عرض السلطان نور الدين أرسلان شاه على ابن الأثير -العلامة الكبير صاحب جامع الأصول- الوزارة غير مرة فأبى، فركب السلطان إليه وقصده في بيته، وألح عليه في قبول الوزارة، فاعتذر ابن الأثير قائلاً: “الملك لا يستقيم إلا بشيء من العسف والظلم وأخذ الخلق بالشدّة، وأنا لا أقدر على ذلك، ولا يليق بي”؛ فعندئذ عذره وأعفاه.وبمطالعة سيرة النبي ﷺ يتأكد لك زيف هذه الفرضيات كلها، فكيف قاد الرسول أمته دون أن يخيفهم؟
من قبل قصة السلطان نور الدين أرسلان شاه و ابن الأثير قال أنس بن مدرك الخثعمي:
إني وقتلي سليكا ثم أعقله .. كالثور يضرب لما عافَتِ البقر
وذلك أن العرب كانت إذا أرادت من البقر أن تعبر قناة بها ماء، كانت البقر تتردد من العبور خوفًا من السقوط فيها؛ فكان الراعي يعمد إلى الثور -وهو سيد القطيع- فيضربه ضربًا يحمله على العبور، فإذا رأت البقر أن السيد ليس فوق الضرب علمت لا محالة أنها مضروبة إذا امتنعت عن العبور، فعندئذ تقدم على العبور متناسية مخاوفها من التردي، وكأنها أدركت أن الضرر الواقع أولى دفعًا من الضرر المتوقع!!.
ثقافة التخويف
وهكذا استقر في الثقافات المختلفة أن سياسة الناس -فضلاً عن الحيوانات- تحتاج إلى شيء من التخويف والترهيب، تحتاج أن يعلم الناس أن الأمير أو المدير ليس رجلاً كآحاد الناس؛ فهو يملك العقاب ويقدر عليه ويمارسه، ولا يبالي أن يظلم في عقابه رجلاً أو اثنين، وبغير أن يستقر هذا في أذهان الموظفين أو المواطنين.. فلن يثبت للأمير أو المدير إمارة أو إدارة.
ليس هذا فحسب، بل على الأمير ألا يكثر من مشاركة الناس في معايشهم وأكلهم وشربهم وسمرهم حتى لا يبتذل ويهون أمره، فعليه ألا يخرج عليهم إلا غبًّا، ولا يضحك إلا تبسمًا خفيفًا، وأن يخفي ما استطاع الضحك من أعماق قلبه حفاظًا على هيبته… وألا يأكل إلا بطرًا؛ لأن ابتذاله معناه أنه لن يصبح مسموع الكلمة، ولا مرهوب الجانب، وإذا تجرد عن ذلك فلن يصلح أن يكون مديرًا أو أميرًا!!.
وبمطالعة سيرة النبي ﷺ يتأكد لك زيف هذه النظريات كلها، وأنك أمام مدير ناجح، وسياسي بارع، دون أن يلقي لهذه النظريات بالاً، بل يعمل جهده ﷺ على نسف هذه النظريات، وعلى أن الأمير ليس له درجة فوق الرعية سوى السمع والطاعة في المعروف، ثم هو بعد واحد من الناس.فكيف قاد الرسول أمته دون أن يخيفهم؟
وكان ﷺ يدعو على الأمير الذي يشق على الناس، فيقول: “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به.
ومما جاء من سيرته في بيان حرصه على أن يكون واحدًا كآحاد الناس، ما روته عائشة قالت: قلت: يا رسول الله! كُلْ -جعلني الله فداك- مُتكِئًا؛ فإنه أهون عليك. فأحنى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض وقال: “آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد فإنما أنا عبد”.
ومما جاء من مشاركته أصحابه في معايشهم، ما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كنت مع النبي ﷺ في غزاة، فأبطأ بي جملي وأعيا، فأتى على النبي ﷺ فقال: “جابر”. فقلت: نعم. قال: “ما شأنك”. قلت: أبطأ عليَّ جملي وأعيا، فتخلفت. فنزل يحجنه بمحجنه، ثم قال: “اركب”.
وحتى نعرف كيف قاد الرسول أمته دون أن يخيفهم؟يجب أن ندرك أنه كان ﷺ سهلا لينًا، يمكن لأي أحد أن يسأله ما يشاء حتى لو كانت حاجته صغيرة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله ﷺ فتنطلق به حيث شاءت.
حياة المساكين
ولم يكن رسول الله ﷺ يحب أن يكون واحدًا من عموم الناس فحسب، بل كان يحب أن يكون من المساكين، ففي الحديث أنه كان يقول ﷺ: “اللهم! أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين”5، وهذا الحديث سمعه منه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وليس مجرد دعاء دعا به النبي في ظلمة بيته، على مسمع من نسائه وأولاده؛ فماذا ينتظر من رجل يدعو الله أن يحيا وأن يموت وأن يحشر مع المساكين!! وهل مثل هذا الدعاء إذا تسامع به الناس يزرع الرهبة في قلوبهم من صاحبه؟.
ويسمعه أبو هريرة وأبو الدرداء رضي الله عنهما، وهو يقول: “ابغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله ﷺ في بيتي وكان بيده سواك فدعا وصيفة له أو لها “فأبطأت” حتى استبان الغضب في وجهه فخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهمة، فقالت: ألا أراك تلعبين بهذه البهمة ورسول الله ﷺ يدعوك. فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما سمعتك. فقال رسول الله ﷺ: “لولا خشية القَوَد لأوجعتك بهذا السواك.
وحتى ندرك جيدا كيف قاد الرسول أمته دون أن يخيفهم؟ لنتخيل أثر هذه الواقعة على الرعية، كيف يمكن أن يخافوا من رجل حينما غضب على جاريته، وتفجر الغضب في جوانبه، فزع إلى سواك بيده ليؤدبها به، ثم خاف قصاص ربه فلم يفعل؟.
الجواب أن هذه السيرة لم تكن لتغرس في نفوس الناس خوفًا ولا رهبة، وأنه صلّى الله عليه وسلم لم يعتمد على الإخافة أبدًا في سياسته، وهذه أمثلة تدل على ذلك بوضوح:
1 – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشى مع النبي ﷺ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي ﷺ قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مُرْ لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء.
2 – في الصحيحين أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ وهو يقسم قسمًا أتاه ذو الخويصرة -وهو رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: “ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل”.
3 – وفي صحيحي البخاري ومسلم: “استأذن عمر على رسول الله ﷺ وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر، قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله ﷺ، ورسول الله ﷺ يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله. قال: “عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يهبن. ثم قال: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله ﷺ؟ قلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله ﷺ”.
نوازع الإنسانية
وربما ظن أحد أنه رسول الله ﷺ لم يكن مثل البشر في بشريتهم ونوازعهم، فربما كان ملكًا أو نصف ملك، وهذا خطأ واضح، يحلو لبعض الناس أن يقول به حتى يتخلص من لومه وتقريعه إذا طغت عليه بشريته، واستجاب لنوازعها.
ويرد ذلك رسول الله ﷺ بوضوح ظاهر فيقول: “يا أم سليم! أما تعلمين أن شرطي على ربي؟ أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورًا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة.
ولا يكاد ينقضي العجب من رجل به نوازع البشر كيف لم يضرب أحدًا طوال حياته؟ ألم يغضب فيستبد به الغضب؟ ألم يستفز مرة؟ هل كانت كل أوامره مجابة، وأمنياته قيد التحقيق؟ أليس قد أمر فعصي؟ أليس قد أوصى فنسي الموصى إليه أو تناسى؟ أليس قد حذر في أمور تخصه فما أطيع؟.
كيف يمكن لبشر أن يفهم ما رواه مسلم عن عائشة، حين تقول: “ما ضرب رسول الله ﷺ شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل”. ولا امرأة ولا خادمًا -يا رسول الله- ذينك الضعيفين اللذين يتأسد عليهما الجبان، ويستقوي عليهما الضعيف، ويستعلي عليهما الوضيع؟.
ولا غرو، فقد كان السبب الرئيس وراء إباء صناديد قريش من دعوته أنه جاء ليحرر البشرية من الخوف والاستبداد، جاء ليجمع السياط والأذناب والكرابيج من يد أبي لهب وأمثاله فيلقي بها في حفرة عميقة، لا تخرج منها أبدًا، جاء ليحرر الظهور من الجلد والضرب، بنفس الدرجة التي حرر فيها القلوب والعقول من الخرافة وعبادة الناس.
واتساقًا مع هذه السياسة أشار على فاطمة بنت قيس ألا تتزوج من أبي جهم، روى مسلم أن فاطمة بنت قيس قالت: يا رسول الله: إن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني؛ فقال رسول الله ﷺ: “أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه. وأما معاوية فصعلوك لا مال له. انكحي أسامة بن زيد فكرهته”، ثم قال: انكحي أسامة؛ فنكحته فجعل الله فيه خيرًا واغتبطت.
إن الحياة اليومية مليئة بالمواقف التي تطيش فيها العقول، ويستبد فيها الغضب بصاحبه، فلا يملك الإنسان فيها إلا أن يجهل ويعاقب وينتقم ويسرف في العقاب، وسياسة الناس مع كبح جماح النفس أمر في غاية الصعوبة.
