ينظر الناس بإعجاب إلى تراث الأجداد، ويتعجبون من قدرة بعضهم على التأليف بغزارة وعمق في جوانب مختلفة من العلم، ويرددون أسماء لامعة في تاريخ فكرنا اتسمت بالتوسع والتنوع في التأليف مثل ابن سينا والذهبي وابن حجر العسقلاني وابن تيمية والسيوطي، ويتحسرون على انقطاع هذه السلسلة من الأعلام الأفذاذ، وعلى ضياع الهمة وضعف الإرادة وانشغال أهل العلم بما لا يفيد، ولو أنهم أمعنوا النظر لتبين لهم أنهم لن ينصفوا وأن هواهم للقديم وميلهم له حجب عنهم رؤية نجوم لامعة ملأت حياتنا المعاصرة فكرا وأدبا وعلما، وكتبت آلاف الصفحات في موضوعات مختلفة اتسمت بالموضوعية وسعة العلم وعمق التناول مع جمال في البيان والأسلوب، وليس ثمة شك في أن محمد عزة (وتنطق عِزّت) دروزة كان واحدا من هؤلاء الأفذاذ، ارتاد مجالات كثيرة؛ فكان أديبا وصحفيا ومترجما ومؤرخا ومفسرا للقرآن.
المولد والنشأة
في مدينة نابلس بفلسطين كان مولد محمد عزة دروزة في (11 من شوال 1305هـ = 21 من يونيو 1887م) ونشأ في أسرة كريمة من قبيلة “الفريحات” التي كانت تسكن الأردن وانحدرت إلى فلسطين واستوطنت نابلس، وكان والده يعمل في تجارة الأقمشة في نابلس، وتلقى دروزة تعليمه في المدارس الابتدائية، وحصل على الشهادة الابتدائية في سنة 1318هـ = 1900م ثم التحق بالمدرسة الرشيدية في نابلس، وهي مدرسة ثانوية متوسطة، وتخرج فيها بعد ثلاث سنوات، حاصلا على شهادتها.
في ميدان العمل
ولم تمكنه ظروف أسرته المادية من استكمال دراسته، فاكتفى بهذا القدر من الدراسة النظامية، والتحق بالعمل الحكومي موظفًا في دائرة البرق والبريد بنابلس (1324هـ = 1906م)، ثم انتقل إلى بيروت للعمل في مديرية البرق والبريد سنة (1333هـ = 1914م) ثم أصبح مديرًا لها، ثم رُقِّي مفتشًا لمراكز البرق والبريد المدنية في صحراء سيناء وبئر سبع، وظل يترقى في وظائفه حتى أصبح في سنة (1341هـ = 1921م) سكرتيرا لديوان رئيس الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن، لكنه تركه بعد شهر، واتجه إلى ميدان التعليم.
وقد حفزه عدم إتمام الدراسة على إكمال ثقافته، وتغطية جوانب النقص بها بالقراءة والاطلاع الدؤوب، قرأ ما وقع تحت يديه من كتب مختلفة في مجالات الأدب والتاريخ والاجتماع والحقوق سواء ما كان فيها باللغة العربية أو بالتركية التي كان يجيدها، ويسرت له وظيفته في مصلحة البريد أن يطلع على الدوريات المصرية المتداولة في ذلك الوقت كالأهرام والهلال والمؤيد والمقطم والمقتطف، وكان البريد يقوم بتوزيع هذه الصحف على المشتركين بها، وهذه الدوريات كانت تحمل زادا ثقافيا متنوعا، ففتحت آفاق الفكر أمام عقل الشاب النابه، ووسعت مداركه، وصقلت مواهبه، وأوقفته على ما يجري في أنحاء الدولة العثمانية من أحداث.
