أبلغ رد على القرار الجديد الذي أصدره مجمع البحوث الإسلامية من وجهة نظري هو قرارات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية عام 1965 الذي حضره ممثلو خمسة وثلاثين دولة إسلامية، وفتوى جبهة علماء الأزهر الشريف التي تضم العشرات. وهناك أيضًا قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، والذي حضره ممثلو جميع الدول الإسلامية مع أكثر من سبعين خبيراً في الفقه والاقتصاد في ديسمبر 1985. كما أن قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله. علاوة على قرار هيئة كبار العلماء في السعودية، وقرارات المجمع الفقهي في السودان، وفي الهند، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث وغيرها، وقرارات عدد من مؤتمرات الاقتصاد الإسلامي التي ضمت عدداً كبيراً من الفقهاء والاقتصاديين على مستوى العالم الإسلامي.
وعلى الرغم من أنني بعد تركي عضوية الهيئة الشرعية لبنك قطر الدولي الإسلامي منذ أكثر من عامين وليس لدي إشراف على أي مصرف إسلامي داخل قطر، ولكني أنطلق مما أحس به من واجب أهل العلم نحو بيان الحق، وعدم كتمانه.
لا أريد الخوض في الرد على القرار الأخير الذي صدر من مجمع البحوث التابع للأزهر الشريف برئاسة فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي، بكلام، أو فتوى من عندي، وإنما أود الرد عليه من خلال اتفاق جميع المجامع الفقهية المعتبرة في العالم على حرمة الفوائد البنكية، وأضع هذه القرارات والفتاوى الجماعية العالمية التي صدرت في أجواء حرة لم تهمين عليها جهة لها مصلحة في إصدارها.
حيثيات القرار الجديد لمجمع البحوث الإسلامية:
لم يكتف الاستعمار الحديث بالاحتلال المادي فقط، وإنما قام (من خلال جهود المستشرقين والمنصرين، والمتغربين) بغزو ثقافي فكري، وبغزو اقتصادي، وبغزو قانوني تشريعي، لذلك كان توجه الاستعمار ـ أينما حل ـ نحو تغيير الشريعة بالقوانين الوضعية، ولذلك لم يأل جهداً في إنشاء البنوك في العالم الإسلامي على نفس المنهج الرأسمالي اليهودي، فأنشئت البنوك وأطلقت شعارات تقضي بأنه: لا اقتصاد بدون بنوك، ولا بنوك بدون فوائد ربوية.
فظهرت فتاوى فردية حول هذا الموضوع إلى صدور قرار حاسم بحرمة الفوائد الربوية البنكية من خلال المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في شهر محرم 1385هـ الموافق مايو 1965م، وضم ممثلين ومندوبين عن خمس وثلاثين دولة، فكان اجتماعه نهاية لمرحلة تمت، وبداية لمرحلة جديدة في طريق أداء الرسالة التي يقوم بها المجمع، وهي رسالة نشر المبادئ والثقافة الإسلامية،والتعريف بها في كل مجتمع وبيئة، ومع تجلياتها في صورتها الأصلية الصحيحة، والعمل على إيجاد الحلول للمشاكل التي تجد وتظهر في حياة المسلمين على أساس من مبادئ الإسلام ومثله، وفي ضوء ما جاء به الكتاب والسنة.
بهذه الروح التقى علماء الإسلام من مختلف البلاد الإسلامية وإخوانهم من أعضاء المجمع في المؤتمر الثاني، فألقيت البحوث ودارت المناقشات، وبحثت المثير من المسائل التي تمس حياة المسلمين في شؤونهم وفي أقطارهم المختلفة وتم التوصل إلى قرار حاسم بإجماع الآراء فيما يتعلق بالمعاملات المصرفية بصفة خاصة
وبعد هذا القرار الحاسم بدأت بعض الدول الإسلامية والمستثمرون الملتزمون بالتفكير بالبديل الإسلامي المتمثل في إنشاء البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، فكانت بداية التطبيق في مصر الحبيبة مصر الأزهر الشريف، كنانة الله في أرضه، من خلال بنك إسلامي في ميت غمر، ثم كان إنشاء بنك دبي الإسلامي عام 1975، وبنك التنمية الإسلامية، وبيت التمويل الكويتي، ومجموعة بنوك فيصل الإسلامي، والبركة، ومصرف قطر الإسلامي، وبنك قطر الدولي الإسلامي، وغيرها حتى وصل عدد البنوك الإسلامية إلى أكثر من مائتي بنك، إضافة إلى أن معظم البنوك التقليدية فتحت فروعاً إسلامية، بل إن بعض البنوك الغربية الكبيرة أنشأت بنوكاً إسلامية مثل سيتي بنك إسلامي.
