يعد هانس كونج المولود عام 1928 كاهنًا كاثوليكيا، وعالم لاهوت سويسريا بارزًا، له العديد من الكتب، أهمها: “بنية الكنيسة”، و”معصومًا من الخطأ”، و”المسيحية والأديان الصينية”، و”لنصوت من أجل أخلاق عالمية”، و”أخلاق عالمية من أجل سياسة واقتصاد عالميين”. لكن في كتابه “الإسلام رمز الأمل.. القيم الأخلاقية المشتركة بين الأديان” يقول كونج أن الإسلام أساس الأخلاق العالمية.
ظل هانس كونج يعمل كواعظ كاثوليكي ذي سمعة طيبة إلى أن ألغى الفاتيكان سلطته لتعليم علم اللاهوت الكاثوليكي، بسبب نشره لكتاب “معصومًا من الخطأ” والذي يرفض فيه مذهب المعصومية البابوية، باعتبار أنها -حسب رأيه- وظيفة من ابتكار البشر، أكثر من كونها وظيفة مؤسسة من قبل الله، ولهذا يمكن إلغاؤها.
ونظرًا لاهتمامه الشديد بما يسمى بـ”الأخلاق العالمية”، فهو يرى أن الإسلام أساس الأخلاق العالمية، وهو – أي كونج- أسس في بداية عقد التسعينيات مشروعًا أسماه “الأخلاق العالمية” وهو محاولة لشرح ما يمكن أن تجتمع عليه الأديان (بدلا مما قد يفرقها) كما يهدف إلى صياغة حد أدنى من القوانين السلوكية التي يمكن أن يقبلها الجميع، وقد أصبح مشروعه مدمجًا في الحوار بين الحضارات التابع للأمم المتحدة.
وفي كتاب “الإسلام رمز الأمل.. القيم الأخلاقية المشتركة بين الأديان“، الصادر عن دار الشروق بالقاهرة 2007 في (83) صفحة، يحاول كونج التأكيد على أنه لن يكون هناك سلام بين الأديان بدون حوار بين الأديان، ويؤكد أيضا على أن جميع الأديان والمعتقدات السماوية والأرضية تحوي مجموعة من القيم الأخلاقية المشتركة، وهذه القيم المشتركة يمكن أن تساعدنا في بدء حوار إيجابي وفعال بين البشر على اختلاف أصنافهم وألوانهم.
الأخلاق ومعايير الحياة
يعتقد كونج أن اكتشاف الأخلاق العولمية يساعد في إيجاد معايير للحياة، وهذه الأخلاق موجودة في كل التقاليد الإنسانية، مما يعني أننا لسنا في حاجة لأن نعيد اختراع أخلاقنا، ولكن يمكننا فقط أن ننظر بعمق في تقاليدنا الإنسانية القديمة.
ففي التقاليد الصينية القديمة نجد القاعدة الذهبية التي تقول: “لا تفعل بالآخرين ما لا تريد أن يفعلوه بك”.. هذه القاعدة موجودة في التراث اليهودي، وكذلك في الإسلام في قول الرسول ﷺ: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، أضف إلى ذلك التوجيهات الأساسية التي تجدها بشكل عام في الإنسانية “لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب، لا تعتدِ جنسيًا.
ولتأكيد فكرته الخاصة بالأخلاق العولمية، يرى كونج أنه بالرغم من الاختلافات العميقة التي نجدها في الأديان، تعد المعايير الأخلاقية واحدة بشكل أساسي، فما نجده في الكتاب المقدس اليهودي “الوصايا العشر”، هو نفسه ما نجده في القرآن، وما نجده من وصايا مماثلة في التراثين: الهندي والصيني.
ويخلص كونج إلى أن الأخلاق العولمية هي عولمية -أيضا- بالمعنى الخاص بتاريخ طويل وممتد، وهو ما يعني أننا لسنا في حاجة لأن نعيد اختراع تلك الأخلاق.
ومن القيم العظيمة التي يشير إليها كونج، والتي تمثل مبدأ من مبادئ الإنسانية جمعاء “أن كل إنسان ينبغي أن يعامل بطريقة آدمية” هذه القاعدة في الواقع تعد امتدادًا للقاعدة الذهبية بألا نفعل بالآخرين ما لا نرغب أن يفعلوه بنا.
