بسم الله ،والحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله ،وبعد:
ليس صحيحا ما يزعمه البعض من كون عمل البنك في أخذ القروض من الناس ،وتحديد نسبة ربح سلفا من عمل المرابحة المباحة شرعا ، والبنك أمين ، والأمين ليس بضامن إلا إذا قصر، وإذا اشترط ضمان مال المضاربة بطلت المضاربة، فالمضاربة فيها احتمال الكسب والخسارة ، واشتراط الكسب دون الخسارة لا يجوز.
يقول الشيخ القرضاوي :
من التبريرات الغريبة والعجيبة لفوائد البنوك الربوية: ما حاوله بعض المسئولين في البنوك الربوية من تصوير عمل هذه البنوك على أنه (مضاربة شرعية) .أي أن البنك يأخذ المال من العملاء باعتباره مضاربًا، وهم أرباب مال، ثم يعطيه لعملاء آخرين بوصفه هو رب مال، وهم مضاربون.
وهذا التكييف أو التصوير غير أمين ولا صحيح، كما أكد ذلك كل أساتذة الاقتصاد والمالية مثل د.عبد الحميد الغزالي، ود.أحمد النجار، والأستاذ أحمد زندو محافظ البنك المركزي الأسبق، وهو مخالف تمامًا لطبيعة عقد المضاربة الذي يقتضي أن يكون المضارب أمينًا على ما بيده من المال . فيده عليه يد أمانة لا يد ضمان، ولا يضمن إلا إذا تعدى أو خان أو فرَّط.
وإذا شُرِطَ على المضارب أن يضمن مال المضاربة، فسد عقد المضاربة وفقد شرعيته.
ومما لا نزاع فيه أن البنك ضامن للمال الذي يقبضه فكيف يكون أمينا وضامنا في الوقت ذاته ؟.
كما أن عقد المضاربة الشرعي يقتضي كذلك اشتراك الطرفين في المغنم والمغرم – أي الربح والخسارة – ولا ينفرد أحدهما بربح مضمون، ومال معلوم، على حساب الطرف الأخر.
فالمطلوب إذن أن يكون نصيب كل منهما من الربح جزءًا شائعًا، أي نسبة مئوية مثلاً، واستدل الفقهاء لذلك بما فعله النبي – ﷺ – في مزارعته لأهل خيبر على جزء شائع مما يخرج من الأرض . قالوا: والمضاربة في معنى المزارعة، وكان لها حكمها.
وأي ضمان في المضاربة لمقدار معلوم من المال لرب المال أو للمضارب يفسد المضاربة وينقلها من دائرة الحل إلى دائرة الحرمة، ويخرجها من طبيعة التعامل الإسلامي الذي يجعل نماء المال عن طريق الجهد أو المخاطرة، إلى التعامل الربوي الذي يضمن لصاحب المال قدرًا من الكسب وإن لم يعمل، ولم يشارك.
وهذا ما أجمع عليه الفقهاء من كل المذاهب، كما يقول الأئمة الثقات.
يقول العلامة ابن قدامة في المغني (شارحًا كلام الخرقي) (ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم) قال ابن قدامة: وجملته: أنه متى جعل نصيب أحد الشركاء دراهم معلومة، أو جعل مع نصيبه دراهم، مثل أن يشترط لنفسه جزءًا و عشرة دراهم بطلت الشركة.
قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ منه من أهل العلم على إبطال القراض (أي المضاربة) إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة.
ومما حفظنا عنه :مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور، وأصحاب الرأي (يعني أبا حنيفة وأصحابه). والجواب فيما لو قال: لك نصف الربح إلا عشرة دراهم، أو نصف الربح وعشرة دراهم كالجواب فيما إذا شرط دراهم مفردة.
قال: وإنما لم يصح ذلك لمعنيين:.
أحدهما: أنه إذا اشترط دراهم معلومة، احتمل ألا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح . واحتمل ألا يربحها، فيأخذ من رأس المال جزءًا، وقد يربح كثيرًا، فيضار من شرطت له الدراهم.