وتدل كل المؤشرات على نجاح هذه البنوك بما تنعكس آثار نجاحها على نجاح النظام الاقتصادي الإسلامي الذي أهمل ـ مع الأسف الشديد ـ على الرغم من أن كثيراً من المنصفين يقولون: إنه الحل الوحيد للأزمات الاقتصادية التي يمر بها العالم.
ولم يثر هذا الموضوع إلاّ بعد أن وصل فضيلة الدكتور طنطاوي إلى دار الإفتاء المصرية، وأصبح مفتياً ومضت عليه مدة، حتى أنه قد أصدر فتوى وهو في دار الإفتاء بحرمة الفوائد البنكية .
ولم تمض فترة طويلة إلى أن أصدر فضيلة المفتي بياناً في 8/9/1989 قال فيه بالنص: (إن دار الإفتاء المصرية تعتقد: أن الكلام عن المعاملات في البنوك والمصارف لا يؤخذ جملة واحدة، بأن يقال: إن المعاملات التي تجريها البنوك كلها حرام أو كلها حلال، وإنما يؤخذ الكلام عنها في صورة كل مسألة على حدة أو على الأقل يؤتى بالمسائل المتشابهة، ثم يصدر بشأنها الحكم الشرعي المناسب لها. وذلك لأن المعاملات التي تجريها البنوك والمصارف، متعددة الجوانب، متنوعة الأغراض، مختلفة الوسائل والمقاصد. ومع ذلك فإننا نستطيع أن نقول بصفة مجملة: إن هذه المعاملات:
ـ منها ما أجمع العلماء على أنها جائزة شرعاً، وعلى أن الأرباح التي تأتي عن طريها حلال.
ـ ومنها ما تفق العلماء على أنها غير جائزة شرعاً، وعلى أن الأرباح التي تأتي عن طريقها حرام.
ـ ومنها ما اختلف العلماء في شأنها وفي شأن أرباحها.
ثم قال: “وما قلناه في شأن البنوك الاجتماعية، نقوله بشأن ما يوصف بالبنوك المتخصصة، كالبنوك الصناعية أو الزراعية أو العقارية أو ما يشبهها من تلك البنوك التي تقدم لأصحاب المشروعات المتنوعة النافعة، ما هم بحاجة إليه من أموال لتنمية مشروعاتهم ثم تأخذ منهم مقابل ذلك مبالغ مناسبة يقدرها الخبراء على أنها أجور أو مصروفات إدارية”.
أقول: ما تأخذه البنوك من المتعاملين معها بتلك الصورة، جائز شرعاً ولا بأس به، لأنه أيضاً في مقابل خدمات معينة، تقدمه تلك البنوك للمتعاملين معها).
ونرى أن فضيلة المفتي أباح الأجور والمصروفات الإدارية للبنوك المتخصصة وهذا لا كلام فيه، وإنما الكلام حول موضوعين لهذه البنوك المتخصصة هما:
الأول: أن هذه البنوك لا تقوم بالمشاركة أو المساهمة في المشروعات المتنوعة، وإنما تقرض قروضاً بفوائد محددة، حيث تسترجع أموالها مع فوائدها سواء خسر المشروع أم ربح، فلا دخل لها بالربح والخسارة، والمشاركة، وتحمل الغرم في مقابل الغنم كما أجمع الفقهاء السلمون على أن (الغنم بالغرم) استناداً إلى الحديث الصحيح القاضي بأن (الخرج بالضمان) رواه احمد وأصحاب السنن بسند صحيح.
الثاني: أن هذه البنوك لا تكتفي بأخذ مقابل خدمات معينة، وإنما تحدد نسبة من الفوائد تفوق ذلك بكثير، بل هي زيادة على قرض ربوي في مقابل القرض المؤجل، وهو عين ربا الجاهلية (كما سيأتي).
