوفَدون إليه وتحدياته وفقه الواقع المعيش.

وأكد أن فقه التيسير لا يعني فقه الترخص والابتذال، ولا يعني التنازل عن الثوابت التي وضعها الإسلام، وتعارفت عليها الأمة.

وأوضح أن هناك فرقًا بين المجاهدة والتنطع، يجب أن ينتبه إليه المسلم في علاقته بالله عز وجل والمجتمع من حوله.

المؤسسات وصناعة المستقبل

وأوضح الدكتور صلاح أن المسلمين في الغرب قطعوا شوطًا في بناء المؤسسات، ولكنهم ما زالوا يحتاجون إلى بناء الرجال، وأن هذا يجب أن يوضع ضمن أولويات المرحلة القادمة.

وحدد الأولوية الثانية التي يجب أن يراعيها فقه الأقليات، وهي إحياء الوقف الإسلامي في الغرب، فإهماله يعرض الأقليات المسلمة في الغرب لخطر كبير، مبرزًا ما يقوم به أصحاب الديانات الأخرى في الغرب من جهود في هذا الصدد بما يخدم مصالحهم.

أما الأولوية الثالثة لفقه الأقليات -حسبما يرى- فهي إنشاء المؤسسات الإعلامية والاقتصادية، التي هي -من وجهة نظره- أولى من المساجد؛ لأن المسلمين في أي مكان لن يعدموا مكانًا يصلون فيه.

ومن الأولويات أيضًا التي رتبها الدكتور صلاح للمسلمين في الغرب أن يتبنى أبناء البلد أنفسهم صناعة الدعاة المتمرسين المتميزين بالحجة الشرعية والخشية القلبية، والصبر على تربيتهم وإعدادهم.

وآخر أولوية ذكرها هي بناء المؤسسات التعليمية، وإنشاء المناهج، وإعداد المعلمين للخروج من أسر المؤسسات التعليمية الغربية التي تبث قيمًا فاسدة، لا تساعد -بل تهدم- في البناء التربوي للمسلمين هناك.

فالغرب -بحسب الدكتور صلاح- يتبنى مع المسلم إحدى سياستين: إما أن يقتَل أو يُفتَن، وضرب أمثلة لذلك وبين مظاهره، مبينًا كيفية المواجهة.

واختتم حديثه بذكر أسماء بعض المؤلفات والدراسات العالمية التي تناولت فقه الأقليات في مختلف البلدان.

وبشر الحاضرين بعزمه على إنشاء مركز لفقه الأقليات المسلمة.

تساؤلات وتعقيبات

وبعدما أنهى الدكتور صلاح سلطان حديثه، أعطيت الكلمة للدكتور عطية فياض الذي طرح عدة تساؤلات للنقاش حول فهم مصطلح الفقه وعودته لدائرته الأصلية، وحول تحديد مجالات فقه الاستضعاف، وخشيته من دعوة البعض اعتبار العصر الحالي عودةً إلى عصر المرحلة المكية وفقهها، وسلبيات ذلك وأثره على الشريعة.

ثم تساءل حول تأصيل فقه الأقليات، وأيهما أولى: الإصلاح الداخلي في بلاد المسلمين أم تقوية وضعهم في الخارج.

ثم وجه الحديث للشيخ حسين حلاوة مناشدًا إياه الاهتمام بالجانب الإعلامي لإبراز جهود المجلس، ودعم ثقة المسلمين فيه، وتقوية مصداقيته لدى المسلمين في أوربا.

وعقَّب الدكتور صلاح سلطان على تساؤلات الدكتور عطية، فعلق على التساؤل الأول بأنه من الممكن توسيع مدلول مصطلح الفقه حسب الاحتياج العلمي، وأشار إلى مرونة المصطلح، وأوصى بقراءة كتاب الدكتور محمد عمارة حول مصطلحات الفكر الإسلامي.

ونفى تمامًا أن يكون من بين الفقهاء من يرى أن فقه الاستضعاف يعني العودة للحالة المكية، وإنما هو عندهم يعني التعامل مع الواقع وتقديره بقدره، وعدم تجاوز المساحات المشروعة.

وأيد دعوة الدكتور عطية لتأصيل فقه الأقليات، وأكد ارتباطه بفقه الضرورات، وضرب أمثلة لبعض التجاوزات التي تحدث للثوابت، وأهمية رفضها مطلقًا. وفي المقابل ضرب أمثلة أخرى لمشكلات يقدم فقه الأقليات حلولاً لها دون تجاوز للثوابت، اعتمادًا على اجتهادات قديمة أو حديثة.

أما عن الموازنة بين إصلاح الداخل وتقوية الخارج، فبيَّن أنه يرى ألا مناص من تقوية وضع المسلمين في الغرب، انطلاقًا من رسالة المسلم في هداية الناس إلى طريق الحق والخير، وأهمية أن يسير المساران في اتجاه متوازٍ.

المسلمون ليسوا قلة

وفي نهاية الندوة تحدث فضيلة الشيخ حسين حلاوة، فأكد أن المسلمين ليسوا قلة في أوربا، بل إن بعضهم يشكَّل دولاً بأكملها، كألبانيا والبوسنة والهرسك، وأكد حرص المجلس على عدم التنازل عن ثوابت الأمة، ووافق الدكتور صلاح فيما قال من تعقيبات حول تساؤلات الدكتور عطية.

وعقَّب على ما أشار إليه الدكتور عطية فياض من ضعف اهتمام المجلس بالجانب الإعلامي، فقرر أن هذه حقيقة، معللاً إياها بأن الإعلام ينتقي ما ينشره، ووعد بالاجتهاد في هذا الجانب، ومخاطبة وسائل الإعلام، إلا أنه أشار إلى بعض الجهد الإعلامي الذي يقوم به المجلس، مثل تعاونه مع موقع “إسلام أون لاين.نت” في نشر البحوث والفتاوى، كما أن للمجلس صفحة خاصة على شبكة الإنترنت، يتم خلالها نشر الفتاوى والبحوث الصادرة منه، كما قام المجلس أيضًا بإصدار 3 مجلات بحثية. وأوضح أن هناك العديد من رسائل الماجستير والدكتوراة في العالم نوقشت حول المجلس.

إعداد: فتحي عبد الستار– 23/08/2003