رمضان، يا ضيفنا المنتظر.. طال شوقنا إليك، أسرع أيها الشهر الكريم، فقد أنهكنا السفر، وأتعبتنا الحياة، وأثقلتنا الهموم والذنوب. كان النبي ﷺ إذا دخل رجب قال: “اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان” (رواه الطبراني)، قبل أن يأتي رمضان في نقاط موجزة.
التخفف من الأثقال
إن من ينوي الالتحاق بسباق رمضان عليه أن يتخفف من الأحمال، ويبذل في متسع أوقاته المزيد من التدريبات والتمرينات التي تُكسبه اللياقة والكفاءة لإنجاز مهمته والفوز بمبتغاه.
ومن المكبلات التي تعرقل الصائم عن الفوز بالتقوى والمغفرة:
- شراء المزيد من الأطعمة والمشروبات الخاصة بشهر رمضان، مع أن الأصل التخفف من هذه الأطعمة في شهر الصيام، فإن كان لا بد فالقليل يكفي، والله لا يحب المسرفين.
- الإكثار من دعوة الأقارب والأصدقاء للإفطار في رمضان، وتلبية دعواتهم بعد ذلك، هذا يعد من المكبلات أيضا؛ لأن هذا يفضل في غير رمضان لتفريغ النفس للعبادة قدر المستطاع، وإن كان لا بد فالاقتصاد في ذلك إلى الحد الأدنى.
- الانشغال بإخراج صدقة الفطر، مع أنه يمكن إخراجها طوال الشهر.
- الجلوس أمام التلفاز ومتابعة المسلسلات الرمضانية، والسهرات الليلية، والأفلام النهارية، مع أن هذا يفسد الصيام لما فيه من مناظر وألفاظ محرمة، ناهيك عن قتل الوقت الذي حرم الله ضياعه. ويدخل مع ذلك تفويت الوقت بكافة الوسائل المحرمة والتي لا تعود على المسلم بنفع في دينه أو دنياه.
هيا نبدأ من الآن
- قراءة القرآن: حتى وإن وجدت لسانك ثقيلا في القراءة، فاصبر قليلا فستجد نفسك -بعد أن تجلو الصدأ المتراكم طوال العام بسبب الهجر- مستلذا بالقراءة؛ فهي النور الذي يمدك بالطمأنينة والسكينة والرحمة، وتفتح لك باب الحوار مع مالك الملك، وإله الكون.
- صلة الأرحام: في متسع من الوقت صِل ما انقطع، وأصلح ما انكسر، وقرب ما بعُد، انوِ بذلك رضا الله عنك ليبارك لك في رزقك وعمرك، وينسأ لك في أثرك.
- الإمساك عن الغيبة والنميمة: تمهيدا لصيام نظيف ومقبول؛ فلحم المسلمين مر المذاق، وأنت لست في حاجة لأن يؤخذ من حسناتك يوم القيامة إلى حسنات من تغتابه، كما أنك لست بحاجة إلى المزيد من السيئات التي ستؤخذ منه لتوضع في ميزانك. وما أجمل الكلمة الطيبة، ما أجمل الذكر والتسبيح والتهليل والاستغفار، اشغل نفسك بها، وتجاذب أطراف الحديث فيما أحل الله لك، واسأل الله أن يعينك على ترك الغيبة والنميمة، ويباعد بينك وبين الحرام كما باعد بين المشرق والمغرب.
- الإكثار من الذكر والاستغفار: استعدادا لصيام رباني وروحاني ومكتمل؛ فالذكر هو الزاد والوقود الذي يدفعك بقوة لمغالبة عوادي الحياة، يمنحك قوة روحية وطاقة إيمانية وراحة نفسية تصلك بالملإ الأعلى، وطالما أنك تذكر الله تعالى، فالله معك، (وأنا معه إذا ذكرني).
- الزيادة في إعمار المساجد: حتى يكون دخولك إلى المسجد في رمضان شيئا مألوفا، فعمارة المساجد دليل الإيمان بالله واليوم الآخر {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشَ إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}. أنوي سُنة الاعتكاف في أي وقت تدخل فيه المسجد، حتى وإن كان ذلك في غير رمضان.
- غض البصر: واعلم أن من ترك شيئا لله جعل الله في قلبه حلاوة يشعر بها، فغُض بصرك لأن الله ينظر إليك.
ومن معيناتك على غض البصر:
- البيئة المناسبة: تجنب الجلوس على الطرقات، وتجنب الوحدة.