ثم تطور الوضع فأكثر، فأباح فوائد البنوك التقليدية من خلال كتابه المسمى (معاملات البنوك وأحكامها الشرعية) وقد قام بالرد عليه كبار علماء المسلمين وفقهائهم أمثال العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الشهير (فوائد البنوك هي الربا المحرم) والدكتور علي السالوس في مجموعة من كتبه ) وجمع غفير من علماء الأزهر الشريف وغيرهم.
كما قمت بالرد عليه، ومناظرته في برنامج إذاعي لإذاعة قطر يسمى برنامج (قضايا وآراء) اقترح فضيلته عقد مؤتمر خاص بهذا الموضوع، ولكنه مع الأسف الشديد لم يقم بذلك، بل ركز منذ حوالي 1988 على تجميع من يؤيده في هذه الفتاوى في المؤسسات التي تتبع الأزهر الشريف، ولذلك لم يعرض هذا الموضوع على مجمع البحوث منذ فتواه عام 1989 إلى أن اطمأن إلى تأييد الغالبية فعرضه في 31/10/2002 برئاسته
بعد مطالعة القائمة الملحقة نجد أن الذين أفتوا بحل الفوائد البنكية، معظمهم متخصصون في علوم الفلسفة والتفسير، والحديث والقانون ونحو ذلك، وذلك رفض المتخصصون في الفقه والأصول (أ.د. عبدالفتاح الشيخ وأ.د. محمد رأفت عثمان ) هذه الفتوى، ولو جمع رئيس المجمع علماء الاقتصاد وفقهاء الشريعة لما انتابني أدنى شك بأنهم لم يوافقوا على ذلك.
ولذلك يثور التساؤل حول عدم قيام رئيس المجمع بعقد مؤتمر فقهي اقتصادي على غرار المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية في القاهرة عام 1965 حتى يكون متقارباً من حيث الحجج والقوة للمؤتمر السابق، ناهيك عن المجامع الفقهية التي تضم مئات من كبار الفقهاء والاقتصاديين الذين حرموا الفوائد البنكية.
المعارضون لهذه الفتوى داخل مصر، وداخل الأزهر الشريف:
لا يعد عدد المعارضين لهذه الفتوى داخل الأزهر الشريف، وداخل مصر، حيث سبق أن أعدت جبهة علماء الأزهر الشريف بياناً وقعت عليه عشرات بل مئات على رفض الفتوى السابقة بحل الفوائد البنكية، حتى في هذه المرة صرح هؤلاء العلماء لمجلة المجتمع الكويتية في عددها 1527 الحادي عشر من رمضان 1423هـ الموافق 16 نوفمبر 2002 بما يأتي:
1 ـ يؤكد الدكتور رأفت عثمان أن صدور فتوى على هذا النحو يثير مشكلات كثيرة مع المجامع الفقهية في العالم الإسلامي، حسمت أمر المعاملات الربوية بحرمة الفوائد البنكية باعتبارها الربا المذكور في القرآن.
2 ـ ويوضح الدكتور حامد الجامع أن الفتوى السابقة الصادرة عن المجمع هي المرجع في هذه القضية، ولا داعي لإثارة الأمر مرة أخرى.
3 ـ ويرى الدكتور أحمد طه ريان وكيل كلية الشريعة بالأزهر، أن معاملات البنوك التقليدية هي الربا المحرم شرعاً، والثابت حرمته بإجماع علماء الفقه والشريعة في العالم الإسلامي منذ ظهور هذه البنوك حتى الآن، مستغربا القول بإجازة تحديد الفائدة مسبقاً تحت أي تسمية!
وأضاف ريان أن المجتمع الجاهلي في مكة والمدينة، الذي حرم الله الربا فيه كان مجتمعاً تجارياً في المقام الأول يقوم على رحلتين تجاريتين، إحداهما للشام والأخرى لليمن، مما يؤكد أن الربا آنذاك كان من أجل الاستثمار في أغلب الأحيان، ورغم ذلك حرمه الاسلام، ولا يجوز أن يكون الاقتراض من أجل الاستثمار مبرراً لتعامل بالربا، مشيراً إلى أن الفوائد التي تحصل عليها البنوك أو تعطيها هي الربا الذي ذكره القرآن الكريم والمحرم شرعاً، والتفرقة بحجة الاستثمار، أو الاستهلاك مردود عليها، ولا أصل لها شرعاً حيث إن الحديث الشريف واضح كل الوضوح وهو: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) سواء بغرض الاستهلاك أو الاستثمار.
