حفظ التاريخ أسماء عزيزة لسيدات فضليات من زائرات البيت الحرام في موسم الحج، كانت زيارتهن لبيت الله مصدر خير ويمن، لأن الشعور الديني النبيل قد حملهن على أن يكن ذوات أثر طيب يبقى حديث الأجيال من بعدهن، والمرأة إذا كانت مؤمنة صادقة الإيمان، ووجدت في يدها سعة من الرزق فإن عاطفتها الدينية تدفعها إلى أن تقوم بما يشبع هذه العاطفة برًّا وفضلاً.

وبعض الكاتبين المؤرخين لا يروق له أن يتحدث عن هذه المآثر، دون أن يعقب عليها بما يحسبه تحليلاً نفسيًّا لإرضاء النزعات الشخصية، ومرحبًا بهذه النزعات الشخصية إذا أثمرت خيرها في حقل المعروف، فأتت كل لون بهيج، وخير لنا أن نبارك هذا التيار ليكون قدوة دائمة للخالفين عن السالفين، من أن نظهر البراعة في تسجيل مبررات لا نملك دليلها الأكيد.

إن الواقع المشهود يسجل أن بعض الفضليات قد قمن بمآثر جليلة، أدت إلى خير العامة وأرسلت الألسن بالدعاء، ومن حق هؤلاء على التاريخ أن يرصد ما فعلنه ابتغاء مرضاة الله، مما تردد صداه في الصفحات على مر العصور.

وأوضح أني لا أحاول حصر هؤلاء الفضليات، فهذا ما لا يقوم به فرد واحد، أو يستقل به كتاب مفرد، ولكني أضرب الأمثلة مما قرأت متذكرًا قول القائل: وإذا فاتك التفات إلى الماضي فقد غاب عنك وجه التأسيس.

زوجة المهدي

من زائرات البيت الحرام في موسم الحج وأول ما أذكر من هؤلاء الفضليات الخيزران زوجة أمير المؤمنين المهدي الخليفة العباسي، فقد كانت سيدة جليلة القدر في قصر الخلافة أيام المهدي، وكان لها رأيها الحاسم في تصريف كثير من الأمور؛ إذ كان زوجها الخليفة يرجع إليها مستشيرًا فمنفذًا ما توحي به، وقد سجلت في صحيفة أعمالها طرائف زاكية من أعمال البر تتجه إلى إنشاء المساجد، ورعاية الأيتام، ثم رأت أن تحج بيت الله الحرام فتهيأ لها من الموكب الحاشد ما يناسب قدرها العظيم زوجة لأمير المؤمنين، وقد حملت من بغداد من طرائف الغذاء والكساء وبدرات المال، ما كان حديث الرائح والغادي في الموسم المشهود.

ثم بدا لها أن تقوم بعمل تاريخي، يضمن لها حسن الأحدوثة؛ إذ سألت عن دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وهي أول دار اجتمع فيها المسلمون لأداء الصلاة بعيدًا عن أنظار المتربصين، وكانت تعلم أن أبا جعفر المنصور اشتراها من حفدة الأرقم بمال كثير بذله في إرضائهم كي يتنازلوا عنها، ولكنها بقيت على حالها دون عمارة ما، في عهد المنصور فأرادت أن تحلها المحل اللائق بمنزلتها كأول معهد ديني في الإسلام، فاشترت ما حولها من الدور، وأحاطتها بسور متين، وقد كتب اسمها في لوحة تسجل مأثرتها، فكان الناس فيما بعد يسمونها دار الخيزران، ثم توالى تجديدها من بعد ذلك.

وحين تركت الخيزران مكة قاصدة المدينة المنورة لزيارة صاحب الروضة الشريفة (صلى الله عليه وسلم) رأت أن تكسو الحجرة الطاهرة بستائر حريرية مرصعة بالألوان الزاهية، وهي أول من كسا الحجرة الشريفة، وفرقت كثيرًا من الصدقات بهذه المناسبة، وأرضت شعورها الديني بما قدمت به في مكة والمدينة من أعمال.

زبيدة زوجة الرشيد

إن حديث “عين زبيدة” التي فجرتها السيدة الفاضلة في مكة مما تواتر ذكره، وقد تردد في كتب التاريخ بأسلوبها التقريري، ولكن الأستاذ عبد الله عفيفي مؤلف “المرأة العربية” قد كتب عنه كتابة حية كاشفة حين قال في الجزء الثاني من كتاب “المرأة العربية”: “لم يكن لأهل مكة من المناهل إلا المسايل يجود بها المطر أحيانًا، وبعض الآبار التي تفيض آنا وتجف آنا، فإن جفاهم الغيث عامًا اشتد البلاء، أما الحُجاج فكانوا يحتملون من قرب الماء ما يئودهم ويوقر صدورهم، وقد أخذ بقلب السيدة زبيدة زوجة الرشيد ما علمت في حجها من أن راوية الماء تباع بدينار، وأن الفقير إنما يتبلغ بما يتساقط من قطرات الغني فاعتزمت أن تحفر لآل مكة، ولقصاد البيت الحرام نهرًا جاريًا، يتصل بالماء وبمساقط المطر، بالغًا من بعد الشقة ووعرة الطريق ما بلغت مساحته، ولم يسنح بخاطر أحد منذ عهد إسماعيل -صلوات الله عليه- حتى عهد زبيدة مثل هذا الخاطر الوثاب، خاطر إجراء نهر بين شعاب مكة، بل ولم يتمنه متمن؛ لأنه أبعد من حد التمني.