ويؤكد كونج أن هناك أربعة توجيهات موجودة في التقاليد المختلفة، الأول هو التوجيه القديم بعدم القتل: لا للقتل العمدي، لا تعذب، لا تصب أحدًا بجروح، والثاني: لا تسرق أو تستغل أو ترتشِ، أو تفسد، والثالث: وهو يعد أمرًا هامًا بشكل خاص للسياسيين، ألا نكذب، ألا نخدع، ألا نزيف، ألا نتلاعب، أخيرًا: ألا تستغل جنسيًا، لا تغش، لا تذل، لا تهن، بصورة أخرى “أن يحترم ويحب كل منا الآخر”.
عولمة الأخلاق
يؤكد هانس فيما يتعلق بضرورة وجود أخلاق عولمية، أنه إذا كنا بحاجة إلى عولمة الاقتصاد والتكنولوجيا والاتصالات، فنحن كذلك في حاجة ملحة إلى عولمة الأخلاق، والأخلاق هنا ليست الأخلاقيات بمعناها المنظومي، أي نظام أخلاقي خاص، ولكن نعني أننا نحتاج لأخلاق بمعنى قناعة داخلية أخلاقية وسلوك أخلاقي، فمن المهم جدًا بالنسبة للجيل الأصغر أن يتعلم تلك المبادئ في الحال، إذا كنا نريد ألا يكون هناك المزيد من الجرائم، ومن الفساد، ومن الأشياء البغيضة.
ويضيف كونج أن الجميع يقر بما اعتبره المهاتما غاندي الخطايا السبع للإنسانية، والتي يمكن التغلب عليها على أساس الأخلاق العولمية، وهي السياسة بدون مبادئ، والثروة بدون عمل، والاستمتاع بدون ضمير، والمعرفة بدون شخصية، والأعمال بدون أخلاقيات، والعلم بدون إنسانية، والدين بغير تضحية.
ويصل كونج من ذلك إلى أنه “لن يكون هناك سلام بين الدول بدون سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان بدون حوار بين الأديان، ولن يكون هناك حوار جاد بين الأديان بدون معايير أخلاقية مشتركة”. ويعتقد كونج أن المجتمع الدولي يمر بحالة من العداء الشديد، وأنه لمواجهة التهديد المهلك لكل البشرية، بدلا من بناء جسور جديدة للكراهية والانتقام والعداوة، ينبغي أن نهدم حوائط التحيز صخرة وراء أخرى، وبهذا نكون قد أرسينا بناء معابر للحوار.
فبالرغم من الاختلاف بين الأديان الثلاثة الكبرى، واختلاف النماذج المتنوعة التي تتغير عبر القرون، فإن هناك ثوابت على المستوى الأخلاقي تجعل من بناء مثل ذلك المعبر أمرًا ممكنًا.
وظيفة الأخلاق العالمية
تساءل كونج: “ألا تزال لدينا قيم عالمية؟ أجل لدينا، ولكننا لا يجب أن نعتبرها أمرًا مفروغًا منه، ينبغي التفكير فيها مليا.. ينبغي الدفاع عنها.. ينبغي أن نقوم بدعمها وتقويتها.. وأخيرًا ينبغي أن نجد بداخل أنفسنا الإرادة لكي نحيا بتلك القيم التي نعلن عنها، في حياتنا الشخصية، في مجتمعاتنا المحلية والقومية، في العالم بأسره”.
ويضيف أن هناك مجموعة من التحديات التي تمثل عقبة في طريق الحوار البناء، مثل صدام الحضارات والتهديدات الإرهابية وغيرها، وهذه التحديات لن يتم التغلب عليها إلا من خلال مجموعة من المبادئ يمكن تلخصيها في عدة نقاط هي: “لن تكون هناك استمرارية للإنسانية بدون تحالف بين المؤمنين وغير المؤمنين بشكل متبادل”..”لن يكون هناك سلام بين الحضارات بدون سلام بين الأديان”..”لن يكون هناك سلام بين الأديان بدون حوار بين الأديان”..
أخيرًا “لن يكون هناك نظام عالمي جديد بدون أخلاق عالمية، أخلاق عولمية بالرغم من الاختلافات العقائدية؛ أخلاق جديدة ملزمة وموحدة لكل الإنسانية، بحيث يتضمن ذلك الدول وهؤلاء الذين يمتلكون السلطة، أخلاق تتسع برحابتها لكل الثقافات والأديان”.