وقال الدكتور ريان إن أي قرار يصدر عن المجمع لا بد أن يأخذ في الاعتبار ما سبقه من اجتهادات وفتاوى حتى لا يصطدم معها وتحدث البلبلة، كما أنه من الضروري أن يراعي القرارات الصادرة من المجامع.
4 ـ بينما يقول الدكتور عبدالحميد الغزالي، أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة القاهرة: من المعلوم أنه ثابت شرعاً أي قرض جر نفعاً فهو الربا المحرم شرعاً …والفوائد المصرفية دائنة أو مدينة تعد من ربا الدين أي الزيادة مقابل الأجل وهو ما يسمى بالربا القرآني أو الجلي أو الجاهلي،وهو المحرم بنص الكتاب والسنة والاجماع..بل كان يعد في الجاهلية من الكسب الخبيث.
5 ـ ويؤكد الدكتور حسين شحاته، الأستاذ بجامعة الأزهر أن جامعات أمريكا وأوربا تدرس تجربة المصارف الإسلامية، ونظام عملها، ودليلنا على نجاح البنوك الإسلامية التنامي الكبير لها، إذ بلغ عدد البنوك الإسلامية أكثر من مائتين وخمسين بنكاً في مختلف دول العالم، كما أن عدد المؤسسات النقدية الإسلامية يزيد على الألف، كما أن حجم تعامل العمل المصرفي الإسلامي يصل إلى مئات المليارات من الدولارات يستفيد منه ملايين المتعاملين في كل الأنشطة الاقتصادية زراعية وصناعية وتجارية ومختلف الأنشطة الخدمية.
وأضاف أن فتح البنوك التقليدية لفروع المعاملات الإسلامية دليل نجاح وليس العكس، وذلك لجدوى هذا العمل المصرفي، ولمنع تسرب الودائع إلى البنوك الإسلامية حتى إن البنك والصندوق الدوليين اقترحا على الدول النامية عامة، والإسلامية منها خاصة، الأخذ بصيغة العمل المصرفي الإسلامي، لأنها صيغة استثمار حقيقي ضرورية لإحداث تنمية مستدامة في هذه الدول النامية.
كما صرح بعض هؤلاء العلماء وغيرهم لشبكة إسلام أو لاين ما يأتي:
من جانبه أكد الدكتور محمد رأفت عثمان عضو مجمع البحوث الإسلامية أنه رفض الموافقة على فتوى تحليل فوائد البنوك، موضحاً أنها حرام مطلقاً، لأنها وعلى فرض أنها ليست ربا فإنها من المضاربة الفاسدة.
وأوضح عثمان لشبكة إسلام أون لاين: أن المضاربة الإسلامية معناها أن يكون هناك اتفاق بين رب المال وفرد أو جهة معينة تستثمر هذا المال على أن يكون لهذه الجهة نسبة من الربح، أما تحديد مبلغ معين من المال كما هو متبع في البنوك لأي من الطرفين فهو يؤدي إلى فساد المضاربة كأحد طرق استثمار المال.
وأضاف أنه ولو فرض أن وضع المال في البنوك هدفه الاستثمار فإن تحديد الربح مسبقاً يؤدي إلى الغرر المنهي عنه شرعاً، لأن فيه ضياعاً لنصيب أحد الطرفين، مبيناً أن اعتراضه على الفتوى يتأسس على قاعدة مردها أن فوائد البنوك المحدد سلفاً لا تجوز شرعاً ولا تتفق مع تعاليم الدين الإسلامي، كما لا يمكن اعتبارها نوعاً من المضاربة الإسلامية.
ويذكر أن فتوى فوائد البنوك الأخيرة لم يتم عرضها أو مناقشتها داخل لجنة البحوث الفقهية، مع أنها اللجنة المتخصصة والمختصة بمناقشة مثل هذه القضية لتجديد الحكم الشرعي فيها، ثم عرضها على مجلس مجمع البحوث الإسلامية.
أما ردود الفعل على هذه الفتوى في الخارج فكانت كبيرة، حتى قال فضيلة العلامة الشيخ القرضاوي في معرض رده عليها: ما الذي جعل الحرام المتفق عليه بين مجمع البحوث والمجامع الفقهية حلالا؟
فقد نشرت الراية القطرية ما يأتي: “تعجب فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في الدوحة مما سمع به من الراية من أن فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر قد استصدر قراراً من مجمع البحوث الإسلامية يحل فيه فوائد البنوك المحددة سلفاً والذي وافق عليه أعضاء المجمع ما عدا رئيس اللجنة الفقهية، وقال د.القرضاوي في تصريحات خاصة لـ الراية: الذي أعلمه أن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر هو أول مجمع يقرر بصراحة ووضوح أن فوائد البنوك هي الربا الحرام، وكان ذلك في عام 1965 برئاسة الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر، وعضوية المشايخ الكبار محمد زهرة، وعلي الخفيف وفرج السنهوري، ومحمد علي السايس، وعبدالله المشد وغيرهم من العلماء الكبار، وقد أكد هذا الأمر المجامع الفقهية الإسلامية التي نشأت بعد ذلك مثل المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي والمجمع الفقهي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، والذي يمثل الأمة الإسلامية، أيدت هذه المجامع قرار مجمع البحوث الإسلامية وساندته كل المؤتمرات التي عقدت عن الاقتصاد الإسلامي، والبنوك الإسلامية التي عقدت في بلدان العالم الإسلامي المختلفة مثل مؤتمر الفقه الإسلامي في دبي، وفي الرياض والمؤتمر العالمي للفقه الإسلامي في مكة.
وعن سؤال فضيلته عن سبب صدور القرار الأخير قال: لا أدري ما هي وجهة النظر التي جعلت مجمع البحوث الإسلامية يغير رأيه، وما هي أدلتهم لم أقرأ شيئاً عن ذلك، ما هي تلك الأدلة التي غيرت القرار القديم، وما الذي جد حتى يصبح المحرم حلالاً؟ لقد أصدرت كتاباً بعنوان فوائد البنوك هي الربا المحرم استندت فيه لأدلة الشرع وبيانات المجامع الفقهية وبيان العلماء …وقال: ما زلت مصراً على موقفي هذا، وقد طبع كتابي عشرات المرات ووزع توزيعاً كبيراً ليحيا من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة!”.
ولكي نبرأ ذمتنا في هذا المقام سنرفق هنا مجموعة ملحقات خاصة بالمجامع الفقهية في نفس الموضوع:
· ملحق رقم: 4، قرار مجمع رابطة العالم الإسلامي، بشأن موضوع تفشي المصارف الربوية وحكم أخذ فوائدها.
· ملحق رقم: 5، قرار مجمع منظمة المؤتمر الإسلامي، بشأن حكم التعامل المصرفي بالفوائد وحكم التعامل بالمصارف الإسلامية.
· ملحق رقم: 6، قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي، بشأن حكم التعامل المصرفي بالفوائد وحكم التعامل بالمصارف الإسلامية.
مبررات القرار الجديد:
نشرت شبكة إسلام أون لاين في 14 نوفمبر 2002 أن الأعضاء المجيزين للفوائد البنكية ذكروا أن مبرراتهم في هذه الفتوى هي ما يأتي:
وفي سياق بيان مبررات الإباحة أكد أعضاء المجمع أنهم أجازوا استثمار الأموال في البنوك مع تحديد العائد مقدماً على اعتبار أنها نوع من الوكالة، وأن الأموال التي تودع في البنوك تدخل في التنمية والصناعات الوطنية، وتمثل جزءاً منها في اقتصاد الدولة، وبالتالي لا توجد هناك شبهة ربا أو استغلال طرف لآخر.
وقال الدكتور عبدالمعطي بيومي عضو المجمع: “إن ما اجازه مجمع البحوث الإسلامية وتم إقراره حتى الآن هو استثمار الأموال في البنوك مع تحديد العائد مقدماً حلال، وبالتالي فإن إجازة التعامل مع البنوك التي تحدد العائد أو الربح مقدماً تركز على الاستثمار، وعلى تحديد العائد وليس على معنى الفائدة، وهذا لا شيء فيه شرعاً”.
وأضاف عبدالمعطي: “أن استثمار البنوك لأموال الأفراد استثماراً حلالاً نظير تحديد عائد مقدماً يدخل في باب الوكالة، كما أنه يحمي المال من فساد الذمم التي قد تؤدي إلى ضياع أرباح المال المستثمر” مشيراً إلى أن “تحديد الفائدة يضمن ألاً يضيع العائد أو الربح على صاحب المال، وأن الأزهر الشريف سيصدر الفتوى الخاصة البنوك بصياغتها النهائية بعد أن يتم تمحيصها جيداً”.
وأشار الدكتور محمد إبراهيم الفيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية إلى أن : “جواز تحديد الأرباح مقدماً للأموال داخل البنوك له وجهة وهي أنه لا ربا بين الدولة ورعاياها، وعليه فإن التعامل مع البنوك المحددة للفائدة جائز على اعتبار أن البنوك الضامن الأول لها هو الدولة، هذا بالإضافة إلى أن المال الذي يوضع في البنوك يدخل في التنمية والصناعات الوطنية، ما يجعل استثمار الأموال في البنوك محققاً لتنمية شاملة للوطن”.
وأضاف الفيومي أن “قرار مجمع البحوث الإسلامية صحيح شرعاً، حيث إن التعامل مع البنوك المحددة للعائدة مسبقاً لا يوجد فيه تعامل الفرد مع الفرد، والدائن والمدين، كما أن معنى استغلال الدائن للمدين ليس وارداً في هذا التعامل “مشيراً إلى أن” معاملات البنك بالأرباح مع الأفراد أصحاب الأموال يجعل البنك وكيلاً في هذه الأموال لاستثمارها، والوكالة مشروعة إسلامياً”.
ولا جديد أبداً فيما ذكروه:
لقد ذكر هؤلاء الأعضاء أن مبرراتهم في هذه الفتوى هي:
1 ـ أن الفوائد البنكية قائمة علىعقد الوكالة بين البنك والعميل، فالبنك وكيل عن العميل.
2 ـ أنه لا ربا بين الدولة رعاياها.
والرد على ذلك فيما يأتي:
أولاً: أن التكييف القانوني في مصر وفرنسا وغيرهما لعقد الوديعة في البنوك التقليدية هو عقد القرض وهذا أكبر رد على من يقول إن العلاقة بين البنك والعميل علاقة وكالة،وذلك لأن العقد الذي يوقع بين الطرفين إلى يومنا هذا هو عقد قرض بفائدة محددة، فالعميل حينما يودع مبلغاً لدى البنك، فإنه يقرضه قرضاً مضموناً بفائدة محددة مضمونة، فأين الوكالة في هذا العقد، حيث يأخذ العميل المقرض نسبة مئوية من المال المودع لدى البنك، ففي مقابل أي شيء يأخذها؟ وأين دوره في الوكالة؟ وما الذي يقدمه العميل للبنك حتى يأخذ منه أجراً؟ وأين مصروفاته الإدارية؟ فالعميل قد جاء ووضع مليون ريال وديعة في البنك، ثم في آخر السنة يأخذ رأس ماله و5% مثلاً زيادة على رأس ماله.
ويبدوا أن هؤلاء الاخوة نسوا هذا الجانب، وركزوا على ما يأخذه البنك من فوائد ربوية، حيث إنه في حالة البنك مقترضاً من العميل فلا مجال أصلاً لتكييف هذه النسبة على أساس الأجر في الوكالة في مقابل المصروفات الإدارية.
وكذلك الأمر عندما يقرض البنك العميل ويأخذ نسبة من الفوائد الربوية حيث إن العلاقة هي علاقة عقد القرض في الشريعة والقانون.
هذا وقد حسم التقنين المدني المصري الخلاف في طبيعة الودائع في البنوك الربوية حيث كيفها على أنها قرض فقد نصت المادة 726 على أنه: (إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذوناً له في استعماله اعتبر العقد قرضاً).
