في الليل يهدأ الكون، ويركن الخلق، ويتجلى الرب سبحانه وتعالى، وينزل إلى السماء الدنيا، يغفر لمن يستغفر، ويعطي من سأله، ويستجيب لمن دعاه. ومن رغب في سنة النبي – – عليه أن يجتهد في قيام ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم.

الليل محراب العابدين، ومثوى الساجدين، وروضة المخبتين، يناجون ربهم بكلامه، ويسألونه من عطائه، ويُعَفِّرون جباههم بِذُلِّ التوبة وعِزُّ العبودية لله رب العالمين، ويَحْنون رؤوسهم لقهَّار السماوات والأرض، وملك الملوك، دموعهم تبتل منها لحاهم، وأيديهم ضارعة، وقلوبهم واجفة، ونفوسهم مولعة، يرجون الله ويخافونه.

وفي الليل كان الحبيب المحبوب نبي الرحمة – الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقف في خشوع وضراعة، ومناجاة ومناداة حتى تتشقق قدماه، ويقول: أفلا أكون عبدًا شكورًا.

وكان – – إذا دخل شهر رمضان اجتهد في العبادة وجاد بالخير، خاصة في العشر الأواخر من الشهر الكريم، فكان أجود من الريح المرسلة، وتعهَّد مع أمين السماء جبريل – عليه السلام – القرآن، وأقبل على الله بكُلِّيَّته، وكان يُبَشِّر أصحابه بهذا الشهر ويرغبهم فيه، وكان يكثر في صيامه خلوته بربه لمناجاته وذكره، فيفتح الله عليه من موارد أنسه، ونفحات قدسه، فكان يرد على قلبه من المعارف الإلهية، والمنح الربانية، ما يغذيه، وعن الخلق يغنيه، وعن الطعام والشراب يرويه.

كان من سنته – – أن يتحرى ليلة القدر خلال العشر الأواخر في شهر رمضان المبارك، التماسًا للخير الذي قدَّره الله فيها، وحرصًا منه – – على نيل أكمل الخير وأتمَّه؛ ولذلك اعتكف مرة في العشر الأول من رمضان، ثم انتقل إلى العشر الأواسط، ثم استقر آخر الأمر على الاعتكاف والتماس ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان.

روى مسلم عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: إن رسول الله – – اعتكف العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير، والسدة هي مظلة توضع على الباب، قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه، فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: ” إني اعتكفت العشر الأول، ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف (فليعتكف) فاعتكف الناس معه، قال: “وإني أريتها ليلة وتر، وإني أسجد صبيحتها في طين وماء.

فأصبح من ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر، وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء، فوكف المسجد (أي نزل الماء من خلل في سقفه) فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح، وجبينه وروثة أنفه فيها الطين والماء.

وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر، وكان من هديه – – إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شمَّر للعبادة واستعد لها استعدادًا لم يكن مثله في غيرها، روى البخاري رحمه الله عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “كان النبي – – إذا دخل العشر: شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله”، وشد مئزره – – يقتضي الاجتهاد في العبادة، وروى مسلم رحمه الله عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “كان رسول الله – – يُحْيي الليل بالصلاة والدعاء وغيرهما من الطاعات وكان يشرك أهله في هذا الخير، فيوقظهم لقيام الليل معه.

وكان – – لا يترك أحدًا من أهله يستطيع القيام للعبادة والسهر للإحياء، والقوة على ذلك إلا أيقظه، ذكر في فتح الباري: روى الترمذي ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة: “لم يكن النبي – – إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه”.

وأما عن عدد الركعات التي يصليها الرسول سواء في صلاة التراويح أو التهجد أو مطلق قيام الليل، وهي الصلاة التي تعقب العشاء الآخرة، فالغالب عليها أنه لا يتجاوز ثماني ركعات، فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره:
أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله يزيد ‌في ‌رمضان ‌ولا ‌في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا. متفق عليه.

ولذا قال الثوري: أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، وينهض أهله ووالده إلى الصلاة إن طاقوا ذلك، فهو – – يجدُّ للعبادة في هذا الشهر أكثر من غيره من الشهور ويجتهد في العشر الأخيرة ما لم يجتهده في العشرين الأولى منه، ففي المسند عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: “كان النبي – – يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر شمَّر وشد المئز” فيسهر ليله، ويطوي فراشه ويودع النوم – وإن كان النوم في جميع ليالي عمره قليلاً – ويلزم من يطيق من أهله ذلك معه.

فمن رغب في سنة النبي – – عليه أن يجتهد في قيام ليالي العشر الأخيرة من رمضان، ويوقظ أهله ليقوموا معه، ويحاول قدره أن يعتزل النساء ويجتهد في العبادة، ففي هذه الليالي ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم الخير كله.

وقد ذهب ابن تيمية وجمهور من العلماء إلى أن هذه الليالي الأخيرة من رمضان هي أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، رغم ما في عشر ذي الحجة من الأيام الفاضلة: كيوم التروية ويوم عرفة وسواهما، وليلة القدر التي فيها العشر الأواخر من رمضان حظ الأمة الإسلامية فيها أوفر من حظِّهم في ليلة الإسراء والمعراج؛ لأن ليلة الإسراء والمعراج مكرمة ومعجزة للنبي – – وليلة القدر مكرمة للنبي – – ولأمته من بعده.

ولما لهذه الليالي من مكرمة فقد أحياها النبي – – وأيقظ لها أهله، وهكذا كان الصحابة والتابعون، يسهر منها بالعبادة والمناجاة بين يدي الله. فأيقظ أهلك، وقم ليلك، واعتزل نساءك، واجتهد لمناجاة ربك

يـا نائم الليل كـم ترقـدُ   ***    قـم يا حبيبي قد دنا الموعـد

وخـذ من الليل وأوقاتـه   ***    وِرْدًا إذا مـا هجـع الرُّقـَّد

من نـام حتى ينقضي ليله    ***   لـم يبلغ المـنزل أو يجهـد

قل لذوي الألباب أهل التقى   ***    قنطرة العـرض لكم موعـد

قال رسول الله – : ( إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى ينفجر الفجر) صحيح مسلم.

وقال – : (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه) البخاري


بقلم فضيلة الشيخ/ أحمد القطان – الكويت