ولمعرفة كيف قاد الرسول أمته دون أن يخيفهم، نقول أن هذه هي المعادلة التي حققها محمد ﷺ بنجاح واقتدار؛ روى أحمد وغيره أن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ جلس بين يديه فقال: “يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأسبهم فكيف أنا منهم؛ فقال له رسول الله ﷺ: “يحسب ما خانوك وعصوك وما كذبوك وعقابك إياهم، فإن كان دون ذنوبهم كان فضلا لك عليهم، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك”.
فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله ﷺ ويهتف، فقال رسول الله ﷺ: ما له ما يقرأ كتاب الله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}؛ فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئًا خيرًا من فراق هؤلاء يعني عبيده، إني أشهدك أنهم أحرار كلهم…
فهذا واحد من الناس وجد أن سياسة نفر من عبيده -علّهم يبلغون عشرة على أقصى تقدير- دون صياحة وسب وضرب أمر ليس بالإمكان، فلم يجد أمامه إلا أن يعتقهم حتى لا يدخل بهم النار؛ فكيف ساس رسول الله ﷺ أمة فيها الحاضر والباد، والسهل والصعب، واللين والغضوب.. دون أن يحتاج إلى سوط أو سب، أو تهديد بشيء منهما.
وهذا أبو مسعود البدري يضرب عبده بالسوط -ومن منا لم تمتد يده على ولده أو تلميذه يومًا- يقول: “كنتُ أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعتُ صوتًا من خلفي: اعْلَم أبا مسعود، فلم أفهم الصوتَ من الغضب، قال: فلما دنا مني، إذا هو رسول الله ﷺ فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أَقْدَرُ عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: لا أَضرب مملوكًا بعده أبدًا”. وفي رواية: “فسقط من يدي السَّوطُ من هيبته”.
وفي أُخرى: “فقلتُ: يا رسول الله، هو حُرّ لوجه الله تعالى، فقال: أَمَا لو لم تفعل لَلَفَحَتْكَ النار – أو لَمَسَّتْكَ النارُ”. والعجيب أن الواقعة تتحدث عن العبيد، وما أدراك ما نفسية العبيد، حتى لا يتعلل أحد أن من الناس، من مثله مثل العبيد لا يساس إلا بالعصا.
حتى نصل إلى تحقيق المعادلة في مسألة كيف قاد الرسول أمته دون أن يخيفهم؟ نقول إن حسم الأمر بالعصا -مهما تذرع من أسباب كالتأديب والتقويم- إفلاس في ميدان التربية، وإعلان صريح أن هذا السائس لا يصلح إلا أن يكون راعيًا لقطيع من الخنازير، ووالله لن يرضى الإسلام أيضًا للراعي أن يضرب الخنازير إلا بقدر.
سياسة الصفح الجميل
عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ من أحسن الناس خلقًا فأرسلني يومًا لحاجة فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله ﷺ، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا برسول الله ﷺ قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: “يا أنيس ذهبت حيث أمرتك؟”. قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله. رواه مسلم.
وفي صحيح مسلم أيضًا، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين والله ما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟.
وفي حديث ماعز الشهير الذي جاء معترفًا لرسول الله ﷺ بجريمة الزنى، فيرده رسول الله ﷺ غير مرة، فلما ثبتت الجريمة، وكان لا بد من العقاب، أمر به فرجم، فلما وجد ماعز مسّ الحجارة خرج يشتد في الهرب، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد أعجز أصحابه، فانتزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله، ثم أتى النبي ﷺ فذكر له، فقال: “هلا تركتموه، لعله يتوب فيتوب الله عليه”.
بل يعلنها على رؤوس الأشهاد: “أيها الناس.. قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله؛ فإنه من يبدِ لنا صفحته نُقِم عليه كتاب الله”.
ولم تكن هذه الرحمة خاصة بالمسلمين، فعن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي ﷺ بعث سرية فغنموا وفيهم رجل، فقال لهم: إني لست منهم، عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها نظرة ثم اصنعوا بي ما بدا لكم، فنظروا فإذا امرأة طويلة أدماء فقال لها: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش.
أرأيت لو تبعتكم فلحقتكم بحلية أو أدركتكم بالخوانق أما كان حق أن ينول عاشق تكلف إدلاج السرى والودائق؟ قالت: نعم فديتك، فقدموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقفت عليه، فشهقت شهقة ثم ماتت، فلما قدموا على رسول الله ﷺ فقال: ”أما كان فيكم رجل رحيم”.
فكيف قاد الرسول أمته دون أن يخيفهم؟ وكيف حقق النبي ﷺ هذه المعادلة الصعبة، ساس الناس فأحسن سياستهم، دون أن يخيفهم، أو يأخذهم بشيء من العسف والظلم؟ وكيف استقام له الناس ولانوا له دون أن يخافوه؟.