أما زبيدة التي تحكم على خراج الدولة الإسلامية

فقد اعتزمت أن تجري هذا النهر مهما بلغت نفقاته. دعت خازن أموالها وأمرته أن يدعو العرفاء والمهندسين والعمال من أطراف الأرض، ليُحفر النهر فاستعظم خازنها الأمر وما سيستنفد من المال فيه، فقالت له تلك الكلمة الخالدة: اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارًا، فأذعن وساق إلى مكة أهل الكفاية من كل مهندس وعامل، فأخذوا يصلون منابع الماء في شفعات الجبال، ويظاهرون ذلك بما يحتفرون من الآبار وما يعمقون من المسايل ثم يغلغلون ذلك بين أعطاف الصخور تارة وفي أعماق الأرض طورًا، حتى ينتهي ذلك إلى النهر الذي احتفروه.

وأهم ما اعتمدوا عليه عين حنين في جبال “طاو” إلى الشمال من عرفة، وعلى مدى خمسة وثلاثين كيلومترًا من مكة أعزها الله، ثم ظاهروا ذلك بمجرى آخر، من وادي النعمان، من مسايل جبال كسرى إلى الشرق والجنوب من عرفات على مدى عشرة كيلو مترات منها، وعززوا المجريين بعد ذلك بسبع أقنية تتبعوا فيها مساقط السيل، فسار ذلك كله في ممر عظيم بين الصخور حتى إذا انتهى إلى “منى” انحدر في خزان عميق نقروه لذلك في الجبل وسموه “بئر زبيدة”، ومن هناك يسير الماء في فرعين يذهب أحدهما إلى عرفات، وينتهي الآخر إلى مسجد نمرة، ولكيلا يأسن الماء صُرف ما فضل منه من ري الظمأ إلى بركة “ماجن” بالمسفلة، وزرع حولها الزهر والثمر. وهذا العمل الخارق في بابه لا يحتاج إلى تعليق.

الملكة خاتون والأميرات أم عز الدين وابنة الدقوس

لا تُعنى كتب التاريخ العام كثيرًا بتسجيل رحلات الحاجَّات والحاجِّين إلى بيت الله، وبذلك ضاع المفيد الجيد من أخبار هذه الرحلات، ولكن كتب الرحلات قد أنقذت من الضياع مواقف نبيلة لمن تكبدن المشاق في سبيل الله سعيًا وإنفاقًا وبذلاً للمعروف.

وقد تحدثت رحلة ابن جبير الأندلسي فيما تحدثت عن ثلاث سيدات كريمات من البيت السلجوقي الشهير. من زائرات البيت الحرام في موسم الحج، حيث قمن بالحج أثناء مقدم ابن جبير، فكشف عن مآثر فاضلة قمن بها عن أريحية ماجدة، وتقى عظيم، هن الملكة خاتون بنت الأمير مسعود السلجوقي. والأميرة “أم عز الدين” صاحب الموصل، والأميرة ابنة الدقوس صاحب أصبهان، وكلهن صاحبات فضل غامر، ومنافسة كبيرة في أعمال البر، ويقول صاحب الرحلة: “إن شأنهن جميعًا عجيب فيما قمن بسبيله من أعمال الخير”.

أما الملكة خاتون فقد كانت في مفتتح شبابها، ولكنها ذات صلاح وإيمان، فقد حرصت على أن تصلي بين القبر والمنبر، ومن فوقها المحفة المانعة لرؤية الناس لصلاتها، والعامة يتزاحمون على مشهدها والحراس يدفعونهم عن ساحتها، ثم مشت إلى الجهة الغربية من الروضة المكرمة فقعدت في مكان قيل عنه إنه كان مهبط جبريل -عليه السلام-، وأرخي الستر عليها، وقد علمت أن صدر الدين الأصبهاني رئيس الشافعية سيلقي درسًا دينيًا، وعظة خلقية فانتظرت حتى سمعت الدرس.

ويقول ابن جبير عن تأثير هذا الواعظ: “إنه أطار النفوس خشية ورقة، وتهافت عليه الأعاجم يعلنون التوبة، وقد طاشت ألبابهم وذهلت عقولهم!! إلى حديث ممتد يدور هذا المدار، ثم التقت بصاحبتيها وهما تكبرانها سنًا ولهما جلالة وهيبة، فتنافسن كلهن في إسداء ما بأيديهن من المال على كثرته، وفرح بهن ذوو الحاجات فرحًا لا يحد، إذ أعطين ما فاق حد الآمال، ولعل الأميرة الشابة كانت أكثرهن هبات، إذ اختصها الرحالة بوصف جيد”.

