أنا في الحق موزع بين شاطئين كلاهما خصب وثري، أجلس على شاطئ وأستعذب التأمل في الآخر.. وأعرف أن الفن أنا، والعلم نحن، ذبت في الـ نحن وأحن إلى الأنا، وأعرف أن الفن هو القلق وأن العلم هو الطمأنينة؛ فأنا مطمئن أرنو إلى القلق” هذا هو أحمد مستجير كما يعرف نفسه، وكما لا يستطيع أحد غيره أن يعرفه.
ولد مستجير في ديسمبر 1934 بقرية الصلاحات – محافظة الدقهلية – شمال مصر، وفي المرحلة الثانوية اهتم مستجير بكتب البيولوجيا؛ لأنه أحب مدرسها “خليل أفندي” الذي تخرج في كلية الزراعة، فأحب مستجير أن يلتحق بنفس الكلية، افتتن بأستاذه في الكلية عبد الحليم الطوبجي أستاذ علم الوراثة، فسلك ذات التخصص، وبلغت ثقة “الطوبجي” في مستجير “الطالب” أنه لما احتاج أن يكتب مذكرة للطلاب ولم يكن وقته يسمح بذلك أعطى الطلاب ما كتبه أحمد في المحاضرات!
مؤثرات في تكوينه: الخضرة ووالده
أحب من صغره هذا اللون المبهر، وعن ذلك يقول: “أنحاز إلى الأرض الريفية؛ لأني ابنها، وربما كان تفوقي في كلية الفلاحين (الزراعة) بسبب عشقي للزراعة والخيال واللون الأخضر، والريف هو عشقي الأبدي ومنبع الرومانسية المتأججة بداخلي”.
كما أثر فيه والده تأثيرا كبيرا، فقد كان والده قارئا نهما، ملأ المنزل بالكتب، فشابهه في حب القراءة كما شابهه في ملامحه الخلقية، وكان الأديب “كامل الكيلاني” صديقا لوالده فزوده بعشرات الكتب يشتريها له من المنصورة (إحدى المدن القريبة من قريته).
حين كان في العاشرة من عمره نهر مدرس اللغة الإنجليزية “شفيق أفندي” أحد التلاميذ قائلا: “روح موت”، ومضت ثلاثة أيام ولم يظهر يوسف وفي اليوم الرابع وصل للأطفال خبر موته، فبكى مستجير طويلا، واعتقد أن شفيق أفندي قتل زميله (!!)، ولم يكتف بالاعتقاد بل كتب خطابا لرئيس الوزراء أحمد ماهر باشا، لكن الناظر توفيق أفندي عفيفي حاول أن يقنعه بما حدث، ولكنه يقول عن نفسه: “لم أقتنع ساعتها أبدا”.
مستجير الإنسان
بعد أن تخرج مستجير الملقب بـ”الأديب المتنكر في صورة العالم”؛ نظراً لتعدد إسهاماته في أكثر من ميدان علمي وأدبـي وإنسانـي عام 1954، عمل مهندسا زراعيا لمدة 55 يوما فقط، تركت في نفسه أثرا كبيرا حيث تعامل مع الأرض بحب جارف. يذكر مستجير أنه أثناء إشرافه على الأرض لفت نظره طفل يجمع القطن، يقول إنه: “قرأ في وجهه وجه مصر؛ بهجة غامرة، وحزن بعيد وغامض وعميق”، فأعطاه قرشين، بعدها جاء مفتش من القاهرة وعلم ما فعله مستجير فعنفه وأوصاه أن يعامل الفلاحين بقسوة حتى يهابوه، ليلتها لم ينم وكتب في مفكرته: “هل تستلزم الوظيفة الجديدة قتل الإنسان داخلي؟.. هل يستكثرون أن يحظى الفلاح مني ببسمة؟ يكرهون أن يربت إنسان على كتف إنسان، أمن أجل 15 جنيها أحتاجها يقتلون فيَّ الإنسان؟”، ومن فوره ترك مستجير العمل.
