هذا الكون الشاسع والواسع الذي لا يرى الإنسان له حدودًا كان محط تساؤل الإنسان وفضوله منذ القديم، وكانت الأسئلة في ذهنه حوله كثيرة وصعبة، مثل: متى كان مولد الكون؟ كيف ظهر هذا الكون إلى الوجود ؟ وما عمره؟ أحادث هو أم قديم وأزلي ؟ وهل يمكن أن يكون هناك أزليان: خالق أزلي وكون أزلي؟
هذه بعض الأسئلة التي كانت محل نقاش حول مولد الكون بين الفلاسفة المؤمنين مئات الأعوام. أما الفلاسفة الملحدون فكانوا يدّعون أن الكون لا يحتاج إلى خالق؛ لأن المادة أزلية، أي وجدت من القديم…. أي كانوا يضيفون إلى المادة إحدى صفات الخالق وهي صفة الأزلية؛ لذا كان من ضمن قوانينهم الفيزيائية (لا يمكن خلق المادة من العدم، كما لا يمكن إفناء المادة).
ولكن الإمام أبي حامد الغزالي – رحمه الله – كان أول من حل مشكلة قدم العالم ومولد الكون، وأجاب على جميع المشاكل المثارة حول مدة الترك، أي الفرق الزماني بين الأزل وبين بدء خلق الكون، فقال بأن الكون حادث وأنه لم يكن قبله زمان… أي أن الزمان والمكان بدآ بعد خلق الكون؛ لأن الزمن مرتبط بالحركة، ولو تصورنا أن كل شيء في الكون قد سكن وتوقف إذن لتوقف الزمن، أي لم يَعُد هناك زمان. وهكذا فمن الخطأ توهم وجود زمان قبل خلق الكون. وعندما أشارت النظرية النسبية إلى أن الزمن بُعْد رابع كان من البديهي عدم وجود الزمن في عالم لم تخلق بعد أبعاده الأخرى.
وفي خضم البحث عن مولد الكون، لا نريد هنا أن ندخل في تفاصيل فلسفية قد يسأم منها القارئ ولا يستسيغها. ولكننا نريد أن نشير هنا إلى آخر نظرية علمية حول مولد الكون، وكيف أنها أثبتت بأدلة علمية بأن الكون حادث وأنه وُلِد قبل كذا مليار سنة.
الكون بين السكون والحركة
والحقيقة أن اكتشاف الإنسان لظاهرة الإشعاع كان أول ضربة لنظرية أزلية المادة، فما دامت الشمس وجميع النجوم الأخرى مشتعلة وتبعث الإشعاعات، إذن فلا بد من وجود بداية لها؛ لأنها لو كانت أزلية لنفد وقودها منذ مليارات السنوات.
ولكن العلماء الملحدون تناسوا هذه الحقيقة الظاهرة لكل عين واستمروا في الدفاع عن كون أزلي لا يحتاج إلى خالق. وكانت نظرية (الكون المستقر Steady State) التي كانت هي النظرية المقبولة في الأوساط العلمية حتى منتصف القرن العشرين تقول بأن الكون ساكن وهو لانهائي في الزمان والمكان.
كان هذا الأنموذج للكون يريح الفلاسفة الملحدين ويقدم لهم سندًا علميًّا، أو على الأقل لا ينقض أهم دعوى عندهم وهي أزلية المادة.
ولكن علم الفيزياء كان يقدم وسيلة مهمة في معرفة العديد من خصائص الأجرام السماوية والنجوم، فقد كشف “فاستو مالفن سليفر” عام 1913م أن بعض الأجسام – التي كان يعتقد سابقًا أنها غبار كوني – تبتعد عنا بسرعة 1800كم/ ثانية، وكان هذا الاكتشاف مفاجأة كبيرة للعلماء، ولم تكن تلك الأجسام إلا مجرات بعيدة عنا.. ثم أعلن “أدوين هوبل” عام 1929م قانونه المعروف: (إن المجرات تبتعد عنا بسرعة تتناسب طرديًّا مع بعدها عنا)
وقد تبين فيما بعد أن المجرات لا تبتعد فقط عنا، بل هي تتباعد فيما بينها كذلك. وكان هذا يعني أن الكون يتوسع على الدوام، مصداقًا لقوله تعالى “وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون”.
الحساء الكوني !!
