ان حصاد عام 2001 من الإنجازات العلمية والتقنية والصناعية كثيرا ومتنوعا ومهما، ولكن يحسب للعام المنصرم أن الأبحاث المتعلقة بالترانزيستور والدوائر الإليكترونية قد خطت فيه خطوات واسعة وجبارة للأمام. وسلطت الأضواء بشدة على الأبحاث الجارية في مجال تطوير الإليكترونيات لإنتاج الكمبيوترات المستقبلية بعد أن وقع اختيار مجلة “ساينس” (أشهر مجلة علمية في العالم)، للدوائر الإلكترونية المتناهية الصغر التي لا يزيد حجمها على حجم الجزيء المنفرد‏، لتكون أهم إنجاز علمي شهده العام‏ الماضي. وتعتمد الحقبة الجديدة على تطوير أداء وتصغير أحجام الترانزيستور الذي قاد الثورة الرقمية منذ أكثر من نصف قرن وما زال متربعا على عرش الصناعات الإليكترونية حتى الآن.

ويتوقع الخبراء أن الكمبيوترات الجديدة التي ستكون ذات سرعة عالية، وضئيلة الحجم من شأنها أن تقلب حياة الإنسان رأسا على عقب، مثلما انقلبت حياة البشر في منتصف القرن الماضي بعد اختراع الترانزيستور.

وسوف نأخذكم في جولة في هذا المقال لنتعرف على تاريخ الترانزيستور وحاضره ومستقبله وعلى الاتجاه العلمي الجديد الذي سيؤرخ بلا جدال لمنعطف علمي جديد، وقد يحدث ثورة غير مسبوقة في عالم الكمبيوتر والإليكترونيات.

 

مستقبل الترانزيستور.. "مور" في ذمة التاريخ!صورة مجمعة توضح بعض المراحل المهمة في تاريخ الترانزيستور

الترانزيستور.. مسيرة نصف قرن!

مستقبل الترانزيستور.. "مور" في ذمة التاريخ!

صورة تظهر أول ترانزيستور والعلماء الثلاثة الذين اشتركو في اختراعه

يعتبر كثير من المؤرخين أن اختراع الترانزيستور كان أهم اختراع في القرن الماضي، ولخّص “مايكل رايوردان” تاريخ الترانزيستور في كتابه “النار البلورية” بقوله: “أصبح الترانزيستور جزءًا من الحياة لدرجة أنه أصبح خفيا؛ فهو مثل الخلايا في الجسم؛ إذ نحن لا نفكر فيه”. وعندما قام فريق ضم 3 علماء من مختبرات “بيل”  باختراع أول ترانزيستور (Transistor) في عام 1948م كان طوله مساويا لساعة اليد تقريبا، لكنه جعل الأجهزة أصغر حجمًا وسهلة النقل مقارنة بما قدمته تقنية الجيل الأول (الصمامات الفارغة أو المصابيح الإلكترونية) التي كانت سائدة قبل هذا الاختراع. وحصل هذا الفريق على جائزة نوبل في الفيزياء بعد ذلك؛ لأن استخدام الترانزيستور شكّل حقبة جديدة في تاريخ صناعة الأجهزة الإليكترونية، وعُرفت هذه الحقبة الزمنية بالجيل الثاني في عالم الإليكترونيات.

والترانزيستور عبارة عن مفتاح كهربائي متناهي الدقة، يشبه مفتاح الضوء التقليدي الذي يحتوي على وضعين (تشغيل وتوقيف). ويتضمن الترانزيستور 3 محطات طرفية هي: المصدر والمخرج والمجفف. وحين يوضع فولت موجب صغير في المخرج، يقوم الأخير بجلب الإلكترونات التي تحمل الشحنة السالبة، وبالتالي يولد التيار الكهربائي الذي يتدفق بين المصدر والمجفف، وفي هذه الحالة يكون الترانزيستور في وضع التشغيل. وعند وجود شحنة سالبة في المخرج، يتوقف تدفق التيار بسبب تكاثر عدد الإلكترونات وبالتالي يتوقف الترانزيستور.

وتعتمد سرعة الترانزيستور في الانتقال من حالة التشغيل إلى التوقيف المعروفة باسم “القناة” على طول المسافة التي يجب على الإليكترونات أن تعبرها بين المصدر والمخرج والمجفف. وسمحت هذه الوظيفة الثنائية للكمبيوتر بمعالجة المعلومات؛ حيث أصبح يشار إلى مرحلة تشغيل الترانزيستور بالرقم(1)، بينما يشار إلى مرحلة التوقيف بالرقم(0)، وعندها لا يتدفق التيار الكهربائي بين المحطات الطرفية للترانزيستور.