بداية طريق العلم
التحق مستجير بالمركز القومي للبحوث عام 1955 ليحصل على الماجستير في تربية الدواجن من كلية الزراعة جامعة القاهرة سنة 1958 ويعمل معيدا بنفس الكلية، وفي هذه الفترة عرف من خلال قراءاته “آلان روبرتسون” أستاذ علم الوراثة البريطاني، فراسله وطلب منه مساعدته للالتحاق بمعهد الوراثة جامعة أدنبرة وقد كان.
ومن المواقف الطريفة التي أوقعته فيها جرأته أنه أثناء دراسته في المعهد ذهب إلى رئيس المعهد بروفيسور “وادنجتون” يشتكي من عدم فهمه شرح أحد الأساتذة؛ فاستدعاه على الفور وواجههما معا، وكانت النتيجة عقوبة قراءة كتاب إضافي مكون من 400 صفحة!”.
حصل عام 1961 على دبلوم وراثة الحيوان بامتياز، وكانت المرة الأولى في تاريخ المعهد أن يحصل طالب على هذا التقدير.. ثم بدأ العمل للدكتوراة مع أستاذه “آلان روبرتسون”، وعنه يقول مستجير: “ذلك الرجل الذي سافرت كي أتتلمذ على يديه، أصبح عندي بعد أن عرفته المثال الحق لرجل العلم! تواضعا وحبا للخير، كان أذكى من قابلت في حياتي”.
ولا ينسى مستجير يوم أن ذهب إلى سكرتيرة المعهد لتكتب له رسالة الدكتوراة، فاعتذرت عن كتابتها لأن بها جزءًا كبيرًا من المعادلات الجبرية، فخرج حزينا، وعلى باب مكتبها قابله روبرتسون، ولما عرف سبب حزنه أخبره أنه سيجعل زوجته تكتب رسالته، ونظرًا لهذه العلاقة الراقية التي نشأت بين أستاذ وتلميذه فبعد حصوله على الدكتوراة عام 1963 وعودته إلى وطنه لم تنقطع صلته بأستاذه، “بعد عودتي من أدنبرة كنت أتلقى منه في كل عيد بطاقة تهنئة بخطه الجميل، إلى أن توفي في أغسطس 1990”.
القرية الصغيرة الظالمة!!
حين كان يتابع نشرة الأخبار، ويسمع كيف أصبح العالم قرية صغيرة، كان يصرخ –بحسه الشاعري- ما أظلمها من قرية تلك التي تدع أطفالا تحولوا بفعل الجوع إلى هياكل عظمية؛ ولذا كان الأمل الذي يرفرف بين ضلوعه أن يقوم العلم بدوره الحقيقي في إنقاذ أرواح ملايين البشر، وتوفير الغذاء لمن يموتون جوعا، فحشد جهوده في تطوير مفهوم الزراعة واستنباط أنواع جديدة من المحاصيل والإنتاج الحيواني فأسس مركز علوم الوراثة وأصبح رائد علم الهندسة الوراثية في مصر والعالم العربي.
يردد مستجير دائمًا: “في عالمنا الآن أطفال يولدون للشقاء، لليل طويل بلا نهاية! في جعبة العلم الكثير الكثير، في جعبته طعام وبسمة لكل فم”.
يرى أن البيوتكنولوجيا تستطيع إسعاد الفقراء، فهي تتضمن زراعة الأنسجة ودمج الخلايا والهندسة الوراثية – وباستخدامها يمكن إنتاج نبات مقاوم للأمراض أو مقاوم للملوحة أو متميز بمحصول وفير، والبشر يعتمدون في غذائهم على القمح والأرز، من هنا بدأ د. مستجير في استنباط سلالات من القمح والأرز تتحمل الملوحة والجفاف يقول مستجير: “إننا نتبنى حاليا التكنولوجيات التي تصلح لحل مشاكلنا الخاصة ببلادنا، فلو عرفنا الاستغلال الأمثل لمياه البحر في الري، لتمكننا من إنتاج أصناف من المحاصيل الزراعية التي تتحمل الملوحة والجفاف”.