وفي أثناء هذه الفترة التي عملها بدائرة البرق والبريد اتصل بالصحافة، وبدأت محاولاته الأولى في الكتابة، فشارك في تحرير جريدة “الإخاء العثماني” التي كان يصدرها في بيروت أحمد شاكر الطيبي، وكان يترجم لها فصولا مما ينشر في الصحف التركية عن أخبار الدولة العثمانية وأحوال الحركة العربية، وكان يخص جريدة “الحقيقة” البيروتية، التي كان يصدرها كمال بن الشيخ عباس بمقال أسبوعي يتناول موضوعا اجتماعيا أو وطنيا، وشارك أيضا بالكتابة في جريدة فلسطين التي كان يصدرها عيسى العيسى في يافا، وجريدة الكرمل التي كان يصدرها نجيب نصار في حيفا.
في ميدان التربية والتعليم
انتقل دروزة مع فرض الانتداب البريطاني في فلسطين سنة 1342هـ = 1922م إلى ميدان التربية والتعليم، فتولى إدارة مدرسة النجاح الوطنية في نابلس، وتحولت المدرسة على يديه إلى مركز من مراكز الوطنية إلى جانب رسالتها التعليمية والتربوية، فكانت تلقن طلابها حب العرب والعروبة، وتشعل في قلوبهم جذوة الوطنية، وتضع البرامج التي تغذي فيها الاعتزاز بالأمجاد العربية والإسلامية.
وكانت لدروزة خلال إدارته المدرسة محاضرة أسبوعية في الأخلاق، والاجتماع يلقيها على طلاب الصفوف الثانوية، وظل ملتزما بهذا العمل خمس سنوات متصلة، ولم تشغله أعباء المدرسة عن كتابة المقالات الاجتماعية والتربوية، التي كان يمد بها مجلات “الكشاف” في بيروت، و”المرأة الجديدة” في القاهرة، ونشر مقالات سياسية في جريدتي “الجامعة العربية” و”القدس” في فلسطين.
وأدت جهوده في السنوات الخمس التي تولى فيها إدارة المدرسة إلى تحسين نظمها وارتقاء مناهجها حتى أصبحت ذات مكانة كبيرة وتجلى أثره في توجيهها الوطني حيث تخرج في عهد رئاسته، وتتلمذ على يديه كثير من شباب فلسطين الذين كان لهم دور بارز في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية.
الحفاظ على الأوقاف الفلسطينية
انتقل دروزة في سنة 1347هـ = 1928م إلى العمل في إدارة الأوقاف الإسلامية؛ حيث عُين مأمورا للأوقاف في نابلس، ثم رُقِّي في سنة 1351هـ = 1932م مديرا عاما للأوقاف الإسلامية في فلسطين، وظل يشغل هذا المنصب حتى اندلاع الرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية التي كانت قد شبت في سنة 1355هـ = 1936م، ولما كان دروزة من القائمين عليها أصدرت إدارة الانتداب البريطاني قرارًا بعزله عن منصبه في سنة 1356هـ = 1937م وقرارا آخر بمنعه من العودة إلى فلسطين حيث كان خارجها عند استئناف الثورة، ومنذ ذلك التاريخ ابتعد دروزة عن تولي الوظائف الحكومية والأهلية.
مشاركته في الحركة القومية
محمد عزة دروزة مع رفاقه من زعماء الحركة الوطنيةفي فلسطين
بدأ نشاط محمد عزة دروزة في ميدان الحركة الوطنية مبكرًا في سنة 1327هـ= 1909م، وشارك في إنشاء الجمعيات الوطنية والأحزاب السياسية، وشارك بتأليف الروايات القومية والمسرحيات التي تمجد العروبة، وتعبّر عن المطامح القومية والرغبة في النهوض، وتبوأ المكانة اللائقة، مثل رواية “وفود النعمان على كسرى أنوشروان” سنة 1333هـ = 1911م، و”السمسار وصاحب الأرض” سنة 1333هـ = 1913م.