أما وظيفة الأخلاق العولمية فإنها ليست أيديولوجية أو بنية فوقية، كما أنها لن تجعل من الأخلاق الخاصة بالأديان والفلسفة المختلفة أمرًا غير ضروري؛ بمعنى أنها لن تكون بديلا للتوراة، أو القرآن، أو تعاليم بوذا، أو مقولات كونفوشيوس، فالأخلاق العولمية ليست إلا الحد الأدنى من القيم والمعايير والسلوكيات المشتركة بين البشر، بكلمات أخرى..
ولا يرى كونج أن ذلك يمثل مشكلة، خاصة بعد الانتشار الكبير لفكرة الأخلاق العالمية، ليس فقط في نطاق علم اللاهوت، والفلسفة والتعليم، ولكن أيضًا في مجالات السياسة الدولية والاقتصاد العالمي، وأشار إلى أنه لكي يحدث ما ينادي به فلا بد من تغيير وعي الأفراد، وهذا ما لن يحدث إلا من خلال إيقاظ قوانا الروحية من خلال التأمل، الصلاة، أو التفكير الإيجابي، من أجل التحول المنشود للقلب.
الإسلام رمز الأمل
ينهي كونج حديثه عن الأخلاق العولمية بفصل خاص عن الإسلام، حيث يرى أن الإسلام أساس الأخلاق العالمية، وأن هناك العديد من المجالات التي تتطلب إطارًا أخلاقيًا مثل السياسة والاقتصاد والقانون والعلوم، وهذه المجالات تتوافر لدى كافة الأديان، وبشكل خاص الإسلام، فعلى الرغم من إساءة استخدام الإسلام من قبل البعض، فإنه يستطيع أن يمنح مثل هذه الأخلاق العالمية أساسًا متينًا والإعلان عنها بطريقة مقنعة.
ويضيف أن الإسلام يمكن أن يلعب دورًا كبيرًا في إنقاذ البشرية من الهلاك، حيث إنه يمكن لقناعة إسلامية تتوافر لديها حساسية لمتطلبات الزمن أن تساعد الناس في اكتشاف الذات، وتقرير المصير، كما أن للإسلام دورًا في منع الناس من أن يتعاملوا مع بعضهم بصفاقة، وخلص أن الإسلام المعاصر لن ُيدين بشكل متسرع الحداثة، ولكنه يؤكد وجهها الإنساني، وفي الوقت ذاته سيتجنب العوائق اللاإنسانية والمؤثرات المدمرة للحداثة.
ويرى كونج أنه بالرغم من التحديات والمشاكل التي يواجهها الإسلام، والتي تجعله في مرتبة ثانية مقارنة بما هو عليه حال الغرب، فإن الإسلام -وعلى عكس الأديان الأخرى- يمكنه أن يلعب دورًا بارزًا في حل العديد من المشاكل الإنسانية، ويؤكد أن الإسلام أساس الأخلاق العالميةويضرب لذلك مثلا وهو دور الإسلام في حال مشكلة الانفجار السكاني، فقد استطاعت إيران الإسلامية بعد أن زاد عدد سكانها سبعة أضعاف من 9 ملايين إلى أكثر من 63 مليونا، تمكنت القيادات الدينية الإيرانية من ضبط معدل النمو السكاني، وخفضه من 3.4% بعد ثورة 1979 إلى أقل من 2.1% عام 2003، على عكس حال تركيا العلمانية التي لم تتمكن من تحقيق النجاح الذي حققته إيران في هذا الصدد، بسبب قياداته الدينية.
وخلص كونج إلى أن ليس الإسلام أساس الأخلاق العالمية، فحسب بل أن الإسلاام لديه مصادره الخاصة التي يمكن أن يسهم بها ليس فقط في التغلب على المصاعب والقضايا المركزية في الحياة، ولكن أيضًا في حل المشكلات الكبرى للعالم، ويضيف كونج أنه بالرغم من كل الإدانة الموجهة للإسلام بسبب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإنه يجب ألا نسمح لتلك الهجمات أن تثير صدامًا بين الحضارات، حيث يقع الملايين من البشر ضحايا لمعركة بين إطارين نظريين “الإسلام” و”الغرب”، ومن ثم لا ينبغي أبدًا إدانة أي ديانة أو نظام أخلاقي بسبب السقطات الأخلاقية لبعض متبعيه.
أسامة نور الدين – باحث مصري5>