رغم أن الناس يعرفون الموت والحياة بالتجربة والمشاهدة إلا أن تعريف الموت مثل تعريف الحياة تكتنفه كثير من الصعوبات في بعض الأحيان فالكائن الحي يتنفس ويتغذى وينمو ويتكاثر ، وربما يتحرك إلا أن الفيروسات خارج الخلايا التي تستعمرها لا تنمو ولا تتكاثر ولا تتغذى بل تتبلور مثلما يتبلور الجماد في بعض أشكاله وأنواعه.
والفيروسات تختلف عن كل الكائنات الحية من البكتريا إلى الإنسان في أنها لا تحتوي إلا على أحد الحامضين النووين ( دن أ ) أو ( رن أ ) بينما كل خلية حية أو بكتيريا تحتوي على الحامضين النوويين دنا ورنا كليهما.
وفي جسم الكائن الحي المتعدد الخلايا مثل الإنسان أو الحيوان أو النبات ، تموت ملايين الملايين من الخلايا كل يوم بل كل لحظة ويخلق الله بدلا منها ملايين أخرى دون أن يموت الكائن الحي بأكمله .
تتفق جميع الحضارات الإنسانية بما فيها الفرعونية المصرية القديمة ، والبابلية، والآشورية والصينية ،والهندية ،واليونانية، والأديان السماوية الثلاثة : اليهودية ،والنصرانية ،والإسلام ، في أن الموت هو مفارقة الروح للجسد .
ثم تخلف الحضارات والأديان بعد ذلك اختلافات شتى في هذه الروح .. وهل تعود إلى هذا الجسد أم تعود إلى جسد آخر كما تختلف في كيفية خروجها وخلوصها من هذا البدن ويعتقد البوذيون والهنادكة والشنتو على سبيل المثال أن الروح تظل حبيسة في الجسد وبالذات في الجمجمة عند الموت وأنها لا تنطلق إلا بعد حرق الجثة وانفجار الجمجمة ولذا تراهم يحرقون جثث موتاهم ؛ثم إن الهنادكة والبوذيين يعتقدون بتناسخ الأرواح ، وأن الروح الشريرة تعاد في جسد حقير مثل الكلب والخنزير ،وتظل في تلك الدورات حتى تتطهر وأن الروح الصالحة الخيرة تظل تنتقل في الأجساد الخيرة حتى تصل مرحلة النرفانا وهي السعادة الأبدية المطلقة في الروح المتصلة بالأبد والأزل كما يزعمون.
أما في الإسلام فإن مفهوم الموت هو خروج الروح من الجسد بواسطة ملك من الملائكة هو ملك الموت ، قال الله تعالى: ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ) السجدة 11 ويساعده كوكبة من الملائكة يقومون بنزع النفوس نزعًا من الظالمين قال تعالى: ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم ) الأنعام 93 وقال تعال:ى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) النساء 97.
أما الطيبون فتتولاهم ملائكة الرحمة وتبشرهم برضوان من الله ومغفرة وسلام منه ورحمة . قال الله تعالى ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) وقال تعالى ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) الفجر 27-30.
ويأتي الإسناد في بعض الآيات مباشرة لله تعالى ، حيث الفاعل على الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى حيث يقول: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) الزمر 42.
وبين الموت والنوم شبه واتصال، قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه : ” الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وإذا انتبهوا أبصروا وعرفوا ما كانوا فيه من غفلة قال تعالى: ” لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) ق 22 .
ولا نريد الخوض في دراسة الصلة والفرق بين الموت والنوم؛ لأن لهذا الموضوع مجال آخر من البحث وإن كان كلاهما يعبر عن مرحلة معينة من الغياب عن الوعي والإدراك الظاهر.
والموت عند المسلمين كافة هو انتقال الروح من الجسد إلى ما أعد لها من نعيم أو عذاب والروح مخلوقة مربوبة خلقها الله سبحانه وتعالى كما خلق سائر الكائنات ، ثم هي بعد ذلك خالدة والمقصود بموتها مفارقتها الجسد.