وقد علق العلامة الدكتور فرج السنهوري على ذلك بقوله: (وقد يتخذ القرض صوراً مختلفة أخرى غير الصور المألوفة، من ذلك إيداع نقود في مصرف، فالعميل الذي أودع النقود هو المقرض، والمصرف هو المقترض …) الوسيط للسنهوري 57/435.
وقد أكد ذلك فقهاء القانون والاقتصاد (يراجع: كتاب عمليات البنوك من الوجهة القانونية للدكتور علي جمال الدين عوض / ص: 20 – 28).
وقد أكد هذا المعنى بالاجماع مع الحكم بتحريم الفوائد البنكية المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي حضره عدد كبير من فقهاء الشريعة، وعلماء الاقتصاد والقانون عام 1396 هـ.
ولذلك كان من المفروض على هؤلاء الأساتذة أن يرجعوا إلى علماء القانون والاقتصاد لبيان التكييف القانوني والاقتصادي لعقد الوديعة في البنوك الربوية وإن لم يرجعوا إلى المتخصصين في الفقه الإسلامي والاقتصاد الإسلامي.
ومن جانب آخر، فإن الوكيل غير ضامن بالاجماع في الشريعة (انظر المغني لابن قدامة: 5/102 – 103) والقانون (الوسيط 7/468) إلاّ في حالات التعدي والتقصير، في حين أن البنك ضامن بإجماع القانونين عن المبلغ الذي اقترضه من العميل مع الفائدة المحددة، وأن العميل أيضاً ضامن عن المبلغ الذي اقترضه من البنك مع الفائدة المحددة مهما كانت الأمور، ومهما خسر العميل.
ثانياً: ادعى بعضهم بأن تحديد العائد مقدماً يعود إلى الاستثمار.
وهذا الادعاء يعود إلى عدم المعرفة بطبيعة التعامل في البنوك الربوية، فقد ذكر علماء القانون والاقتصاد أن الوظيفة الرئيسية للبنوك التقليدية هي للاقتراض والاقراض بفائدة، وخلق الائتمان، فهي مؤسسة تقوم على التجارة في القروض والديون، وأنها ممنوعة بحكم القوانين من الاستثمار والتجارة بأموال المودعين، وأن نظرة بسيطة على ميزانية أي بنك تقليدي تكشف بوضوح أنه يقوم على الاقراض والاقتراض وخلق الائتمان بصورة أساسية إضافة إلى بعض خدمات لا يذكر حجمها أمام حجم القروض والديون، كما أن عقود هذه البنوك تنص على أن العلاقة هي القرض، فيوجد فيها العقد النمطي الذي يسمى (عقد قرض) ثم ينص فيه على أنه (يحتسب على قيمة القرض فائدة مركبة سعرها كذا سنوياً تقيد على حسابنا شهريا).
ونحن نرجو من هؤلاء الأساتذة أن يسألوا البنك المركزي المصري، أو أي بنك مركزي آخر: هل يجوز للبنوك الربوية ممارسة التجارة والاستثمار المباشر، والبيع والشراء بأموال المودعين؟ .
وذلك لأن الجواب يكون بالنفي قطعاً، فلا يسمح لأي بنك ربوي أن يتاجر بأموال المودعين أبداً، لأنه ضامن لها، فلا بد أن يعطيها للمقترضين بفائدة أكبر من الفائدة التي يعطيها للمقرض.
ثالثاً: أما كون الربا بين الدولة وأبنائها فلنا عليها الملاحظات التالية:
1 ـ أن معظم البنوك ليست للدولة، بل للمساهمين، أو من القطاع المختلط المشترك بين الطرفين، وبالأخص في عصر الخصخصة أصبحت معظم البنوك مملوكة للمساهمين.
2 ـ هذا الكلام الذي اعتبروه مثل القاعدة ليس له أصل في الشرع ولا بين الفقهاء، وأنه لا يجوز قياس الدولة على الوالد في علاقته المالية بولده على رأي من يقول إن مال الولد للوالد وبالتالي فلا ربا بين أموال الشخص الواحد.
وذلك لأن جمهور الفقهاء على أنه يوجد الربا بين الوالد والولد وذلك لأن ذمة الولد مستقلة، وبالتالي يحرم الربا بين الوالد والولد.