وأتاح له عمله المتجول الاتصال بكثير من الشخصيات الوطنية والقومية البارزة وتشكيل الجمعيات الوطنية، التي أصبحت قاعدة الحركة الوطنية في فلسطين مثل “الجمعية الإسلامية المسيحية” وتولى سكرتيريتها، حتى يشعر العالم بأن المعارضة للمطامع الصهيونية من المسلمين والمسيحيين على السواء، وأن دروزة من الداعين إلى توحيد الجمعيات الوطنية التي تعمل في أنحاء فلسطين والتنسيق بين جهودها؛ فعقد المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس في ربيع الأول 1337 = يناير 1919م برئاسة عارف الدحاني، وكان أهم ما صدر عن المؤتمر التأكيد على المطالب القومية في الاستقلال والوحدة واعتبار فلسطين جزءا من سوريا، وفض المطامع الفرنسية وتجديد العلاقات مع بريطانيا على أساس التعاون فقط وعدم قبول أي وعد أو معاهدة جرت بحق البلاد ومستقبلها، وتولى دروزة مع زميل له إعداد مذكرة بخصوص هذا الشأن وتقديمها إلى الحاكم العسكري للبلاد لإرسالها إلى الحكومة في بريطانيا، وإلى مؤتمر السلم المنعقد في باريس، وانغمس دروزة في النشاط الوطني الفلسطيني منذ أن استقر في نابلس، فشارك بجهود مشكورة في انعقاد المؤتمرات السياسية التي كانت تخطط للحركة الوطنية وتتابع نشاطها، وكان على رأس المقاومين للسياسة البريطانية ومشروعاتها المختلفة، فقام مع رفاقه بحركة مقاطعة الدستور وانتخاب مجلس تشريعي مغلول اليد؛ الأمر الذي ترتب عليه وأد الفكرة وقتلها في مهدها، وقاد مظاهرات مختلفة ضد السياسة البريطانية، وأدى هذا إلى اعتقاله، وتقديمه للمحاكمة، والحكم عليه بالسجن، مثلما حدث له في سنة 1353هـ = 1934م، وكان دروزة أحد قادة ثورة فلسطين في سنة 1355هـ= 1936م حيث دعت إلى الإضراب العام، وتحول الإضراب إلى ثورة شعبية كاسحة.
ومال دروزة إلى اتخاذ إجراءات متصاعدة ضد السلطة البريطانية ما لم تستجب لمطالب البلاد، ولم تجد بريطانيا لمواجهة هذه الثورة بُدًّا من اعتقاله هو وزملائه، ولما تجددت الثورة سنة 1356هـ= 1937م كان المسئول عن التخطيط السياسي للثورة الفلسطينية، وكانت تتلقى أوامرها من دمشق حيث كان يقيم دروزة، وغيره من القيادات الفلسطينية اللاجئين بها، وظل هناك قائما على أمر الثورة الفلسطينية حتى اعتقله الفرنسيون بتحريض من الإنجليز في 1358 هـ = 1939م، وحوكم أمام محكمة عسكرية فأصدرت عليه حكما بالسجن، ثم أُفرج عنه سنة 1360هـ= 1941م فذهب إلى تركيا لاجئا، وقضى هناك أربع سنوات عاد بعدها إلى فلسطين، واستمر دروزة يقوم بدوره السياسي في خدمة القضية الفلسطينية حتى اشتد عليه المرض في سنة 1367هـ=1948م، فاستقال من عضوية الهيئة العربية العليا لفلسطين وتفرغ للكتابة والتأليف، وقد سجل مذكراته في ستة مجلدات ضخمة، حوت مسيرة الحركة العربية والقضية الفلسطينية خلال قرن من الزمان.
إنتاجه الفكري
لم يحل انشغال دروزة بالحركة الوطنية الفلسطينية والمشاركة في قيادتها عن الكتابة والتأليف، فبدأ يؤلف خدمة للحركة الوطنية والنهوض بطلاب العلم في المدارس، فكتب رواياته الوطنية التي تشعل الحماس في النفوس الناشئة، وألف مختصرا في تاريخ العرب، بعنوان “دروس التاريخ العربي من أقدم الأزمنة حتى الآن”، وهو كتاب مدرسي للصفوف الابتدائية، وظل معتمدا في جميع المدارس العربية والوطنية الخاصة في فلسطين، ثم اتجه إلى التأليف العام، وهو يدور في ثلاث دوائر يكمل بعضها بعضا ويكمل كل منها رسالة الآخر.