قال الإمام ابن القيم في كتاب الروح:ـ والصواب أن يقال: أن موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت ، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدمًا محضًا فهي لا تموت بهذا الاعتبار .
وقد ذكر الفقهاء علامات على الموت منها : ( انقطاع النفس ، واسترخاء القدمين ، وعدم انتصابهما ، وانفصام الكفين وميل الأنف وامتداد جلدة الوجه ، وانخساف الصدغيين ، وتقلص الخصيتين مع تدلي الجلدة ، وبرودة البدن ) وهذه العلامات جميعها ليست علامات مؤكدة على الموت ما عدا انقطاع النفس الذي ينبغي أن يستمر لفترة من الزمن ، وقد تنبه بعض الفقهاء إلى احتمالات الخطأ في تشخيص الوفاة : فقرر التريث في تشخيص الوفاة : قال الإمام النووي في روضة الطالبين (فإن شك بأن لا يكون به علة ، واحتمال أن يكون به سكتة ، أو ظهرت إمارات فزع أو غيره ،أخّر ( أي تشخيص ) إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيره ) .
وقد ذكر رسول الله ﷺ علامة هامة تحدث في كثير من الحالات عند الاحتضار وخروج الروح . عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال : ( إن الروح إذا قبض اتبعه البصر ) أخرجه مسلم .
وعن شداد ابن أوس يرفعه إلى النبي ﷺ أن قال ( إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر ، فإن البصر يتبع الروح ، وقولوا خيرًا فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت ) . أخرجه احمد في مسنده .
لاشك أن الروح أمر من أمور الغيب قال تعالى: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) الإسراء 85 . ولذا فإن دخول الروح إلى الجسد أو خروجها منه لا نستطيع أن نعرفه إلا بعلامات تدل عليه . وقد أخبرنا المصطفى ﷺ عن دخول الروح إلى جسد الجنين في الحديث الذي رواه الشيخان ( البخاري ومسلم ) عن طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال : ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما . ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم ينفخ فيه الروح ) وقد فهم جمهور الفقهاء والمحدثين أن ذلك يكون عند تمام المئة والعشرين يوما منذ التلقيح .
وأما خروج الروح فلم يكن سوى الحديثين السابقين عن شخوص البصر عند قبض الروح أو ما يرونه من علامات.
وهذه العلامات قد تتعرض لخطأ نتيجة عدم المعرفة ..ولذا أوكلت الأمم جميعها تشخيص الموت إلى فئة مختصة تعرف علاماته وهي فئة الأطباء . قال تعالى: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) النحل 43.
ومع التقدم العلمي ومعرفة الدورة الدموية تبين أن الموت هو توقف لا رجعة فيه في هذه الدورة الدموية …وبما أن الدماغ لا يستطيع أن يبقى حيًا سوى بضع دقائق ( أربع دقائق تقريبًا ) عند انقطاع التروية الدموية ، فإن الدماغ هو أول الأعضاء تأثرًا وموتًا نتيجة توقف القلب عن النبض ، وتوقف الدم عن الجولان والجريان في الأوعية الدموية.
ولكي نزيد هذا المفهوم وضوحًا فإن القلب يوقف في العمليات الجراحية التي تجرى للقلب (عمليات القلب المفتوح ) ولا يعني ذلك أن هذا الشخص قد مات ، رغم أن قلبه يوقف أثناء العملية الجراحية لمدة ساعتين أو أكثر والسبب هو أن وظيفة القلب تقوم بها مضخة تضخ الدم من الوريد الأجوف السفلي والعلوي بعد أن يمر في جهاز يقوم بوظيفة الرئة ثم يعاد إلى الشريان الأورطي الذي بدوره يوزع الدم على بقية أعضاء الجسم . وفي هذه الحالات رغم أن القلب متوقف والتنفس متوقف إلا أن الشخص حي بكل تأكيد.
وذلك لان الدورة الدموية لم تتوقف ولو لعدة ثوان . والدماغ يتلقى التروية الدموية دون انقطاع …ووظيفة الرئتين تقوم بها آلة أخرى تأخذ ثاني أكسيد الكربون من الدم وتعطيه الأوكسجين .
وهذا المثال يوضح أن القلب رغم أهميته البالغة للإنسان إلا أنه يمكن الاستغناء عنه لمدة ساعتين أو ثلاث بواسطة آلة تقوم مقامه …وكذلك الرئتين .
ويمكن كذلك استبدال هذا القلب التالف بقلب شخص آخر ( توفي دماغيًا ) أو حتى بقلب حيوان آخر .. ولولا عمليات الرفض للجسم الغريب لأمكن استخدام القلوب من الحيوانات لزرعها في الإنسان ، ولكن عمليات الرفض الشديدة تجعل هذه العملية محفوفة بالمخاطر ..وهناك تجارب متعددة على قلوب الحيوانات ( وبالذات الخنزير ) ومحاولة تغيير جهازها المناعي بتطعيمها جينات إنسانية..وسيتضح مدى نجاح أو فشل هذه التجارب في خلال السنوات القليلة القادمة.
إذًا ينبغي أن ندرك أنه حتى في الحالات التي يعلن فيها أن الموت بسبب توقف القلب والدورة الدموية والتنفس إلا أن السبب الأول في الوفاة هو انقطاع التروية الدموية عن الدماغ .
لذا إذا أمكن مواصلة التروية الدموية للدماغ حتى مع توقف القلب فان هذا الشخص يعتبر حيًا، ولكن العكس غير صحيح ، أي إذا تهشم الدماغ وبالذات جذع الدماغ الذي فيه المراكز الحيوية ( اليقظة ، التنفس ، التحكم في الدورة الدموية ) ومات موتًا لا رجعة فيها فإن الإنسان يعتبر رغم أن قلبه لا يزال ينبض بمساعدة العقاقير وبعض الأجهزة وتنفسه لا يزال مستمرًا بواسطة المنفسة ( الآلة ) . وهذا هو بالضبط ما نعبر عنه بموت الدماغ .
موت الدماغ:
إن موت الدماغ هو موت الدماغ بما فيه من المراكز الحيوية والهامة جدًا والواقعة في جذع الدماغ ، فإذا ماتت هذه المناطق فإن الإنسان يعتبر ميتًا ، لأن تنفسه بواسطة الآلة المنفسة مهما استمر يعتبر لا قيمة له ولا يعطي الحياة للإنسان .
وكذلك استمرار النبض من القلب بل وتدفق الدم من الشرايين والأوردة ( ما عدا الدماغ ) لا يعتبر علامة على الحياة طالما أن الدماغ قد توقفت حياته ودورته الدموية توقفا تاما لا رجعة فيه . وهذا يشبه تمامًا ما يحدث عندما تقوم الدولة بتنفيذ حكم الله في القصاص ، أو قتل المفسدين في الأرض من مهربي وتجار المخدرات .
في هذه الحالة يضرب السياف العنق فتتوقف الدورة الدموية عن الدماغ ويموت الدماغ خلال دقائق معدودة ( ثلاث إلى أربع دقائق )بينما يبقى القلب يضخ لمدة خمس عشرة إلى عشرين دقيقة ..ويتحرك المذبوح ، وهو أمر نشاهده عند ذبح الدجاج أو الخروف ..ولكن هذه الحركة بذاتها ليست دليلاً على الحياة ، طالما أن الدماغ قد مات.
والأمر ذاته يحدث في الشنق ..فعندما يشنق الإنسان تتوقف الدورة الدموية عن الدماغ بينما يستمر القلب في الضخ لعدة دقائق قد تبلغ ربع ساعة إلى ثلث ساعة ..وفي هذه الفترة لا شك أن الشخص يكون قد مات رغم أن قلبه لا يزال ينبض ، وذلك لان الدورة الدموية قد انقطعت عن الدماغ ، وقد مات الدماغ بالفعل.