والثاني: أن حصة العامل ينبغي أن تكون معلومة بالأجزاء أي بالنسبة لما تعذر كونها معلومة بالقدر: فإذا جهلت الأجزاء فسدت، كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلومًا به، ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة ربما توانى في طلب الربح، لعدم فائدته فيه، وحصول نفعه بغيره، بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح.(المغني لابن قدامة -ج5 ص34 ط المنار الثالث)
وقد وجدنا من بعض علماء العصر من يزعم أن هذا الإجماع لا يعدو أن يكون مجرد اجتهاد فقهي ليس عليه دليل من كتاب أو سنة ، وكان ينبغي على هؤلاء العلماء أن يعلموا أن هذا الإجماع لا يمكن أن يصدر من فراغ، فعلماء الأمة لا يمكن أن يجتمعوا على ضلالة، أي على رأي لا سند له من نص أو قاعدة.
ولقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية بحق :أن كل إجماع ثابت عن علماء السلف، لا بد أن يكون مستندًا إلى نصوص الشرع، وإن خفي ذلك على بعض الناس ممن قصر باعهم في الإحاطة بالنصوص.
وهذا واضح في موضوعنا، فما نقله الإمام ابن المنذر من الإجماع على المنع من تحديد مبلغ معين من المال لأحد الطرفين في القراض (المضاربة) وحكاه ابن قدامة في المغني ليس من الرأي المجرد للفقهاء، بل هو مبنى على أصل شرعي منصوص عليه في موضوع مشابه تمامًا، وهو المزارعة.
قال العلامة ابن تيمية (الجد) في كتابه (منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار):
باب فساد العقد: إذا شرط أحدهما لنفسه التبن، أو بقعة بعينها، ونحوه . ويعني بالعقد عقد المزارعة . وذكر في الباب جملة أحاديث منها :.
عن رافع بن خديج قال :كنا أكثر الأنصار حقلاً، فكنا نُكْرِي الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك …أخرجاه (أي البخاري ومسلم).
وفي لفظ: كنا أكثر أهل الأرض مزدرعًا ، كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض . قال: فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض ، وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا. رواه البخاري.
وفي لفظ قال: إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله – ﷺ – بما على الماذيانات وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كرى إلا هذا، فلذلك زجر عنه . رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وفي بعض الروايات: أن صاحب الأرض كان يستثني لنفسه ما على الأربعاء (جمع ربيع وهو الجدول) أو التبن، أو مقدارًا معينًا من الثمر، فنهى النبي – ﷺ – عن ذلك كله. (انظر منتقى الأخبار مع شرح نيل الأوطار جـ5 ص275- المطبعة العثمانية في مصر 1357هـ)
وهذه الروايات وغيرها مما في معناها، تدل على أن النبي نهى وزجر عن اختصاص أحد طرفي العقد بشيء من الخارج من الأرض، قد يسلم وحده، أو يهلك هو وحده فيكون لأحد الطرفين غنم(مكسب) مضمون، أو غرم(خسارة ) محتمل، لا يشاركه فيه الآخر.
وليس هذا بالعدل الذي يريده الإسلام . إن عدل الإسلام الذي ناشده الرسول من وراء النهي المعلل المذكور في الأحاديث السابقة أن يشترك طرفا المزارعة في المغنم والمغرم جميعًا . وإذا كانت الأحاديث قد جاءت في المزارعة، فلا شك أن المضاربة أختها ،و المضاربة مزارعة في التجارة، والمزارعة مضاربة في الزراعة.
المزارعة اشتراك بين رب الأرض والعامل الزارع، والمضاربة اشتراك بين رب المال والعامل التاجر تسمى بالتجارة.
والذين قالوا من علماء العصر: إن إجماع الفقهاء على منع تحديد مبلغ معلوم لأحد الطرفين في المضاربة لا سند له من الشرع …إنما كان قولهم هذا بسبب عدم إحاطتهم بالأحاديث النبوية ومأثور السنة.
وهذه آفة طالمًا شكونا منها: أن أهل الفقه لا يحكمون معرفة الحديث، وأهل الحديث لا يحكمون معرفة الفقه . مع حاجة كل منهما إلى الآخر.
فلا ثقة لدراية بغير رواية، ولا فائدة لرواية بغير دراية.
والله أعلم
العلامة الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي