فقه الأقليات فقه ذو طبيعة خاصة. وهذه الخصوصية في الموضوع تفرض علينا أن نقترح على أهل العلم جملة من المحددات المنهجية أو “الأصول” التي نرى ضرورة اعتمادها من قِبَل المفتي في فقه الأقليات، باعتبار خصوصية هذا الفقه، وباعتبار أن كل “فقه” يحتاج إلى أصول. ومن هذه الأصول ما يلي:
1 – اكتشاف الوحدة البنائية في القرآن، وقراءته باعتباره معادلاً للكون وحركته، واعتبار السنة النبوية الصادرة عن المعصوم- ﷺ- تطبيقاً لقيم القرآن، وتنزيلاً لها في واقع معين، والنظر إليها كوحدة في ذاتها، متحدة مع القرآن، بياناً له وتطبيقاً عمليًّا لقِيمه في واقع محدد.
2 – الاعتراف بحاكمية الكتاب الكريم وأسبقيته، وأنه قاضٍ على ما سواه بما في ذلك الأحاديث والآثار؛ فإذا وضع الكتاب الكريم قاعدة عامة – مثل مبدأ “البر والقسط” في عَلاقة المسلمين بغيرهم – ووردت أحاديث أو آثار يتناقض ظاهرها مع هذا المبدأ: كالمزاحمة في الطريق، أو عدم رد التحية بمثلها أو أحسن منها، تعين الأخذ بما في الكتاب، وتأويل الأحاديث والآثار إن أمكن تأويلها، أو ردها إن لم يمكن ذلك.
3 – الانتباه إلى أن القرآن المجيد قد استرجع تراث النبوات، وقام بنقده وتنقيته من كل ما أصابه من تحريف، وأعاد تقديمه منقحاً خالياً من الشوائب، وذلك لتوحيد المرجعية للبشرية. ذلك هو تصديق القرآن لميراث النبوة كله وهيمنته عليه.
4 – تأمل الغائية في القرآن الكريم: وهي التي تربط الواقع الإنساني المرئي باللامرئي (عالم الغيب) وتزيل فكرة العبث والمصادفة. وذلك ما يمكن من إدراك وتفسير العَلاقات بين الغيب والشهادة، وبين النص المطلق – وهو القرآن – والواقع الإنساني، ويوجد نوعاً من الكشف عن الفارق الدقيق بين إنسانية الإنسان وفرديته، فالإنسان باعتبار فرديته مخلوق نسبي، وهو باعتبار إنسانيته مخلوق كوني مطلق.
5 – الانتباه لأهمية البُعْدَين الزماني والمكاني في كونية الخَلْق الإنساني، ففي الجانب الزماني أكد القرآن ذلك البعد بتعقيبه على تحديد الأشهر باثني عشر شهراً ومنع النسيء، فعدَّهما جزءاً من الدين القيم. وفي الجانب المكاني جعل لنا أرضًا محرمة وأرضًا مقدسة، وأرضًا ليست كذلك. وفي هذا الإطار يمكن أن تفهم فكرة امتداد الإنسان منذ خَلْق آدم وحواء حتى دخول الجنة أو النار والعياذ بالله. إن ذلك الامتداد هو الذي يربط بين كونية القرآن وكونية الإنسانية.
6 – الانتباه إلى وجود منطق قرآني كامن مبثوثة قواعده في ثنايا الكتاب، وأن الإنسان قادر – بتوفيق الله عز وجل – على الكشف عن قواعد ذلك المنطق؛ لتساعده في تسديد عقله الذاتي وترشيد حركته. كما أن هذه القواعد ذاتها يمكن أن تشكل قوانين تعصم العقل الموضوعي من الشذوذ والشرود والخطأ والانحراف، وهذا المنطق القرآني يستطيع أن يوجد قاعدة مشتركة للتفكير بين البشر تساعدهم على الخروج من دوائر هيمنة العقل الذاتي القائم على مسلمات تقليد الآباء وتراثهم، وما يتبع ذلك من مسلمات قبلية يستطيع المنطق القرآني أن يخرجهم منها إلى المنطق الاستدلالي أو البرهاني.