ولم تقتصر سعادة الحجاج بهن على مكان الحرم الشريف، بل تعدى ذلك إلى طريق الرحلة الممتدة من الحجاز إلى الموصل فأصبهان، حيث لاذ بهن الحجاج خائفين من هجوم قطاع الطريق، وما كان أكثرهم في هذا العهد، حيث تمكن الشيطان من نفوسهم فسول لهم إرهاب من سعوا لبيت الله طائعين، فكان موكب الأميرات بكثرة جنوده، وهيبة حراسه، ويقظة أمنائه ستارًا واقيًا، وحمى آمنًا، وكان ابن جبير بين من ساروا في ركب الأميرات، وقد وصف استقبال الموصليين الأميرة “أم عز الدين” وصفًا باهرًا، حيث جللت أعناق الإبل ورقاب الخيل بالحرير الملون والقلائد الثمينة، وجعلت قبة الأميرة مغشاة بسبائك الذهب! “وكان مشهدًا أبهت الأبصار، وأحدث الاعتبار”، ونحن لا نحبذ من هذا الإغراق المسرف في مظاهر الزينة، ولكننا نتحدث عن أمر وقع، ومشهد سجل، ناقدين ما به من إسراف.

الأميرة خناسة بنت الشيخ بكار

ومن زائرات البيت الحرام في موسم الحج أيضا أميرة مغربية هي الأميرة الماجدة “خناسة بنت الشيخ بكار المعفري”، زوجة سلطان عصره بالمغرب، “إسماعيل بن محمد العلوي” المتوفى سنة 1139، وكانت ذات جمال زائع فوقعت من نفس السلطان أجمل موقع، زيادة على اهتمامها بالثقافة الدينية والأدبية معًا، وهو ما جعلها موضع الإعجاب والعجب، والغريب أن كتب المغرب قد أسهبت في تاريخ زوجها السلطان العلوي فأُفردت كتب كثيرة لترجمة حياته، وتسجيل وقائعه، حيث قام في المُلك ستين عامًا، وهو أمد طويل اتسع لأعمال حربية، واتساع عمراني كبير، ولكنها لم تكتب عن هذه السيدة المثالية ما يشفي الغلة وسارت سيرتها مطوية حتى ظهر مخطوط الإسحاقي في خزانة القرويين يتحدث عن أمجادها الكثيرة.

ومما قاله عن رحلتها إلى الحج ما أنقله عن مجلة المنهل، حيث نقلت المجلة عن مخطوط الإسحاقي قوله: “إنها آثرت أشراف ينبع بعطاياها الفاخرة، وهدايا سنية لم يعرفوها من ذي قبل، وكستهم أنواع الثياب الرفيعة علاوة على المبالغ النقدية الذهبية الباهظة، كما روي عنها أنها أغدقت خيراتها على سائر رجال العلم والفضل بمكة المكرمة ليلة فتح البيت المبارك خصيصًا لها من لدن شريف مكة، الأمر الذي ظل أحدوثة ينعت بها المغرب على الدوام وقد دفعها حب الخير إلى اقتناء عقار بمكة يقع في أشرف بقعة بما يناهز الألف مثقال من الذهب، حبستها على جماعة من المقربين والطلبة، وكتب بذلك حجة للمعنيين بالأمر، وعينت ناظرًا يسهر على ريع الوقف وتوزيعه.

وقد أنشد شعراء مكة قصائد كثيرة بهذه المناسبة”. وما نقل عن الإسحاقي سطور تحتج إلى بسط في عدة صحائف، وقد قال الزركلي في الأعلام: “إنها حجت عام 1142 فعمت الناس بعطاياها حتى بلغ ما أنفقته في حجتها مائة ألف دينار، كما ذكر أن لها علمًا بالفقه والأدب، وهذا ما جعلها موضع مشورة زوجها السياسية إذ كانت تشاركه على مسرح الأحداث وتبدي من الآراء ما يكون موضع الاحتفاء والتنفيذ”.

ولا أنسى أن أشير إلى رحلة “أم المحسنين”، أم الخديوي عباس الثاني إلى مكة مصاحبة ولدها الخديوي في موكب حاشد، فقد كان لها موكب خاص يحفل بسيدات البيت الحاكم من الأميرات والنبيلات، وبذلت من العطاء ما عناه أحمد شوقي حين قال:

أقلت علاها في خباء من القنا   ***   هوادج كالإيوان ذي الشرفات

تجل نساء المسلمين ثناءهـا  ***     ويبطن راح الحمد مبتهلات

أخذن بتقواها وسرن بهديها   ***     ومنها علمن البر والصدقات

مواكب لم تعهد بغير زبيدة    ***    ببغداد في الأعياد والجمعات

أعادت حديث الخيزران وعزها  ***   وما أغدقت من أنعم وهبات

إن من الوفاء أن نسجل للفاضلات فضلهن، إذ قمن به في أشرف مكان، فصدرن عن إيمان واثق، وكرم نبيل، وما أشرت إليه في هذا المقال قليل من كثير.


الدكتور محمد رجب بيومي