وأما من قال، إنه لا ربا بين الوالد والولد فهذا ينطلق من أن الوالد يملك أموال أولاده، وهذا (مع أنه قول ضعيف) لا يصح أن يكون أصلاً لقياس الدولة عليه من عدة وجوه من أهمها: أن الدولة لا تملك أموال الأفراد قطعاً وبالاجماع لدى الفقهاء، وحينئذ أصبح القياس فاسداً غير مستقيم.
ومن جانب آخر فإن المفروض في الدولة الإسلامية هي أن تكون القدوة في الالتزام بأوامر الله تعالى، وشرعه قبل الأفراد، وإلا فكيف ترتكب المحرمات وتفعل ما أذن الله فيه الحرب ثم تقول للناس: اتركوا الربا، فمن أولى واجبات الدولة أن تمنع الربا، كما قال ابن عباس (من كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن لم ينزع، وإلاّ ضرب عنقه ) تفسير الطبري 6/225 والدرر المنثور 1/366.
وأخيراً ننقل رد فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر السابق على الدكتور طنطاوي لما كان مفتياً وهذا نصه:
(الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله …وبعد فإن بعض الصحف نشرت كلمة حول (الفوائد المصرفية) و(الشهادات البنكية)، وانعقدت ندوات هنا وهناك للحديث في هذه الأمور بمعايير متباينة دون دراسة عميقة لواقع تلك المعاملات متناسين أو متجاهلين أن الحكم الشرعي المنتسب إلى أصول الإسلام وقواعده في القرآن والسنة قد أوضحه العلماء في أقطار المسلمين وجرت في شأنه فتواهم الجماعية حتى صاروا في حكم الأمر المعلوم من الدين بالضرورة ويعلو على الأمور المختلف عليها.
وقد وقع القول الفصل من مؤتمر علماء المسلمين المنعقد في شهر المحرم 1385هـ ـ مايو 1965 بهيئة مؤتمر لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف الذي من مهامه بحكم قانون الأزهر (بيان الرأي فيما يجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية أو اقتصادية) والذي شارك فيه العديد من رجال القانون والاقتصاد والاجتماع من مختلف الأقطار حيث كان من قرارات هذا المؤتمر إجازة بعض صور التأمين التعاوني ونظام المعاش الحكومي وما شابهه من نظم الضمان الاجتماعي، وفي شأن المعاملات المصرفية كان له مجموعة من التوصيات
إن هذا الذي تناقلته الصحف من أنباء وآراء إثارة هذه الموضوعات قد حسمت واستبان فيها الحكم الشرعي على هذا الوجه، وكان الأولى بهؤلاء وأولئك أن يكتبوا ويجتمعوا للمداولة في أمور لم تحسم بعد كشهادات الاستثمار التي أصر مصدروها على عدم التعرض للقرارات الوزارية المنظمة لها، والتي هي بمثابة العقد لها، وتوقفوا عن قبول أي تعديل للصيغة لتتوافق مع العقود الشرعية وتخلوا من الفائدة الربوية الصريحة، وهم مع هذا الموقف يتنادون إلى اسباغ حكم إسلامي عليها بالحل دون أن يدرسوها كعقد من العقود التي وضع الرسول ﷺ قاعدتها في قوله الشريف: …والمسلمون على شروطهم إلاّ شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً..” (رواه الترمذي).
إن الأزهر الشريف قد وضع أمام الناس جميعاً قرارات مؤتمر علماء المسلمين الجماعية في عام 1385/1965م فيما يحل ما يحرم في شأن الفوائد على القروض، وبعض أعمال البنوك على الوجه المفصل آنفاً.
وقد دعا هذا المؤتمر علماء المسلمين ورجال المال والاقتصاد إلى اعداد ودراسة بديل إسلامي للنظام المصرفي الحالي، فهل تداولت هذه الندوات في هذا الشأن، وهل تصدت تلك المقالات لما أرجئ البت فيه لمزيد من الدراسة والبحث.
وذلك ما لم يحدث، وإنه من الحق أن تلمس الهداية إلى الصواب من الله سبحانه الذي قال في كتابه الكريم في سورة النور من الآية 63: “فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم”، وفي سورة التوبة الآية 129: “فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلاّ هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم”.. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
أ.د. علي محي الدين القره داغي – 16/01/2003
5>