وشكّل استخدام الترانزيستور في تصنيع أول كمبيوتر أمريكي (NCR 304) في عام 1950م منعطفا جديدا في مجال نقل ومعالجة المعلومات إلكترونيا باستخدامه اللغـة الرقمية (0 و1)، وتم إدماج الترنزيستورات ضمن دوائر إلكترونية مطبوعة ترتبط فيما بينها بأسلاك دقيقة. وكان الترانزيستور عنصرا أساسيا في تطوير الأجهزة الحاسبة ابتداء من سنة 1956م؛ بعد أن تأجل السماح باستعماله لمدة 8 سنوات بسبب دعوى قضائية ضد شركة “آي تي آند تي” (AT&T) مالكة مختبرات ،”بل” وقد أجبر القضاء الشركة بالسماح لكل الشركات الأمريكية باستعمال الترانزيستور إثر الانتهاء من الدعوى، ومنذ ذلك الحين بدأت عملية استبدال “مصابيح الأشعة المهبطية” بالترانزيستور، واستخدم تعبير “القناة” كمقياس لسرعة الكمبيوتر أيضًا.

ومع التقدم في تقنيات الذاكرة الممغنطة أصبحت أجهزة الكمبيوتر أصغر حجما وأكثر فاعلية، ومنذ ذلك اليوم أصبح الشغل الشاغل لعلماء الإليكترونيات تصميم كمبيوترات بإمكانها تنفيذ أكبر عدد من العمليات الرياضية والإلكترونية في أقل زمن ممكن. وبعد التطور الكبير في مجال أشباه الموصلات (Semi-conductors) جاء الجيل الثالث من الإليكترونيات بعد استخدام المُوصِّلات التكاملية أو المدارات المدموجة (Integrated Circuit-IC) في العام 1958م، وهي عبارة عن قطعة صغيرة جدًّا تتكون من ثلاثة ترانزيستورات على شريحة من حجر الكوارتز (Quartz) لا يزيد حجمها على سنتيمتر مربع؛ ولهذا قامت هذه التقنية التي طورها “جاك كلبي” في شركة “تكساس إنستريومينتس” (Texas Instruments) باختزال حجم العديد من الأجهزة، ورفعت من كفاءتها، وعددت من وظائفها.

مستقبل الترانزيستور.. "مور" في ذمة التاريخ!

صورة لأحدث معالج كمبيوتري من إنتاج شركة إنتل

وبدأ الجيل الرابع للإليكترونيات في عام 1971م بعد أن قامت شركة “إنتل” (INTEL) بتطوير شريحة “إنتل 4004” التي تحتوي على 4004 ترانزيستورات على مساحة لا تتعدى المليمتر مربع، وتحتوي على كل عناصر وحدة المعالجة الموجودة في الكمبيوترات الكبرى، وعرفت هذه الشريحة الجديدة بالمعالج المايكروي أو الصغير (microprocessor) الذي أحدث ثورة هائلة في مجال الإلكترونيات بإنتاج الحاسبات الشخصية، كما صار بذلك من الممكن وضع كمبيوتر مصغر في أي جهاز كهربائي آخر تتم برمجته بطريقة مختلفة في كل مرة لإنجاز أعمال متعددة.

ومن المثير حقا أن إحدى شرائح “إنتل 4004” التي صنعت عام 1972م ما تزال تشغل أجهزة الكمبيوتر التي تقود سفينة “بيونير” (Pioneer) التي تبعد أكثر من خمسة مليارات ميل عن الأرض، وما زالت تجوب الفضاء حتى اليوم!

التقنيات الحالية.. طريق مسدود!

كان الترانزيستور بداية التطور الهائل الذي نراه اليوم في كل الأجهزة الإلكترونية، ويستغل المبتكرون عادة الترانزيستورات الأصغر للوصول إلى أجهزة وأدوات أسرع، وتتنافس الشركات العاملة حاليا في مجال تطوير رقائق الكمبيوتر للوصول إلى ترانزيستورات أدق وأصغر للحصول على معالج دقيق وحيد لتشغيل الحاسبات. وكان لا بد من متابعة عملية التصغير أكثر فأكثر؛ فالترانزيستور في الأربعينيات كان كبير الحجم ويكلف 54 دولارًا للقطعة، أما اليوم فيمكنك صناعة ملايين منها بسنت واحد، ويكون حجمها صغيرا لدرجة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

مستقبل الترانزيستور.. "مور" في ذمة التاريخ!

صورة لعالم يعمل في مكان معقم لإنتاج شرائح إليكترونية

وفي العام الماضي صرّح العلماء في جامعة “كامبردج” أنهم طوروا جيلا جديدا من نانومترا، ما يتيح لشريحة الكمبيوتر استيعاب ما مجموعه مليار ترانزيستور في النصف الثاني من العقد الحالي. وسيشكل هذا التطور التقني تحسنا دراماتيكيا لسرعة الترانزيستور وللفعالية في استهلاك الطاقة وتخفيض السخونة، وقد سمي تصميم “إنتل” الجديد “ترانزيستور تيراهيرتز”؛ لأنه سيكون بإمكان الترانزيستورات الانتقال بين حالتي التشغيل والإيقاف أكثر من تريليون مرة في الثانية، وإذا افترضنا جدلا قيام إنسان بنفس العمل عن طريق تشغيل مصباح الإضاءة وإطفائه تريليون مرة فسيحتاج لأكثر من 15 ألف سنة للقيام بهذا العمل!