7 – الالتزام بالمفهوم القرآني للجغرافيا: فالأرض لله، والإسلام دينه، وكل بلد هو “دار إسلام” بالفعل في الواقع الحاضر، أو “دار إسلام” بالقوة في المستقبل الآتي. والبشرية كلها “أمة إسلام”: فهي إما “أمة ملة” قد اعتنقت هذا الدين، أو “أمة دعوة” نحن مُلزَمون بالتوجه إليها لدخوله.
8 – اعتبار عالميَّة الخطاب القرآني: فالخطاب القرآني يخالف خطابات الأنبياء السابقين التي كانت خطابات اصطفائية موجهة إلى أمم مُصطفَاة أو قرى مُختارَة. أما الخطاب القرآني؛ فقد تدرج من الرسول- ﷺ- إلى عشيرته الأقربين، إلى أم القرى ومن حولها، ثم إلى الشعوب الأمية كلها، ثم إلى العالم كله. وبذلك صار هو الكتاب الوحيد الذي يستطيع أن يواجه الحالة العالميَّة الراهنة.
إن أي خطاب يُوجَّه إلى عالَم اليوم لا بد أن يقوم على قواعد مشتركة وقيم مشتركة، وأن يكون منهجيًّا: أي خطاباً قائماً على قواعد ضابطة للتفكير الموضوعي. وليس هناك كتاب على وجه الأرض يستطيع أن يوفر هذه الشروط إلاَّ القرآن المجيد ذاته.
9 – التدقيق في الواقع الحياتي بمركباته المختلفة باعتباره مصدراً لصياغة السؤال والإشكال الفقهي، أو “تنقيح المناط” كما يقول الأقدمون. وما لم يفهم هذا الواقع بمركباته كلها فإنه من المتعَذَّر صياغة الإشكال الفقهي بشكل ملائم بحيث يمكن الذهاب به إلى رحاب القرآن الكريم لتثويره واستنطاقه الجواب، ففي العصر النبوي كان الواقع يصوغ السؤال فيتنزل الوحي بالجواب؛ أما في عصرنا هذا فإن الوحي بأيدينا، ونحتاج إلى أن نتقن صياغة إشكالياتنا وأسئلتنا؛ لنذهب بها إلى القرآن الكريم ونستنطقه الجواب عنها ونستنطق من سنة الرسول- ﷺ- فقه التنزيل ومنهجية الربط بين النص المطلق والواقع النسبي المتغير نوعاً وكمًّا.
10 – دراسة القواعد الأصولية بكل تفاصيلها بما فيها مقاصد الشريعة، وذلك في محاولة للاستفادة بها في صياغة وبلورة مبادئ فقه الأقليات المعاصر. ولا بد من تكييف الدراسة للمقاصد، وربطها بالقيم العليا الحاكمة، وملاحظة الفروق الدقيقة بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين.
11 – الإقرار بأن فقهنا الموروث ليس مرجعاً للفتوى أو صياغة الحُكْم في مثل هذه الأمور؛ بل هو سوابق في الفتوى وفي القضاء يمكن الاستئناس بها واستخلاص منهجيتها والبناء على ما يصلح البناء عليه منها؛ فإن وُجِدَ في كلام الأقدمين ما يناسب الواقع، ويقارب رُوح الشرع استؤنس به – تأكيداً للتواصل والاستمرارية بين أجيال الأمة – دون أن يُرفَع إلى مستوى النص الشرعي، أو يُعتبَر فتوى في القضية المتناولة. ولا غضاضة إذا كان سلفنا لا يملكون جواباً لإشكاليات لم يعيشوها، ووقائع لم تخطر لهم على بال.
12- اختبار الفقه في الواقع العملي: فلكل حُكم فقهي أثر في الواقع قد يكون إيجابيًّا إذا كان استخلاص الفتوى تم وفقاً لقواعد منهجية ضابطة، وقد يحدث خلل في أي مستوى من المستويات؛ فيكون الأثر المترتب على الفتوى أو على الحُكْم في الواقع أثراً سلبيًّا؛ فتجب مراجعته للتأكد والتحرير. وبذلك تكون عملية استنباط الأحكام وتقديم الفتاوى عبارة عن جدل متواصل بين الفقه والواقع؛ فالواقع مُختبَر يستطيع أن يبين لنا ملاءمة الفتوى أو حرجها.