وتبرز أهمية هذه التجربة بعد قيام الشركات الأمريكية بإنتاج بذور عقيمة صالحة للإنتاج، ولكن لا تصلح للاستنبات مرة أخرى، وهو ما يحرم الفلاح من حقه الأزلي في الاحتفاظ بكمية من البذور لزرعها في الموسم القادم، ويجعل أمريكا تتحكم في المستقبل الغذائي للبشرية، وقد أطلق مستجير على هذه البذور “بذور الشيطان” محذرا من خطرها على زراعتنا واقتصادنا.. ولمستجير تاريخ حافل سواء في مسيرته العلمية أو مؤلفاته أو الجوائز التي حصل عليها.
مستجير.. شاعرًا مجيدًا
كان أحمد محمود أعز أصدقاء مستجير صديقا للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، تزاملا بمدرسة الزقازيق الثانوية، وكانت قصيدة “الملك لك” لصلاح عبد الصبور هي أول قصيدة من الشعر الحر يقرؤها مستجير، بعدها أحبهما (الشعر الحر وصلاح عبد الصبور). وكتب مستجير أول مرة في حياته قصيدة من الشعر الحر بعنوان “غدا نلتقي”، وطلب من صديقه أحمد أن يصطحبه ليقرأها أمام صلاح.
قرأ مستجير القصيدة فى خجل متخوفا أن يكون قد أصاب عبد الصبور بالملل، أما الشاعر فقد ظل صامتا إلى أن وصل مستجير لقوله “… فأصل المياه بكاء المحبين منذ القدم”، هنا نظر عبد الصبور إلى صديقه وقال: “كاتب هذه القصيدة شاعر” يومها طار مستجير فرحا، وبدأ يكتب الشعر وقد أصدر ديوانين هما: “عزف ناي قديم”، و”هل ترجع أسراب البط؟” (اقرأ قصيدته غدًا نلتقي).
ومن أبرز جهوده الأدبية كتاباته في عروض الشعر، وضع في إحداها نظرية علمية رياضية لدراسة عروض الشعر العربي وإيقاعاته الموسيقية أودعها في كتابه “مدخل رياضي إلى عروض الشعر العربي”، قدم فيها رؤية مختلفة في موسيقى الشعر، من شأنها أن تبسط أمره لكل من يود معرفته، عوضًا عن الطريقة التقليدية التي تعتمد على التفعيلات والتي تقوم على الذوق أساسًا.
زوجتي.. عميدة حياتي
يقول الدكتور أحمد مستجير: لحسن حظي أن زوجتي امرأة عظيمة تعرف كيف تدفعني للأمام، رغم أنها أوربية التقيت بها أثناء دراستي هناك وتزوجتها عام 1965، فإنها لم تتردد لحظة في ترك بلادها من أجلي، إن من أسرار نجاحي وجود مثل هذه الزوجة في حياتي، فإذا كانت عمادتي لكلية الزراعة استمرت 9 سنوات فإن زوجتي عميدة حياتي لأكثر من 35 عاما.
لدى مستجير 3 أبناء: طارق مهندس يعمل في الكمبيوتر والبرمجة، وسلمى معها ماجستير في اللغة الألمانية، ومروة تعمل في البيولوجيا الجزئية، وقد اكتشفت مع فريق الباحثين معها في فيينا أحد الجينات الوراثية التي تزيد من احتمال إصابة الإنسان بسرطان القولون والرئة.. فهل تكون مروة وريثة أبيها في كنزه العلمي؟ هذا ما قد تثبته الأيام.
أحمد عبد السلام5>