تشخيص موت الدماغ :
يتم تشخيص موت الدماغ حسب الشروط الطبية المعتبرة وأهمها:
1-وجود شخص مغمى عليه إغماءً كاملاً.
2-لا يتنفس إلا بواسطة جهاز التنفس.
تشخيص سبب هذا الإغماء يوضح وجود إصابة أو مرض في جذع الدماغ أو في كل الدماغ .
-عدم وجود أسباب تؤدي إلى الإغماء المؤقت مثل تعاطي العقاقير أو الكحول أو انخفاض شديد في درجة حرارة الجسم أو حالات سكر شديد أو انخفاض في سكر الدم أو غير ذلك من الأسباب الطبية المعروفة التي يمكن معالجتها.
-ثبوت الفحوصات الطبية التي تدل على موت جدع الدماغ وتتمثل في:
-عدم وجود الأفعال المنعكسة من جذع الدماغ .
-عدم وجود تنفس بعد إيقاف المنفسة لمدة عشر دقائق بشروط معينة ، منها :
-استمرار دخول الأوكسيجين بواسطة أنبوب يدخل إلى القصبة الهوائية ، ومنها إلى الرئتين ،وارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في الدم إلى حد معين -أكثر من 50 مم من الزئبق في الشريان .
-فحوصات تأكيدية : مثل رسم المخ الكهربائي وعدم وجود أي ذبذبة فيه ، أو عدم وجود دورة بالدماغ بعد تصوير شرايين الدماغ أو بفحص المواد المشعة .
-عند وجود حالة يشتبه فيها موت الدماغ يتم إبلاغ المركز الوطني لزرع الأعضاء بالرياض، والذي يقوم بإرسال مختصين في تشخيص موت الدماغ عند الحاجة إليهم.
-يعاد الفحص من المختصين بعد مرور ست ساعات على الأقل بالنسبة للبالغين و24 ساعة للأطفال أقل من سنة و48 ساعة للأطفال أقل من شهر.
إذا تم التشخيص والتأكد منه بواسطة الفريق الطبي المختص يتم إبلاغ أهل المصاب …ويحاول فريق المركز الوطني التفاهم مع الأهل في أن يأذنوا باستقطاع بعض الأعضاء الحيوية من متوفاهم لينقذوا بذلك مرضى أوشكوا على حافة الخطر أو أحدق بهم الموت. فإذا أذن الأهل بذلك يتم استقطاع الأعضاء الحيوية مثل القلب ، الكلى ، الكبد ، وتزرع كل واحدة منها في شخص معين يعاني من مرض خطير أدى إلى فشل وظيفة ذلك العضو.
أما في حالة رفض الأهل الموافقة على التبرع فإن الأطباء يوقفون المنفسة وفي خلال دقائق معدودة يتوقف القلب.
وقد أفتى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة في عمان بالأردن 1407 ه /1986 م أن الشخص يعتبر ميتا إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1 – إذا توقف قلبه وتنفسه تماما ، وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه .
2 – إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا وحكم الأطباء الإختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه ، واخذ دماغه في التحلل .
وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص ، وإن كان بعض الأعضاء لا يزال يعمل آليا بفعل الأجهزة المركبة .
وقد وافق المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة ( 1408 ) على رفع أجهزة الإنعاش وإيقافها متى تبين بالفحوصات الطبية المؤكدة من قبل المختصين بأن هذا الشخص قد مات دماغيا.
وبهذه الفتاوى ظهر عهد جديد في ميدان الطب . وهو تعريف موت الدماغ طبيا، وبداية قبول هذا المفهوم شرعيا . ومن ثم انفتح باب زراعة الأعضاء من المتوفين دماغيا ، أمكن إنقاذ مئات المرضى الذين يعانون من فشل نهائي في أعضائهم الحيوية الهامة ، وبالتالي تم إنقاذهم بإذن الله تعالى، ثم بفضل التقدم الطبي من موت محقق.