وما دام الكون في توسع دائم، إذن لو شغَّلنا الفيلم عكسيًّا – أي إلى الوراء – فمن الضروري أن الكون كله كان متركزًا في السابق في نقطة واحدة أطلق عليها العلماء اسم “الذرة البدائية” أو “الحساء الكوني”. وقال علماء آخرون إن حجم هذه النقطة كان يساوي الصفر وكتلته لا نهائية. وهذا تعبير آخر من أن الكون ظهر من العدم؛ لأن هذا هو معنى نقطة حجمها يساوي صفر.
ولكن أي قوة تقوم بقذف مائة مليار مجرة بسرعة جنونية، مبعدة الواحدة عن الأخرى وموسعة الكون نتيجة هذا التباعد السريع؟ لا يمكن أن تكون قوة الجاذبية أو قوة التنافر الكهربائي بين الأقطاب المتشابهة هي هذه القوة، فقوة الجاذبية قوة تحاول جذب الأجرام السماوية نحو المركز وليس إبعادها نحو الخارج. كما أن قوة التنافر الكهربائية أضعف بكثير من القيام بمثل هذه العملية. ونظرًا لوجود تعادل كهربائي في الكون فمثل هذه القوة لا وجود لها تقريبًا بين الأجرام السماوية.
إذن فلا بد أن انفجارًا هائلاً حدث عند ميلاد الكون هو الذي أدى إلى توسع الكون.
وقد أطلق العلماء على هذا الانفجار اسم (الانفجار الكبير (BIG BANG، وبعد إجراء بعض التعديلات على نظرية الانفجار الكبير، فإن الصيغة الحالية لها باختصار، هي:
(أن انفجارًا هائلاً وقع في هذه الذرة البدائية التي كانت تحتوي على مجموع المادة والطاقة. وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات؛ حيث خلقت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء خلقت الذرات، ومن هذه الذرات تألف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد).
متى انفجر الكون؟
ولكن متى حدث هذا الانفجار الكبير؟
لا يوجد رقم قطعي في هذا الخصوص. ولكن إذا تذكرنا أن (ثابت هويل) لمليون سنة ضوئية هو 15,3كم/ ثا، حصلنا على رقم (20) مليار سنة. ولكن علينا ألا ننسى بأن سرعة توسع الكون وتباعد المجرات ليست ثابتة، وأنها كانت في السابق أسرع؛ لذا فإن تاريخ الانفجار في الأغلب كان قبل (15) مليار سنة تقريبًا. وهذا هو الرأي المرجح حاليًا.
من الأدلة المهمة على نظرية الانفجار الكبير هو وجود الإشعاع الكوني، فقد قال العلماء بأنه لو كان هناك مثل هذا الانفجار لكان من الضروري أن يخلف وراءه إشعاعًا. وفعلاً تم العثور على هذا الإشعاع عندما أرسلت مؤسسة (ناسا) الأمريكية لأبحاث الفضاء قمرًا صناعيًّا لغرض التثبت من هذا الإشعاع عام 1989م وزودته بأحدث الأجهزة الحساسة، واحتاج هذا القمر الصناعي لثماني دقائق فقط للعثور على هذا الإشعاع وقياسه.
دليل آخر على هذه النظرية هو أن مقادير ونسب وجود غازَي الهيدروجين والهليوم في الكون تتطابقان مع حسابات هذه النظرية، ولو كان الكون أزليًّا لاحترق جميع الهيدروجين وتحول إلى غاز الهليوم.
دعاة الأزلية في مأزق
ولا تكمن أهمية نظرية “الانفجار الكبير” في الجانب العلمي والفلكي فقط، فهذه النظرية سحبت سلاحًا أو قل عذرًا قويًّا كان يستند إليه الفلاسفة والمفكرون والعلماء الملحدون؛ لأنها أنهت أسطورة “أزلية المادة وأزلية الكون”.
وقد امتعض العديد من العلماء والفلاسفة الملحدون من هذه النظرية، فمثلاً يقول الفيلسوف الملحد (أنطوني فلوف):
(يقولون: إن الاعتراف يفيد الإنسان من الناحية النفسية. وأنا سأدلي باعتراف: إن أنموذج (الانفجار الكبير شيء محرج جدًّا بالنسبة للملحدين؛ لأن العلم أثبت فكرة دافعت عنها الكتب الدينية… فكرة أن للكون بداية).