ويعتبر هذا التطور محطة بارزة ضمن الجهود الهادفة إلى الحفاظ على وتيرة تطبيق المقولة المعروفة بقانون “مور” التي تشير إلى أن “سرعة معالج الكمبيوتر تتضاعف كل سنة ونصف”، بمعنى أن عدد الترنزيستورات التي يمكن تجميعها على قطعة من السليكون “المعالج الكمبيوتري” يتضاعف تقريبا كل 18 شهرا. ويتوقع العلماء أن يزيد عدد الترانزستور في المستقبل إلى 250 مليارا، لكن الخبراء يتوقعون أيضا أن الترانزيستور التقليدي سيصل إلى طريق مسدود في غضون عشر سنوات من الآن.

“مور” في ذمة التاريخ

ولم يستسلم العلماء للتوقعات السابقة المتشائمة التي تتنبأ بسقوط الترانزيستور من على عرشه، وما زال علم الإلكترونيات يفاجئ العالم كل يوم بخبر هائل جديد، ويرى العلماء أن وجود ترانزيستور جزيئي رخيص الثمن يتميز بسهولة إنتاجه في مختبر عادي بدلا من الغرف المعقمة التي تستعملها شركات صنع الرقاقات قد يغير تاريخ الكمبيوتر، وعلى ما يبدو أن الأجيال الجديدة من علماء الإليكترونيات في مختبرات “بل” الشهيرة، التي شهدت ولادة أول ترانزيستور منذ أكثر من نصف قرن، ما زالت تقاتل لتحافظ على هذا العرش، ومؤخرا نجح فريق جديد في هذه المختبرات ويضم 3 علماء أيضا، وهم “هيندريك شون” و”زينان باو” و”هونغ مينج”، في تصميم أول “نانو-ترانزيستور” مكون من جزيء واحد، ويمكن تجميع حوالي 10 ملايين منه على رأس دبوس!

وقد استخدم الفريق مواد شبه موصلة تدعى “ثيول” (Thiols) لإنتاج ما يلقبونه بالترانزيستور العضوي (OrganicTransistor). ومن الناحية الكيماوية، تعد مادة الثيول شبيهة بالكحول، فالفرق الوحيد أن ذرة الأكسجين تبدل بذرة الكبريت. وتم ترتيب الترانزيستورات بطريقة جديدة تماما، تتمثل في إلحاق جزيء “الثيول” بقطب كهربائي من الذهب، ونظرا لأن مسافة “القناة” بين الأقطاب صغيرة جدا (حوالي جزء من المليون من الميليمتر) فمن المتوقع أن يكون التيار الناتج وسرعة التحويل (أي سرعة الكمبيوتر) 10 أضعاف أسرع من أحدث المعالجات.

ومن جهة أخرى، يعتبر الخبراء أن هذا التطور سيفتح أبوابا لمستويات جديدة من الأداء، ومن المحتمل أن يلعب دورا أساسيا في تصميم ما يعرف بالـ “مينوسكول” (Minuscule)، وهي عبارة عن رقاقات كمبيوتر عالية السرعة لا تحتاج إلا لكمية ضئيلة من الطاقة. كما يعتقد الخبراء أن الأبحاث الحالية في مجال تطوير الدوائر الإلكترونية المتناهية الصغر التي لا يزيد حجمها على حجم الجزيء المنفرد‏، والتي أجراها مجموعة من الباحثين في جامعة “هارفارد” الأمريكية، ستؤدي إلى إنتاج أجهزة كمبيوتر فائقة السرعة والقوة، فضلا عن روبوتات طبية صغيرة الحجم جدا لاستخدامها في عمليات التشخيص والفحص وربما الجراحة الدقيقة أيضا.

جدير بالذكر أن مجلة “ساينس” اختارت هذه البحوث كأهم إنجاز علمي شهده عام‏ 2001م. ويتوقّع العلماء بأن الترانزيستورات النانوية Nanotransistors يمكن استغلالها بشكل تجاري في تطبيقات في العقد الثاني من هذا القرن، ويمكن إنتاج أجهزة كمبيوتر مرنة للغاية تعمل على الورق وفي الملابس، وحتى داخل خلايا الجسم.

وأدى هذا التطور المتسارع إلي إعادة النظر في الفكرة القائمة حاليا المعروفة بقانون “مور”، وقد أصبحت هذه المقولة في ذمة التاريخ بعد هذه الاكتشافات؛ فالتقدم المتوقع لا حدود له، ولك أن تتخيل ظهور كمبيوترات وآلات إلكترونية على المستوي الجزيئي بحجم أصغر مليون مرة من حبة الرمل!