ظهر في السنوات الأخيرة كم هائل من الدراسات والأبحاث التجريبية المنضبطة التي تشير جميعها إلى أن السلوك الإنسان لا يتغير من خلال التوجيهات والنصائح أو كثرة الوعظ والكلام عن القيم النبيلة والفضائل والآداب الرفيعة فقط. فماذا نعرف عن منهج الرسول ﷺ في تغيير السلوك والعادات؟
بالرغم من أهمية هذه النصائح والتوجيهات فإن أثرها الفعلي في تعديل التفكير وتغيير الاتجاهات والسلوك يظل محدودًا ما لم يرتبط بتطبيقات عملية وأنماط سلوكية تستمر لفترات طويلة، وتدعم من البيئة المحيطة لضمان تكرارها وتثبيتها؛ حتى تتحول إلى عادات راسخة في السلوك الإنساني..
ويصدق هذا بالطبع بل ويصبح أكثر إلحاحًا في عصرنا هذا.. عصر السرعة والتعجل والتشويش الذهني الناتج عن تأثير الثقافات والسلوكيات الواردة إلينا من الشرق والغرب، وحالة عدم التوازن وفقدان القدرة على تحديد الأهداف ومواصلة السعي لتحقيقها التي أصبحت أيضًا من العوامل التي تؤكد على أن التغيير الإيجابي المنشود لن يأت أبدًا من خلال الخطاب الوعظي أو التوجيهات الصارمة أو العلوم والمحفوظات النظرية المنفصلة عن الواقع والتي تجعل الناس تعيش في منظومة لانهائية من الازدواجيات والتناقضات.
إن السلوك والعادات لا تستقر وتستمر إلا من خلال أساليب وتطبيقات عملية قادرة على تحويل المعاني والمفاهيم الأخلاقية إلى أنماط ثابتة من السلوك تقوم على مفاهيم وأفكار إيجابية يحرص المجتمع على مكافأتها وتدعيمها حتى تتأصل وتستمر.
إن ما يسمعه الشباب من نصائح وتعاليم مرسلة وخطب نارية يتبخّر من الذهن بعد دقائق تحت تأثير التشويش الذهني وزحام الحياة وضغوطها .. وارتباك التفكير وتداخل القيم وعدم وضوح الأهداف والرؤية المستقبلية، وفيضان المثيرات التي يراها الناس في الفضائيات، والصراعات التي يعايشونها على أرض الواقع.
لذلك فإن تعديل التفكير والتخلص من الأفكار السلبية والانهزامية الهدامة، وكذلك تعديل السلوك وتبني أنماط وعادات صحية وإيجابية راسخة ومستمرة لن يحدث إلا من خلال التحول من الثقافة الوعظية وعلوم الكلام وفلسفة الأخلاق إلى التدريب والتطبيق العملي لعلوم سلوكية إسلامية عصرية وتطبيقية جديدة.
النماذج السلوكية في القرآن والسنة
ولقد اشتمل القرآن والسنة النبوية الشريفة على عدد هائل من هذه النماذج السلوكية العملية والتطبيقات العملية في كيفية التصرف في مختلف نواحي ومواقف الحياة وتحت مختلف الضغوط والظروف النفسية والاجتماعية، مما يفرض علينا ضرورة دراسة وتحليل هذه النماذج والمهارات السلوكية والتدريب عليها، بل وضرورة تأسيس علوم جديدة في فقه السلوك تهتم بدراسة تلك الأساليب السلوكية وتطويرها لتتناسب مع العصر وظروفه، وأن يكون ذلك وفق مناهج التفكير العلمي التجريبي.
مع الاستفادة من علوم النفس والطب النفسي والاجتماع وبحوث التعلم وعلوم النفس المعرفية وقواعد العلوم السلوكية والتي من أهمها التدرب في تعديل السلوك واستخدام أسلوب المكافأة والتدعيم وغيرها؛ لتثبيت السلوكيات المرغوبة والعادات الإيجابية.
ولقد وردت النماذج السلوكية العظيمة التي قدمها الرسول ﷺ في مواقف الحياة المختلفة في السنة وفي تراثنا الديني.