أما الدائرة الأولى فهي الدائرة الفلسطينية،وقد أسهم فيها بعدد من المؤلفات يأتي على قمتها مذكراته الضخمة التي تُعد أضخم عمل في هذا الباب من كتابه “المذكرات الشخصية”، كشفت جوانب غامضة، وأعانت على تفسير بعض القضايا المبهمة في مسيرة العمل الوطني الفلسطيني، وإلى جانب هذا العمل الكبير ألَّف كتبا كثيرة تخدم القضية الفلسطينية، مثل: “القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها” و”مأساة فلسطين”، “فلسطين” و”جهاد الفلسطينيين عبرة من تاريخ فلسطين”، “قضية الغزو الصهيوني”، “في سبيل فلسطين”، “فلسطين والوحدة العربية” و”من وحي النكبة صفحات مغلوطة” و”مهملة من تاريخ القضية الفلسطينية”.
أما الدائرة الثانية فهي الدائرة العربية، وأسهم فيه مؤلفات متعددة منها:
ـ تاريخ الجنس العربي في مختلف الأطوار والأدوار والأقطار من أقدم الأزمنة، وصدر في ثمانية أجزاء نحو ثلاثة آلاف صفحة.
ـ العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي، وصدر في تسعة أجزاء.
ـ الوحدة العربية، في مجلد كبير، وقد نال عنه جائزة من المجلس الأعلى والفنون والآداب بمصر في سنة 1951م.
ـ حول الحركة العربية الحديثة، في ستة أجزاء.
ـ نشأة الحركة العربية الحديثة، في مجلد واحد، تناول فيه أحوال العرب وتاريخ الدولة العثمانية، والجمعيات العربية التي كانت تطالب بالانفصال عن الدولة العثمانية.
أما الدائرة الثالثة: فهي الدائرة الإسلامية، وشارك فيها بمؤلفات متعددة، يتصدرها عمله الكبير “الدستور القرآني والسنة النبوية في شئون الحياة”، وطُبع في مجلدين كبيرين، أوضح فيه ما احتواه القرآن والسنة النبوية من نظم لمختلف شئون الحياة، ويمثل هذا المؤلف تحولا كبيرا في حياة مؤلفه بعد أن استوفى دراسات التاريخ القومي وقضايا المجتمع العربي، حيث اتسعت نظرته أنه لا نجاح للأمة العربية في تحقيق أهدافها دون التماس منهج القرآن والالتزام به.
وله أيضا “التفسير الحديث”، التزم فيه تفسير القرآن الكريم حسب ترتيب نزول السور، وبدأ في تأليفه عندما كان لاجئا في تركيا، وصدر في 12 جزءا، وشارك في كتابة السيرة النبوية بكتابه المعروف “سيرة الرسول ﷺ صورة مقتبسة من القرآن”، وصدر في مجلدين.
وإلى جانب هذه الكتب الثلاثة الكبيرة له مؤلفات إسلامية متنوعة تواجه الاستشراق والتبشير مثل: “القرآن والمرأة”، “القرآن والضمان الاجتماعي”، “القرآن والمبشرون اليهود في القرآن الكريم”.
وفاته
وبعد هذه الحياة العريضة التي حياها “محمد عزة دروزة” مناضلا وكاتبا، وافته المنية في دمشق بحي الروضة في يوم الخميس الموافق (28 من شوال 1404هـ = 26 من يوليو 1984م).
هوامش ومصادر:
- محمد عزة دروزة: مذكرات محمد عزة دروزة – دار الغرب الإسلامي بيروت – 1993م.
- عادل حسن غنيم: محمد عزة دروزة – دار النهضة العربية – القاهرة – 1987م.
- أنور الجندي: أعلام القرن الرابع عشر الهجري – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة – 1981م.
- محمد خير رمضان: تتمة الأعلام للزركلي – دار ابن حزم – بيروت – 1418هـ = 1998م.