يعد “محمود حمدي الفلكي” واحدًا من أبرز الفلكيين العرب في العصر الحديث، وهو أحد رواد النهضة العلمية الحديثة في مصر، وصاحب العديد من الأبحاث المبتكرة والدراسات الفلكية المتميزة التي نالت تقدير وإعجاب علماء الغرب، وكانت بداية حقيقية لظهور “علم الفلك الأثري” الذي ربط بين الظواهر الفلكية والشواهد والمعالم الأثرية على نحو غير مسبوق.
من القرية إلى المدينة
ولد “محمود أحمد” عام (1230هـ= 1815م) في قرية “الحصة” من أعمال “مديرية الغربية”، وتلقى العلم في بدايات حياته في الكتاب كغيره من أبناء القرية.
فلما بلغ العاشرة من عمره أخذه شقيقه الأكبر معه إلى مدينة “الإسكندرية”؛ حيث التحق بالمدرسة وتلقى تعليمه الأولي.
وفي سنة (1239هـ=1824م) التحق بالمدرسة البحرية التي كان يطلق عليها “دار الصناعة” أو “الترسانة”، وهي الدار التي أنشئت على يد الفرنسي المسيو “سيريزي” خبير بناء السفن.
وفي هذه الدار اكتسب “محمود أحمد” العديد من المعارف الحديثة والعلوم العصرية، وأحرز تقدمًا كبيرًا في دراسته، واختلط بعناصر وشخصيات عديدة من دول مختلفة.
بين الطموح والنبوغ
وتخرج “محمود أحمد” في المدرسة البحرية سنة (1249هـ=1833م) برتبة البلوك أمين، ولكن طموحه لم يقف عند هذا الحد، فالتحق –بعد ذلك- بمدرسة البوليتكنيك وتخرج فيها في نهاية عام (1255هـ=1839م)، وكان أول دفعته، ومنح رتبة “الاسبران” –(الملازم)- وعين معيدًا بالمدرسة، وصار مدرسًا لعلم الجبر بها.
ورشحه أستاذه “علي مبارك باشا” لبعثة إلى “فرنسا” لنبوغه وتفوقه، وكان “محمود أحمد” شغوفًا بالعلوم الرياضية، كما حرص على إتقان اللغة الفرنسية، وهو ما ساعده على ترجمة أول كتاب لعلم “التفاضل والتكامل” من اللغة الفرنسية إلى العربية.
اتجاه “محمود أحمد” إلى دراسة الفلك
وفي عام [1258هـ=1842م] حصل على رتبة “اليوزباشي” –(النقيب)- واتجه إلى دراسة علم الفلك، الذي ولع به عندما كان يقوم بأعمال الرصد في الرصدخانة، وكان بالبرج التابع للمرصد ساعة فلكية وآلات رصد حديثة، استطاع محمود أحمد أن يفيد منها كثيرًا وتدرب عليها مما زاد في مهاراته وخبراته.
وفي تلك الفترة أعد محمود أحمد بحثًا بعنوان: نبذة مختصرة في تعيين عروض البلاد وأطوالها وأحوالها المتحيرة وذوات الأذناب واللحى.
وقد صاغه بأسلوب علمي رصين، يختلف عن أنماط الكتب العربية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وهو ما لفت الأنظار –منذ وقت مبكر- إلى علمه وموهبته وتميزه.
البعثة إلى فرنسا
وكرس محمود أحمد الفترة الأولى من حياته –أثناء قيامه بالتدريس بالمهندس خانة للرياضيات وعلم الفلك- للاطلاع والبحث.
وفي عام (1265هـ=1848م) أنعم عليه برتبة “الصاغ قول أغاسي”، ثم سافر في بعثة علمية إلى فرنسا في (غرة ذي الحجة 1266هـ=8 من أكتوبر 1850م) مع زميليه إسماعيل مصطفى، وحسين إبراهيم.
ومنذ ذلك الوقت اكتسب لقب الفلكي ليعرف –بعد ذلك- باسم محمود حمدي الفلكي، وهو اللقب الذي لازمه طوال حياته.
العودة إلى مصر
وفي عام (1271هـ=1854م) حصل على شهادته العليا بعد وصوله إلى باريس بأربع سنوات، ولكنه لم يكتفِ بذلك، فراح يتنقل بين العواصم والدول الأوروبية المختلفة، وأتم عددًا من البحوث الفلكية والجيوفيزيقية الهامة.
وظل محمود الفلكي في فرنسا وأوروبا نحو تسع سنوات، عاد بعدها إلى مصر في (19 من المحرم 1276هـ= 18 من أغسطس 1859م) في عهد الخديوي سعيد، ومنح الرتبة الثانية.
كما انتخب عضوًا بالمجمع العلمي المصري، وتدرج في العديد من المناصب الحكومية الرفيعة حتى صار وزيرًا للمعارف.
الفلكي وأرصاد كسوف الشمس
وحينما طلب علماء فرنسا من الخديوي سعيد رصد كسوف الشمس كلفه الخديوي بتسجيل هذا الكسوف، وجهزت عدة بعثات من المراصد الكبرى لمشاهدة تلك الظاهرة الفريدة.