ويقول العالم (دونيس سكايما) – وكان من أشد أنصار نظرية (الكون المستقر) –
(لم أدافع عن نظرية الكون المستقر لكونها صحيحة، بل لرغبتي في كونها صحيحة. ولكن بعد أن تراكمت الأدلة فقد تبين لنا أن اللعبة قد انتهت، وأنه يجب ترك نظرية الكون المستقر جانبًا).
ومع أن ظهور أن المادة حادثة وغير أزلية، وأن للكون بداية.. يدل على الخلق، وأن الكون خُلق من قِبل الخالق، إلا أن طبيعة هذا الانفجار الكبير أضاف أدلة أخرى على أن الكون خُلق بتقدير دقيق ونظام رائع. ذلك لأن أي انفجار لا يكون إلا مخربًا وهادمًا ومشتتًا ومبعثرًا للمواد، ولكن عندما نرى أن انفجارًا بهذا العنف وبهذا الهول يؤدي إلى تشكيل وتأسيس كون منظم غاية النظام، فإن هناك إذن وراءه يد قدرة وعلم وإرادة وتقدير لانهائي فوق الطبيعة. وإلى هذا يشير العالم البريطاني المشهور (فرد هويل) عندما يقول:
(تقول نظرية الانفجار الكبير بأن الكون نشأ نتيجة انفجار كبير، ونحن نعلم أن كل انفجار يشتت المادة ويبعثرها دون نظام، ولكن هذا الانفجار الكبير عمل العكس بشكل محفوف بالأسرار؛ إذ عمل على جمع المادة معًا لتشكيل المجرات).
سرعة توسع الكون
من أهم أسرار هذا الانفجار الكبير هي السرعة الحرجة التي وُهِبَت لهذا التوسع الكوني عقب هذا الانفجار. وإلى هذا يشير العالم البريطاني المعروف (بول ديفز) عندما يقول:
(لقد دلّت الحسابات أن سرعة توسع الكون تسير في مجال حرج للغاية، فلو توسع الكون بشكل أبطأ بقليل جدًّا عن السرعة الحالية لتوجه إلى الانهيار الداخلي بسبب قوة الجاذبية، ولو كانت هذه السرعة أكثر بقليل عن السرعة الحالية لتناثرت مادة الكون وتشتت الكون، ولو كانت سرعة الانفجار تختلف عن السرعة الحالية بمقدار جزء من مليار × مليار جزء لكان هذا كافيًا للإخلال بالتوازن الضروري؛ لذا فالانفجار الكبير ليس انفجارًا اعتياديًّا، بل عملية محسوبة جيدًا من جميع الأوجه وعملية منظمة جدًّا).
وماذا نستنتج من كل هذه الشواهد والمعلومات العلمية ؟ يشرح (بول ديفز) النتيجة الحتمية لهذه الدلائل والتي لا تقبل النقاش فيقول:
( من الصعب جدًّا إنكار أن قوة عاقلة ومدركة قامت بإنشاء هذا الكون المستندة إلى حسابات حساسة جدًّا… إن التغييرات الرقمية الحساسة جدًّا والموجودة في أسس الموازنات في الكون دليل قوي جدًّا على وجود تصميم على نطاق الكون).
أما العالم الفيزيائي المشهور (ستيفن هوفكن) فهو يتناول في كتابه (التاريخ المختصر للزمن) الدقة المذهلة الموجودة لسرعة توسع الكون في الثانية الأولى الحرجة من الانفجار الكبير، فيقول:
(إن سرعة توسع الكون سرعة حرجة جدًّا إلى درجة أنها لو كانت في الثانية الأولى من الانفجار أقل من جزء واحد من مليون × مليار جزء لانهار الكون حول نفسه قبل أن يصل إلى وضعه الحالي).
إذن هذا هو مبلغ الدقة المذهلة في تنظيم هذا الانفجار الكبير وفي تصميم سرعته.
والنتيجة الحتمية التي يصل إليها عالم الفلك الأمريكي (جورج كرنشتاين) في كتابه (الكون التكافلي Symbiotic Universe) هي:
(كلما دقَّقنا الأدلة واجهتنا على الدوام الحقيقة نفسها، وهي أن هناك قوة عاقلة فوق الطبيعة تدخلت في نشوء ومولد الكون).
“قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأَرْض”.
“سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ الْحَقّ”.
أورخان محمد علي