- الصحبة الطيبة: فهي خير معين، وخير الأصحاب من إذا نسيت الله ذكرك، وإذا ذكرت أعانك.
- استشعار المراقبة: فالله تعالى {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } (غافر: 19).
- طلب العون من الرقيب: والله تعالى يقول: { ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60) . ومن دعاء عباد الرحمن: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما } (الفرقان : 74).
- معرفة الثواب والعقاب: فالثواب رضا الله وتوفيقه لك ووضع القبول لك في الأرض بين الناس، وتيسير أمرك كله، أما العقاب فالسخط والتخبط ونفور الكون منك وتعسير أمورك كلها.
- الانشغال بالذكر: لأن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، والكوب لا يمكن أن يظل فارغا أبدا؛ فإما أن يملأ بالماء، أو بالخمر، أو بالهواء. فاختر لنفسك ما يشغلها.
درب متميز
ينظر المسلم في أفق درب رمضان، ويدقق النظرات، فيجد النور يشع من بعيد، وينزاح الظلام رويدا رويدا، فيدوي في خاطره هاتف الإيمان، بصوت يخالطه حب وتوق: لعله شهري الحبيب.. آه! كم زاد شوقي إليك.. فما أكرمك! وما ألطفك! وما أرحمك! وما أجملك!
أقبل يا شهر القرآن. أقبل بنورك، بنفحاتك، بنسماتك العاطرة.. بالرحمة، بالمغفرة.. بالعتق من نار الآخرة..
أقبل برضا الرحمن، وهداية القرآن، وتكبيل الشيطان.. بوصال الأرحام والخلان..
أقبل بطلعتك الوضيئة، وبسمتك البريئة.. بمحياك إذ ينشر الأنوار المضيئة..
رمضان.. يا أخصب شهور العام؛ فيك تتهيأ الفرص كما لا تتهيأ في غيرك: فترق القلوب، وتمتلئ المساجد، وينصت القوم في خشوع منتظرين الزاد على الطريق، والحفز نحو فعل الخيرات.. منتظرين من داعيهم صدق العاطفة، وفيوض الإيمان، وروحانية العلم، وربانية التوجيه، وبلاغة الأسلوب، وسحر البيان.
وفي درب المسلم نحو رمضان موعد لترتيب الأمور مع ربه، ومع نفسه، ومع الناس:
مع ربه : بمزيد من القرب والنجوى والخلوة مع الرحيم الرحمن، بالالتجاء الصادق إلى مدبر الكون، وطلب الهداية بقطبيها: النظري والعملي، متمثلا قول الحق سبحانه تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)، بالهروب من كل ما سوى الله إلى الخالق جل في علاه، بكامل التسليم والاستسلام لمالك الملك والملكوت.. باحتضان كتابه سبحانه، وامتزاج معانيه وأوامره باللحم والدم، والروح.
ومع نفسه: بالمسارعة بتهيئتها ماديا، وروحيا، لاستقبال هذا النور.فحري بالمسلم أن يتلقى تلكم النفحات بجسد نظيف، وبيت مرتب، وعدم ارتباط بأية مواعيد أو أعمال، إلا ما كان منها يعين على مزيد من القرب إلى الله تعالى.. أن يتلقاها بمزيد من الذكر والاستغفار والدعاء وطلب العون بالتوفيق والقبول.
ومع الناس: بالمسارعة برد الحقوق، وأداء الأمانات، وإصلاح ذات البين، والبدء في صلة الأرحام، وإشاعة روح المحبة والشفقة والرحمة على الخلق عامة، بالأخذ بأيديهم، من حيث هم إلى حيث أنت، بالصبر عليهم، والدعاء لهم.. بالعفو عنهم، والاستغفار لهم، ومشاورتهم في الأمر.. (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).
إنها أيام معدودات، من لم يستعد لها فاجأته، ومن فاجأته أتته وهو في أعماله ودنياه منهمكٌ لاهٍ ساهٍ، غير مبالٍ ولا مقدر، سادر في ذهول وإعراض، يهذي ولا يدري، يدور في طاحون الحياة ولا يُفيق، لا يلتفت للخير، ولا يتنحى عن الشر.. وربما أمسك مع الممسكين، وراح وغدا مع الرائحين والغادين، لكنه يظل حبيس نزواته، وسجين شهواته، لا يطلب منها فكاكا، ولا يحاول انعتاقا.. نسأل الله السلامة والعفو العافية.
اللهم بلغنا رمضان، واكتب لنا فيه -وفي غيره- الخير كله، وأجرنا من الشر كله.. اللهم آمين.
سامية عبدالوهاب