وجميعها تحتاج إلى إعادة دراستها وعمل نوع من الحفريات السلوكية التي تهتم بتحليل ودراسة السلوك ومهاراته ولا تتوقف عند النص اللفظي أو التعاليم والحكم اللفظية المرسلة، بمعنى أن لا يقتصر اهتمامنا على الحديث وألفاظه -رغم أهميته البالغة- بل على السلوكيات والتصرفات بمهاراتها وخطوات ممارستها تبعًا لكل الظروف المحيطة بها.. وهناك العديد من أساليب تعلم السلوكيات المختلفة وتثبيتها والاستفادة منها، مثل التعلم عن طريق النمذجة (التعلم من النماذج الضمنية) والتكرار والمحاكاة وأساليب الضبط الذاتي وغيرها..
وضمن منهج الرسول ﷺ في تغيير السلوك والعادات، قدم الرسول عليه السلام نماذج عملية حية ذات طبيعة تعليمية تسمى في علم النفس بالنماذج الضمنية، وتعتبر أحد أساليب تعديل السلوك في علم النفس الحديث.
ولا شك أن العديد من الدراسات والأبحاث التجريبية الحديثة تؤكد أن سلوك الإنسان لا يتغير بمجرد الاستبصار أو العلم بسبب المشكلة -كما كان يعتقد فرويد ومدارس علم النفس التقليدية-.
وأن التوجيه والنصح والوعظ أو التعاليم المرسلة -رغم أهميتها- لا تكفي لتعديل السلوك وتثبيت السمات والأنماط السلوكية الجديدة، وأنه قد آن الأوان إلى التحول من الثقافة الوعظية إلى الأساليب العصرية التطبيقية، فتغير السلوك شيء صعب واكتساب بعض السمات والعادات أكثر صعوبة، ولقد قدم الإسلام مجموعة من الأساليب الفعّالة في هذا المجال تتفق مع الأبحاث الحديثة ومع آراء علماء معاصرين، فقد أشار الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه “إحياء علوم الدين” إلى عدة أساليب وردت في تراثنا الإسلامي لتعديل السلوك، واستخدم لفظ رياضة النفس ليؤكد على أهمية التدريب العملي المستمر لاكتساب وتثبيت السلوكيات المرغوبة: فعلى سبيل المثال يوضح كيفية السيطرة على الغضب وتعلم الحلم والصبر من خلال التدريب الذي يبدأ بالتكلف والافتعال -إذا لزم الأمر- لفترة زمنية كافية مصداقًا للحديث الشريف “إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم”؛ حتى يصبح جزءًا من المنظومة العصبية والسلوكية للفرد.. ويتطلب ذلك الالتزام بخطوات متدرجة تصاعديًّا، مع التقيد الصارم بنظام محكم ومتواصل.
النماذج العملية للرسول ﷺ
ومن النماذج العملية التي قدمها الرسول ﷺ لتزكية المهارات الاجتماعية والتواصل الاجتماعي الذي يدعم التوافق الاجتماعي والصحة النفسية.. أنه ﷺ كان يبدأ من لقيه بالسلام وبوجه بشوش، وكان إذا لقي أحدًا من الصحابة بدأه بالمصافحة، وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته.. وكان يعطي كل من جلس إليه نصيبًا من وجهة، أي من النظر إليه والاهتمام به.. وكان في كل سلوكه يتسم بالحياء والتواضع.. كما كان أكثر الناس تبسمًا وضحكا في وجه أصحابه.
لقد كان محبوبًا يلتف الناس حوله ويتعلقون به.. فصدق فيه قول العزيز الحكيم: “فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك” (آل عمران: 159).
وقال تعالى: “فاعفوا واصفحوا” (البقرة: 109).
وقال تعالى: “وقولوا للناس حسنًا” (البقرة: 83).
كما كان الرسول ﷺ يردد في أكثر من موقف “تبسمك في وجه أخيك صدقة”.
لذلك ننصح كل شخص أن يزكي في نفسه هذه الصفات:
أن يبتسم في وجه الآخرين.. وهناك مقولة في الغرب تقول “إذا أردت أن تعيش سعيدًا.. فقط ابتسم في وجه من تقابله”.
أن يكثر من إلقاء السلام وتحية الآخرين وأن يبدأ بالمصافحة.
أن يعطي اهتمامه لكل من يجلس إليه أو يتحاور معه.
أن يكون عطوفًا ليّن القلب في تعامله مع الناس.
أن يقول للناس قولاً حسنًا، ولا يكن غليظ القلب أو القول.
أن يدرب نفسه على التسامح والصفح والعفو باستمرار، فهي أهم مفاتيح السعادة والنجاح والصحة النفسية.
رامز طه – استشاري في الطب النفسي