شاء الله تعالى أن يُبلّغ هذا الدين بالدعوة، وأن تكون مهمة الأنبياء والمرسلين البلاغ، وهداية الناس إلى رب العالمين، كما قال لخاتم النبيين ﷺ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب 45-46] وحدد له دستور الدعوة ومنهاجها وأسلوبها بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ومن تأمل دعوة النبي ﷺ في مكة وجد أن طابع الدعوة الفردية هو الغالب وهو المؤثر الفعّال، وما كانت الدعوة الجماعية إلا وسيلة للبلاغ العام، وكانت في الغالب لا تأتي بثمرات ولا بنتائج، بل كان الكفار تأخذهم أمام بعضهم العزة بالإثم، وينفخ الشيطان في أنوفهم.
وإذا راجعت من أسلم من كرام الصحابة وسابقيهم وجدت أن معظمهم قد تمت دعوته بصورة فردية، وما ذاك إلا لأن الدعوة الفردية فيها:
أولا: معنى الخصوصية والإكرام.
ثانيا: معنى الاهتمام والرعاية الخاصة.
ثالثا: وفيها كذلك البعد عن التحريض والتهييج الذي تمارسه الجموع كلما كثرت.
ومن هنا قال الله في سورة سبأ حاضًا إيانًا على مثل هذا النوع من التواصل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا.. } [سبأ: 46]، والعجيب أنه قد جاء بعد هذه الآية أربع آيات كلها مبتدأة بالأمر “قل” فكانت خمسا متتالية تبتدئ بالأمر للداعية الكريم ﷺ أن يقول وأن يبلغ.
إن كثيرًا من مواقف الدعوة الجماعية كانت تتحول إلى مواقف سخرية ومواقف استهزاء بالدعاة الأنبياء عليهم الصلوات، بدءًا من نوح عليه السلام الذي قال لقومه: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38]، ومرورًا بكل المرسلين، وانتهاءً بخاتمهم، عليهم جميعًا الصلوات والسلام. فهذا إبراهيم عليه السلام، وقد وصل لقومه الحجة الناصعة القاطعة والدليل البليغ البالغ في موقف المحاجّة في موضوع الكواكب وموقف المحاجّة يوم تكسير الأصنام، وموقفه مع الملك.. ومع كل هذه الحجة التي أثنى عليها الله تعالى بقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } [الأنعام: 83] مع كل ذلك لم يسلم قومه، فأما الملك فبهت ولم يؤمن، وأما قومه {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ } [الأنبياء: 64] لحظات مؤقتة، ثم ما لبث التهييج والتهريج الذي تمارسه الأجهزة المختلفة وطبيعة الجمع، ما لبثت أن ردتهم على الأعقاب: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65].
وما ننسى يوم الصفا في حياة نبينا ﷺ، حين صاح أبو لهب: “ألهذا جمعتنا؟! أو دعوتنا تبا لك سائر هذا النهار”، وفيه نزلت “تبت”، ولا ننسى يوم احتضار أبي طالب، وقد كاد ينطق بكلمة الإيمان، لولا حضور شياطين قريش الذين طفقوا يحرضونه، ويخوفونه، بما سيقال، ويحذرونه من ترك ملة عبد المطلب، فمات وهو يقول: بل على ملة عبد المطلب.
إن الباطل يملك اليوم من وسائل الاتصال الجماهيري ما يخاطب به عشرات الملايين في وقت واحد، فمن الفضائيات واسعة الانتشار التي يعمل على صياغة الأخبار فيها دهاقنة وأقلام، وعقول وأفهام، إلى البرامج الثقافية والدراسات التي يزين فيها الباطل وينعت الحق بأقذع النعوت وتضلل الجموع.. إلى الأفلام التي تستثير أحط ما في حيوانية الإنسان من غريزة وشهوات.. وأضف إلى ذلك الصحف والمجلات والحفلات والإنترنت… أقول: ما الذي نملكه نحن أمام هذا الطوفان؟ وأقول: إن ما نملكه يبدو من شدة تواضعه وتواضع الإمكانات التي فيها يبدو صفرًا أو عدمًا لا وزن له، والحق بخلاف ذلك، إن الحق دائمًا بسيط المظهر فعال مؤثر جدًا في الحقيقة الكامنة وراء المظهر.
إننا نملك الحق، ونملك الخطاب الفردي الذي يغرس القناعة، وليس الإعلام الجمعي الذي يعرض أردأ بضاعة وشتان بين من يغرسون القناعات ويحررون الإرادات، ومن يروجون الضلالات ويحركون الغرائز والشهوات.
إننا بالدعوة الفردية التي تملك كل مقومات التأثير والتغيير والتي تخاطب الفطرة الكامنة في الأعماق والضمير، نملك الشيء الكثير..
الدعوة الفردية رصيد ضخم لا يقدره إلا من عرف طبيعة هذا الدين، وطبيعة الإنسان المستخلف في نظرة هذا الدين.
د. أحمد نوفل