وكانت منطقة الكسوف الكلي تبدأ من كاليفورنيا، وتمتد حتى جنوب إفريقيا عبر المحيط الأطلسي، ولم تكن مدة الكسوف الكلي تزيد عادة عن دقيقة واحدة، وقد اختار محمود الفلكي مديرية نقلة في شمال السودان مكانًا للرصد، فسافر إلى هناك عن طريق النيل، ووصل إلى المكان المحدد قبل موعد الكسوف بخمسة عشر يومًا.
وبرغم الخلل الذي أصاب أدوات الرصد الدقيقة نتيجة نقلها على ظهر الجمال، فقد استطاع محمود الفلكي رصد الكسوف لحظة بلحظة، وسجل ذلك في تقريره الذي رفعه إلى أكاديمية العلوم بباريس.
وتعد أرصاد كسوف الشمس من أدق وأفضل الأعمال الفلكية التي قام بها محمود الفلكي، والتي حازت إعجاب العلماء في العالم كله.
الفلكي وزيرًا للمعارف
وبعد ذلك كلفه الخديوي سعيد برسم خريطة الوجه البحري، فرسم خريطة في غاية الدقة والصحة، قامت الحكومة بطبعها على نفقتها، ثم عممتها في كراريس تلاميذ المدارس.
وما زالت تلك الخريطة تعد مرجعًا تاريخيًا للدارسين والباحثين، وقد لقي محمود الفلكي تقدير ورعاية الخديوي، فأنعم عليه برتبة المتمايز في (12 من جمادى الأولى 1287هـ=14 من أغسطس 1870م).
وقد انتخب محمود الفلكي عضوًا في المجلس العالي الذي ألف في عهد وزارة شريف باشا للنظر في توسيع نطاق المعارف العمومية في البلاد، كما ناب عن الحكومة المصرية في المؤتمر الجغرافي الذي عقد في مدينة البندقية عام (1298هـ=1881م).
كما كان وزيرًا للأشغال في وزارة محمود سامي البارودي، ثم عين ناظرًا للمعارف العمومية في وزارة نوبار التي تألفت في (9 من ربيع الأول 1301هـ=10 من يناير 1884م)، وظل في هذا المنصب حتى أدركته الوفاة في (6 من شوال 1303هـ=19 من يوليو 1885م) عن عمر بلغ نحو سبعين عامًا.
الفلكي رائد علم الفلك الأثري
تميزت الأبحاث التي قدمها محمود الفلكي بالابتكار والجدة، سواء تلك التي كتبها أثناء وجوده في باريس أو التي كتبها بعد عودته إلى مصر.
وكانت بحوثه الدقيقة في علم الفلك موضع تقدير واحترام علماء الغرب، ويعد محمود الفلكي رائد علم الفلك الأثري، وله بحوث قيمة في هذا المجال، مثل بحثه القيم الذي استطاع من خلاله تحديد عمر الهرم الأكبر عن طريق الفلك والأرصاد الفلكية، مما لم يسبقه إليه أحد من علماء الفلك الغربيين.
وتوصل إلى نتائج دقيقة مذهلة كانت مثار إعجاب الفلكيين والأثريين على حد سواء، ومن أبرز مؤلفاته ورسائله:
- بيان المزايا التي تترتب على إنشاء مرصد فلكي للحوادث الجوية.
- التقاويم الإسرائيلية: (طبع في بروكسل سنة 1855م).
- التقويم العربي قبل الإسلام: (طبع بمطبعة بولاق).
- التنبؤ بمقدار فيضان النيل قبل فيضانه.
- الحالة الحاضرة للمواد المغناطيسية الأرضية في باريس: (قدمت للمجمع العلمي الفرنسي سنة 1856م).
- حساب التفاضل والتكامل: (طبع بمطبعة بولاق).
- شدة المجال المغناطيسي في بلجيكا وألمانيا وفرنسا: (نشر بالمجلة الآسيوية سنة 1859م).
- عمر الأهرام والغرض من بنائها كما يقرآن على نجم الشعري: (نشرت بالمطبعة المصرية الفرنسية سنة 1885م).
- الكسوف الكلي للشمس في دنقلة: (طبعت بباريس سنة 1861م).
- مشابهة “كان” الناقصة للفعل الفرنسي Avoir: (نشرت بالمجلة الأسيوية سنة 1861م).
- المقاييس والمكاييل: (طبعت في كوبنهاجن سنة 1873م).
- نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام: (نشرت بالمجلة الأسيوية سنة 1858م).
- نبذة مختصرة في تعيين عروض البلاد وأطوالها: (مخطوط بدار الكتب).
- وصف مدينة الإسكندرية القديمة وضواحيها: (طبعت في كوبنهاجن سنة 1872م).
سمير حلبي
أهم مصادر الدراسة:
الجغرافيون العرب: مصطفى الشهابي- دار المعارف بمصر– القاهرة- (د. ت).
الظواهرالفلكية المرتبطة ببناء الأهرام: محمود باشا الفلكي- مكتبة الأنجلو المصرية– القاهرة- (1391هـ=1971م).
محمود حمدي الفلكي: (أعلام العرب– 49)- أحمد سعيد الدمرداش- الدار المصرية للتأليف والترجمة– القاهرة- (1385هـ=1965م).
محمود الفلكي: د. إبراهيم حلمي عبد الرحمن- (ضمن سلسلة أحاديث كلية العلوم– جامعة القاهرة– المجموعة الثانية: 1946م).